كلمة صريحة إلى الرئيس الأسد


ليت الرئيس بشّار الأسد لم يفسّر "على هواه" الأسباب التي أدّت الى عدم قيام دولة مؤسسات في لبنان.

وليته كذلك لم يدخل في التفاصيل كي لا نضطر الى أن نردّ عليه بصراحة كلية، احتراماً لعقول الناس وكراماتهم داخل لبنان وخارجه! وكلامه على عدم قيام دولة مؤسسات في لبنان يستحق سؤالاً: هل يريد الرئيس الأسد أن نصدّق فعلاً أن الشعب اللبناني هو من يقف ضد قيام دولة القانون والمؤسسات، ويمنع لبنان من ان يشعّ مجدداً بنشر رسالته في العالم باسم حوار الحضارات والديانات، وباسم حرية وديموقراطية دافع عنهما وقدّسهما؟

وهل يريدنا الرئيس الأسد أن نصدّق فعلاً أن الشعب اللبناني هو من اتخذّ القرار الجهنمي بإلغاء لبنان، وضرب كيانه، وشطبه من الخريطة، وتحويله مزرعة أو قطراً تابعاً، أو أرضاً سائبة برسم البيع أو الإيجار؟

لا يا سيادة الرئيس. فالشعب اللبناني كان دائماً مصراً على قيام دولة قوية، مبنية على مؤسسات تحترم القوانين وتعتمد الديموقراطية والحرية أساساً لنظامها السياسي، وبحيث يكون الشعب وحده مصدر السلطات.

لقد كان الشعب مصراً دائماً وأبداً على بناء دولة عصرية، يتخطى دورها حدودها الجغرافية. دولة تكون نموذجاً لدول المنطقة بل لدول العالم أجمع، في التعايش والحوار واحترام حقوق الإنسان.

فالشعب اللبناني كان دائماً شعباً مسالماً ومصلحاً ومصالحاً ومنفتحاً حتى انه دفع ثمن طيبة قلبه وانفتاحه، ولا لزوم هنا للتذكير بما حصل مثلاً مع الفلسطينيين الذين استقبلهم على أرضه !

وبقلب مفتوح نقول لك يا سيادة الرئيس الأسد وسبق لنا أن خاطبناك في أوّل كتاب مفتوح وجهناه إليك عام 2000 كما نقول لمبعوثك السفير وليد المعلم الذي أطل علينا بالكلام الخشبي السوري نفسه الذي يدعي ان سوريا لا تتدخل في الشؤون اللبنانية، فيا للسخرية والاهانة لعقول الناس بينما الحقيقة ان سوريا تضع يدها كلياً على الطبقة الحاكمة اللبنانية وتديرها كما تشاء. نقول لك يا سيادة الرئيس أن الوقت قد حان لمصارحتك الآن أكثر من أي وقت مضى، خشية أن يأنبنا ضميرنا ذات يوم أو تحاسبنا الأجيال الطالعة على عدم مصارحة بعضنا البعض، لأن المصارحة وحدها تصحح الأخطاء وتمحو الخطايا وتوفّر علينا جميعاً المزيد من الكوارث.

سيادة الرئيس، لا يمكن أن نصدّق أن في سوريا سياستين، واحدة يرسمها النظام، وأخرى ترسمها أجهزة المخابرات. فالجميع يعرفون أن سوريا تعتمد نظام الحزب الواحد حيث تشكل المخابرات أساساً لادارة شؤون البلاد، في غياب أي دور للمؤسسات، كما هي الحال في الأنظمة الديموقراطية. لذلك يستحيل تحميل أجهزة المخابرات وحدها مسؤولية تردّي العلاقات اللبنانية السورية، وكل الشواذات التي حصلت ولا تزال منذ عام 1976، وربما من قبل.

فالنظام السوري كونه نظاماً أمنياً في الدرجة الأولى، يتعذّر الفصل فيه بين الأمن والسياسة. لأن الأجهزة الأمنية هي أساس السلطة السياسية وذلك خلافاً لما هو قائم في الأنظمة الديموقراطية.

ومن المستحيل التصديق أن النظام السوري لم يكن على علم بممارسات أجهزة مخابراته في لبنان طوال ربع قرن وأكثر، وبالتحديد طوال ثلاثين عاماً من "الوجود السوري" أو "الاحتلال"، وأن تصحيح هذا الخلل أو هذه "الغلطة" غير المقصودة سيتم فقط من خلال نقل مسؤولية "الملف اللبناني" من المخابرات الى وزارة الخارجية!

وبصراحة نقول لك يا سيادة الرئيس إن المشكلة أعمق من ذلك بكثير وحلّها متوقف على قرار نهائي للنظام القائم في دمشق، ويقضي بأن تتنازل سوريا عن حلمها بضم لبنان إليها، سواء جغرافياً أو سياسياً، على نحو مباشر أو غير مباشر لأن لبنان في نظرها لا يستحق أن يكون وطناً ينعم فيه أبناؤه بالسيادة والإستقلال، لأنه نشأ، في نظر بعض السوريين، نتيجة "خطأ" تاريخي في معاهدة سايكس بيكو!

ولهذا السبب استُهدف لبنان، وكانت العلاقات اللبنانية السورية في حالة توتر دائم يحوطها جو من انعدام الثقة المتبادلة. أضف الى ذلك إصرار لبنان على نظامه الديموقراطي ودفاعه الشرس عن حرياته، على اختلاف أنواعها، مما شكّل خطراً مباشراً على كل الأنظمة في المنطقة بما فيها النظام السوري التي كانت ترفض الديموقراطية وتتباهى بالديكتاتورية! ولهذا السبب كمنت سوريا للبنان، تتحيّن الفرصة المناسبة لضربه، وتخريب استقراره.

ولا حاجة بنا هنا للعودة الى الماضي القريب وصوره البشعة، وكيف ساهمت سوريا، وقوى أخرى بعضها حليف لها، في ضرب المؤسسات اللبنانية من طريق مبدأ فرّق تسد، داخل الدولة والأحزاب وحتى العائلات اللبنانية، في وقت كان الشعب اللبناني يطمح الى بناء دولة عصرية تقوم على القيم الأخلاقية والمبادئ الإنسانية، واحترام الحريات، بل تقديسها. دول تتمثل بها كل دول المنطقة اذا ارادت فعلاً ان تخرج من انحطاطها وكوابيسها التي تسببت بها أنظمتها القمعية وغير الديموقراطية.

ولا ينسى اللبنانيون كيف كانت تنسف، خلال الحرب، وبسحر ساحر، كل محاولات المصالحة والتقارب والحوار في ما بينهم.

فقد كان ممنوعاً عليهم التلاقي والتحاور والمصارحة... حتى تستمر الحرب والقتل والدمار والخراب، بغية جعل الوطن ينهار والشعب يستسلم لأي أمر واقع تفرضه عليه سوريا التي كانت دائماً تصر على عدم اقفال ما يسمى "الملف اللبناني" في انتظار حل قضية الشرق الأوسط، والتي كانت دائماً تفرض نفسها من خلال اشعال الفتن والخلافات مستفيدة سياسياً ومالياً واقتصادياً من وجودها في لبنان، اضافة الى محاولتها تنفيذ حلمها الكبير.

ولا لزوم هنا، يا سيادة الرئيس، لتحميل الطاقم السياسي اللبناني الحاكم مسؤولية كل ذلك، لأنك تعرف حق المعرفة، كما نعرف نحن والعالم أجمع، ان هذا الطاقم ليس سيد نفسه وهو مدين لكم بوضعه في سدة المسؤولية كي لا نقول فرضه على الشعب ورعايته وتأمين الحماية له كل الحماية ساعة كان هؤلاء السياسيون يمعنون هدماً في لبنان السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وحتى الثقافي!

فمن تراه ساهم في قطع الطريق على كل المصالحات والمبادرات الداخلية والخارجية، أعربية كانت أم دولية، والتي كانت تهدف الى وضع حد للحرب؟

ومن عطّل إرادة الشعب في التغيير؟

ومن غطّى، كي لا نقول رعى، عملية الإجهاز على طبقة سياسية تميّزت بنوعيتها ومستواها العالي وقواعدها الشعبية، لإحلال طبقة هجينة مكانها، فاقدة الأهلية ومسيّرة وموجهّة من الخارج؟

ولا نجد ضرورة الى السؤال عمّن وقف وراء كل الاغتيالات التي شهدها لبنان منذ عام 1976 اغتيال زعماء سياسيين ورجال دين وصحافيين ومفكرين ورؤساء للجمهورية - مكتفين بالتساؤلات التفسيرية التي أبداها النائب وليد جنبلاط عندما تكلم على اغتيال والده الزعيم كمال جنبلاط.

كذلك لا نجد ضرورة يا سيادة الرئيس للسؤال عن أسباب عدم تنفيذ معاهدة الدفاع المشترك بين لبنان وسوريا وتفعيل هذه المعاهدة، خصوصاً في ظل وجود القوات السورية في لبنان من أجل وضع حد للاعتداءات الإسرائيلية على لبنان في السابق، بما فيها اجتياحا 1978 و1982، ولمنع الخروق البرية والبحرية والجوية الحالية لـ"الخط الأزرق".

وهل يجدي، يا سيادة الرئيس، في تذكير من لم يعد يتذكر أن سوريا قد ساهمت وشاركت مباشرة في كل المعارك والجولات، بمختلف أنواع الأسلحة، بما فيها تلك المعارك التي خيضت مباشرة ضد الشرعية اللبنانية والجيش اللبناني؟ وهذا يعني أن سوريا لم تكن يوماً وسيطاً بين اللبنانيين، بل طرفاً في الحرب على لبنان، مذكّرين باستمرار بوجود معتقلين لبنانيين في السجون السورية.

ولا أظننا في حاجة الى التذكير، يا سيادة الرئيس، بالمافيات المحمية أو الصفقات المبرمجة أو الحصص الموزعة في شركات القطاعين العام والخاص، والعمولات المؤمنة والموزعة بحسب جداول زمنية منظمة ومنتظمة!!!

ولا لزوم أيضاً وأيضاً لأن نذكّر بأن آخر عملية اغتيال لدولة القانون والمؤسسات جرت من خلال التمديد للرئيس اميل لحود قسراً وبشكل غير قانوني وبغطاء سوريا كي لا نقول بإيعاز سوري.

سيادة الرئيس، لا نريد أن يوحي كلامنا أن قلوبنا ملأى بالحقد حيال سوريا أو من انجرّ وراءها في لبنان، إن بالإغراء أو بالاقتناع، لينفّذ سياستها ويخدم مصالحها على حساب مصلحة لبنان وشعبه. كما لا نريد أن يفهم كلامنا أننا لا نبحث فعلاً وحقيقة عن طي صفحات الماضي الأسوَد!

بل كل ما نريده هو عملية مصارحة حقيقية وشاملة لا تصفية حسابات من أجل بناء علاقة متينة وعميقة مع سوريا تبدأ باتفاق تاريخي لبناني سوري ينطلق من وعد وتعهد رئاسي سوري باحترام سيادة لبنان واستقلاله، والتنازل عن حلم ضمّه الى سوريا، وتكريس هذا الوعد وهذا التعهد برسم قانوني ونهائي للحدود بين لبنان وسوريا، بما فيها منطقة مزارع شبعا، لأن سوريا رفضت رسم هذه الحدود ربما منعاً للاعتراف بوجود لبنان واستقلاله.

كذلك المطلوب سحب كل القوى الأمنية والعسكرية من لبنان ورفع الوصاية السياسية والأمنية عنه بوضع حد فعلي وحقيقي للتدخلات السورية في الشؤون الداخلية اللبنانية، بما يحرر القرار اللبناني، ثم العمل الفوري لإقامة علاقات ديبلوماسية رفيعة المستوى بين البلدين والاتفاق على آلية لتنفيذ القرار 1559 الذي يصرّ المجتمع الدولي، ومعه الشعب اللبناني، على تنفيذه، لأن القرار يخدم حقيقة المصلحة اللبنانية.

ردنا يا سيادة الرئيس هو ردّ من القلب صريح وصادق، لا يهدف أبداً الى التوصل الى "بازار" ما بين سوريا والمعارضة أو بين سوريا والمسيحيين على حساب باقي شركائنا في الوطن أو على حساب سيادة الدولة. ان ردنا يهدف الى بناء علاقة متينة بين دولة المؤسسات في لبنان ودولة المؤسسات في سوريا !

كلمة أخيرة: سيادة الرئيس، اللبنانيون، كل اللبنانيين، مؤمنون بأن لبنان هو وطن نهائي لهم ولأبنائهم، يبقى على سوريا أن تقتنع هي بهذا الأمر، فتنحل كل المشاكل العالقة بينها وبين اللبنانيين.


جبران تويني