في خضم حالة من الحراك السياسي والشعبي تهدف إلى تعديلات حقيقية وإصلاحات ديمقراطية ، تستعيد جزء من الحريات العامة والمدنية التي أهدر أغلبها في الربع قرن الأخير .
لم تجد الحكومة المصرية مخرجا لها يجنبها مزيد من الرفض لمناخ الاستبداد الذي فرضه جهاز البوليس التابع لها ، سوى اللجوء إلى ما تظنه "عصا موسى " لتشغل الشارع المصري عن استمرار مطالبته ونضاله من أجل المطالب الديمقراطية ، بافتعال ضجة جديدة حول التمويل ، أبطالها هذه المرة بعض المؤسسات التي أعلنت قبولها لتمويل قادم من السفارة الأمريكية بالقاهرة .
وعلى الرغم من رفض أغلب المؤسسات الحقوقية في مصر لمبدأ قبول التمويل من أي جهات حكومية لاسيما من الحكومة الأمريكية التي تتعاطى مع قضية حقوق الإنسان بمعايير مزدوجة ، بل ورغم أن بعض هذه المؤسسات التي قبلت بالتعاون مع السفارة الأمريكية قد بدأت تراجع موقفها . إلا أن الحملة الجديدة التي يبدو أنها معدة جيدة هذه المرة ، راحت تستخدم أدوات جديدة وتطرق ميادين لم يعهدها الجمهور المصري مثل الاتهامات بالعمالة والتحريض عبر ساحات المساجد ضد مؤسسات المجتمع المدني وفي القلب منه مؤسسات حقوق الإنسان .
وكعادة الحكومة المصرية في التعامل مع القضايا التي تثير حفيظتها ، كان الحل البوليسي المدعم ببعض وسائل الإعلام الممالئة لها هو الأسهل والعملي بالنسبة لها ، فراحت بعض الأقلام التي ترغب في كسب ود حكومة بوليسية تكيل الاتهامات وتفسح لها مساحات واسعة جعلت بعض الكتاب من المخلصين لهذا الوطن يدلون بدلوهم في قضية التمويل ، مما كان يهدد بجعل القضية الكبرى لشعب مصر والخاصة بالتخلص من الفساد والقهر الحكومي تتواري في الظل ، ليصبح بعض المال القادم من السفارة الأمريكية هو الخطر الأكبر والعدو الرئيسي لنا.
إلا أن الحملة الزائفة وهي تكاد توشك على التلاشي ، كشفت أكثر عن الرغبة المستميتة لجهاز بوليسي يحكم مصر في إبقاء الحال على ما هو عليه من فساد واستبداد ، في عالم ليس من بقاء فيه سوى لمن يقبل بقيم الديمقراطية وقبول إرادة الشعوب واحترام حقوقه .
وعلى الرغم من أن الموقف الذي يتخذه كاتب هذه السطور ضمن العشرات من المؤسسات الحقوقية في مصر ، رافض للتمويل الحكومي وبخاصة الحكومة الأمريكية ، إلا أننا نرى أن الخطر الحقيقي على أمن مصر ، ليس في مبلغ من المال قادم من هذه الجهة أو تلك ، بل أن الخطر الحقيقي هو في استمرار منهج التعذيب الوحشي الذي يمارس ضد قطاعات واسعة من الشعب المصري ، سواء في العريش أو سراندو أو أقسام الشرطة وغيرها .
الخطر الحقيقي هو معاقبة المجتمع المدني على كشفه لفظائع البوليس السياسي المسمى
بـ " أمن الدولة " في العريش وتلفيقه القضايا للنشطاء السياسيين وتعذيبهم بدءا من الصيدلي جمال عبد الفتاح مرورا بالطالب رامز جهاد ، وصولا للدكتور أيمن نور .
الخطر الحقيقي هو في استمرار حالة الطوارئ البغيضة عشرات السنين وتزوير الانتخابات كلها ، بدءا من انتخابات اتحادات الطلبة حتى انتخابات مجلس الشعب .
نعم التمويل القادم من حكومات خطرا ، لكنه لا يضاهي التمويل الخفي من حكومات عربية مستبدة سواء من العراق او ليبيا أو غيرها يستخدم لصناعة رأى عام زائف حول قضايا زائفة ، ويبتعد بالجمهور عن قضاياه الرئيسية من إصلاحات دستورية حقيقية ومطالب ديمقراطية ، بعيدا عن القمع والفساد المتفشي في كل ربوع مصر .
المجتمع المدني ليس مجتمعا من الملائكة وليس منزه عن الأخطاء ، بل أن الكثير من المآخذ تحسب عليه ، لكن هذا المجتمع المدني هو الذي سلط الضوء على الفظائع التي ترتكب يوميا في مقار مباحث أمن الدولة ، وعلى العقاب الجماعي لمدينة العريش وعلى تحالف الفساد القمع في سراندو وهو المدافع عن حقوق العمال المعرضين للتشرد ، المجتمع المدني ليس متورطا في تطبيع خفي أو مكشوف كبعض الرافعين لشعار الوطن ويروجون لرحلات سياحية إلى تل أبيب ! المجتمع المدني ليس متورطا في التعذيب ، ثم يدعي الدفاع عن حقوق الإنسان .
نعم ننتقد بعض ممارسات المجتمع المدني ونحن جزء منه ، ونقبل النقد والحوار ، لكن أحرى بهذه الحكومة ومؤسساتها أن تقدم النموذج على احترام إرادة الشعب ، بدلا من قمعه وحرمانه من أبسط حقوقه ، وجعل وزرائها وضباطها طبقة أعلى من باقي الشعب .
حين يعاقب وزير الداخلية ضباطه الملوثة أيديهم بالتعذيب ولا يحميهم يمكن أن نتفهم نقده ونحاوره .
حين يحكم مجلس الشعب لصالح الشعب المصري وليس لصالح من زور الانتخابات له ، يمكن أن نتفهم نقده ونحاوره.
حين يتوقف بعض الصحفيين عن التطبيع المستتر وتزييف الحقائق وممالئة الحكم الاستبدادي ، يمكن أن نتفهم نقدهم ونحاورهم .
حين يعلن بعض المتشنجين عن مصادر تمويلهم العربي يمكن أن نقبل ونقدهم وحوارهم .
حين يعلن المجلس القومي استقالته احتجاجا عن استمرار حالة الطوارئ وتعذيب البسطاء في العريش وسراندو ، يمكن أن نقبل نقده ونحاوره .
حين يكف ترزية القوانين عن تفصيل قوانين لصالح أفراد بعينهم ن يمكن أن نتفهم نقدهم ونحاورهم .
حتى هذا الحين فليس من حق هؤلاء النقد والحوار ، وإنما هذا حق للمواطن المصري الذي نحترمه ونعمل معه كتفا بكتف من أجل مصر ، خالية من التعذيب والفساد والطوارئ وهؤلاء .
فالمواطن المصري هو الأغلبية وهو الأبقى .
http://hrinfo.net/hotcase/05/0403.shtml
ملح الارض