اغتيال الحريري أكبر من المنطقة وتصريحاتها
مأمون فندي

اغتيال الرئيس الحريري في بيروت حدث أكبر بكثير من التصريحات الاقليمية، أياً كان مصدرها، هو حدث أشبه بغزو صدام للكويت او بقرار الحرب على العراق، يتحدث فيه العرب كثيرا ويطلقون التصريحات يمينا ويسارا، ولكن الأمر وحسمه يبقيان في يد القوى الدولية النافذة، الحريري كان أكبر من المنطقة، وحسم أمره سيكون من خارج المنطقة، ودعك من كل هذا «الفشنك» الذي قد تطلقه الجماعات المختلفة في العالم العربي.
كان الحريري رجلا نافذا على المستوى العالمي، كان صديقا شخصيا لأكبر صناع القرار في العالم، من جاك شيراك الى امين عام الامم المتحدة الى رئيس البنك الدولي الى مراكز القوى في بريطانيا وأميركا، كل هؤلاء الاصدقاء والاقوياء، اخذوا حادث الاغتيال على انه صدمة شخصية لهم، وبذلك يكون تحركهم مدفوعا بهذا الحماس الاضافي الذي يعجل من اتخاذ قرارات سياسية واضحة لمعاقبة الفاعلين لهذه الجريمة البشعة.
ردة الفعل العربية الاولى لم تكن على مستوى الحدث، فقد اعتبر بعض الساسة الأميركيين اتهام اسرائيل في حدث كهذا هو نوع من «المراهقة السياسية ومؤشر واضح بأن العرب لا يريدون تحمل المسؤولية»، هكذا قال وزير أميركي سابق وصديق للرئيس الحريري، سفير أميركي سابق ايضا قال: «ليس لاسرائيل حاجة بقتل العرب ـ كما يدعي الاعلام العربي ـ العرب يقتلون ويصفون انفسهم بأنفسهم». كما قال مسؤول آخر بأن «ردة الفعل العربية الاولية الرافضة للتحقيق الدولي هي استمرار في سياسة اللامسؤولية والمراوغة». واضح ان ردة الفعل العربية الاولى لم ترق الى مستوى الحدث، كما انها لا تحظى بالاحترام العالمي او على الاقل الاحترام الأميركي، ولهذا اقول ان أمر الحريري خرج من يد العرب واصبح شأنا دولياً. بغض النظر عن من قام بهذه العملية، وفي هذا السياق، فإن سورية هي الخاسر الاكبر من هذا الحدث، فالعالم العربي، ظـلما او حقا، أشار بأصابع الاتهام الى دمشق، اتهام ثنائي صعب ان تخرج منه سورية سليمة، فهي ان لم تكن الفاعل، فعلى الاقل هي تعلم من الفاعل بحكم سيطرتها على الأمن في لبنان، سورية قادرة من وجهة نظر كثير من المحللين الأميركيين على ان تقول لنا من الفاعل. الانطباع العام هنا هو ان سورية مسؤولة عما حدث بشكل مباشر او غير مباشر، والانطباع غالبا ما يكون اكثر حقيقة من الحقيقة نفسها، هذا الانطباع انعكس بوضوح في تصريحات البيت الابيض التي ربطت بشكل مباشر بين خروج القوات السورية من لبنان وتنفيذ قرار مجلس الأمن 1559 وبين تفجير موكب الرئيس الحريري في بيروت، واذا ما اضفنا هذا التصعيد بداية من قانون محاسبة سورية الذي وقع عليه الرئيس بوش منذ شهور، والضغط الأميركي المتواصل على سورية ورفع درجة حرارة هذا الضغط الذي وصل حدوده في حملة وزيرة الخارجية الجديدة كوندوليزا رايس امام الكونجرس والتي وصفت فيها سورية بواحدة من «معاقل الطغيان» في العالم، كل هذا كان يصب في اتجاه معاقبة النظام السوري، واغتيال الرئيس الحريري في وضح النهار في بيروت يمثل السبب الأخير الذي كانت تبحث عنه كل من فرنسا وأميركا لاتخاذ إجراء حقيقي تجاه سورية.
كما أسلفت ليس بالضرورة ان تبنى القرارات السياسية على حقائق، فهي غالبا ما تبنى على انطباعات، والانطباع السائد الآن في الولايات المتحدة هو ان سورية تقف وراء هذا الحادث البشع، الانطباعات بوجود اسلحة دمار شامل وليس الحقيقة هي التي ادت الى نسف نظام صدام حسين من جذوره في العراق، الانطباعات ايضا بأن صدام وجيشه خطفوا الاطفال من الحضانات في الكويت هي التي دفعت بالجيوش الجرارة الى المنطقة عام 90/91 والانطباعات ايضا هنا هي التي ستجعل منطقة الهلال الخصيب الآن مرتعا للقوات الاجنبية لتحكم منطقة فشلت في حكم نفسها.
عندما سألت احد الأميركيين من العالمين ببواطن الامور في شأن سورية، قال: «الناس في انتظار سقوط فردة الحذاء الاخرى» wating for the other Shoe To Drop ، بمعنى ان الضربة مقبلة لا محالة، وحددها بستة اشهر على اكثر تقدير. فالولايات المتحدة من وجهة نظره لن تقبل بمثل هذه العربدة في المنطقة، يا ترى من سيكون التالي بعد الحريري؟ هكذا قال. هل هي محاولة لأن تعم الفوضى في المنطقة، هل لأن هذه القوى فشلت في مواجهة أميركا في العراق نجدها تحاول خلق جو من الفوضى في كل المنطقة، لن نسمح بأن يدخل الشرق الاوسط في هذا النفق المظلم، التضحية بنظام واحد افضل بكثير من التضحية بالكل، هكذا كان تصوره.
اذن المزاج هنا في الولايات المتحدة هو مزاج حزن وغضب في آن، مزاج عقاب وقصاص لمقتل رجل عرف عنه الاعتدال، وراهنت عليه القوى الدولية كعنصر استقرار في المنطقة، اداة إعمار في منطقة بدأت تقوى فيها شوكة قوى الخراب.
وعندما تتحرك عجلات الحرب في الدول الكبرى من خلال قرارات في مجلس الأمن، يبقى ضجيج المنطقة العربية وتصريحاتها ليس اكثر من كونه «طق حنك» على حد التعبير اللبناني. باغتيال رفيق الحريري يكون أمر لبنان قد فلت من النظام الاقليمي، واصبح شأنا دوليا، كما ان مسألة القصاص لمقتل الحريري لن يكون قصاصا عربيا، بل سيكون قصاصا دوليا غالي الثمن، اذن في النهاية نحن الذين نجلب القوى العالمية الى ديارنا، نحن السبب في المقام الاول، وكفانا مراهقة.
* خاتمة شخصية:
اقول عن الحريري ولبنان:
كان في ارض، وكان في ايدين عم بتعمر
عم بتعمر تحت الشمس وتحت الريح..
وبفضل الحريري ايضا:
صار في بيوت.. وصارت شبابيك عم بتزهر..
في ولاد.. وبايديهم في كتاب..
وبليل كله ليل سال الحقد في قلب البيوت
والايدين السودا..
خلعت الابواب وصارت البيوت بلا اصحاب،
قالتها فيروز في شأن القدس،
وارى انها مناسبة لهذا الحدث للحريري
ولبيروت وللبنان بأسره.