{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 0 صوت - 0 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
حــــــفـــلة تـــعـــذيــــب (الفصل الأول) بعد تعديلات جذرية
ضيف
Unregistered

 
مشاركة: #1
حــــــفـــلة تـــعـــذيــــب (الفصل الأول) بعد تعديلات جذرية
و بعد ساعات, لم أعرف كيف أهتَدت عيناي إلى النوم, إلا أنني قد نمت لوقت طويل على ما أظن. أيقظتني المضيفة بصوتها الرخيم قائلة: المعذرة .. حان وقت الهبوط..حمداً لله على السلامة. تأملتها بعينين نصف مغلقتين, كانت حسناء بملامح كلدانية. أبتسمتُ و أجبتها بتراخٍ: شكراً. هبطت طائرة البوينغ فوق مطار بغداد الدولي- بالسابعة و النصف صباحا- الذي أحتل أطرافة ثمة نسيم شهي, كان قد أنقضّ عليَّ فور خروجي من باب الطائرة. و بلحظة واحدة, لحظة من التصور الخارق, خُيّلَ إليَّ بأن أنفي أستطاع أن يميز رائحة الكباب المشوي الذي يملأ الأسواق بمثل هذا الوقت من النهار, و أستطاعت أذني أن تلتقط هذر العجائز اللواتي يتسوقن باكرا قبل الزحام و الجلَبة. و هناك, في الأفق السحيق, بدى سربا من البط البري محلقا برحلة تبدو طويلة, و قد يرجع لوادي الرافدين بعد أن يعود للصيف شبابه.

السعادة أخطر ما يخيفني اللحظة, فلم أرغب بشيء آنها إلا بتقبيل كلّ من أرى دون تمييز. قررت أن أتجه لمحطات السيارات الموصلة بين المحافظات, فعند المساء سأكون بالنَجف "إن شاء الله". همهمت بإرتياح في الوقت الذي أمتدت فيه يدي لتوقف أول سيارة أجرة أصادفها عند باب المطار. كان سائق الأجرة سمينا و ذا لحية شوكية بدى العرق لزجا فوقها, رغم أن الحر لم يشتد بعد, و على ساعده الأيمن أثر جرح لم ينمو الشعر فوقه. فضلٌت الجلوس بالمقعد الخلفي كي أقلل من نسبة المجدالة التي لابد لها أن تبدأ. و فعلا, ماهيَ إلاّ ثوانٍ حتّى طرق صوتهُ اللاهث سمعي:

-حمدا لله على السلامة يا أستاذ.

-شكراً لك.

لذتُ بالصمت, شاغلاً نفسي بتأمل مباني العاصمة و الطرقات عبر النافذة اليُمنى- حيث أجلس- إلّا أن صوته عاد للتردُد سائلا:

-هل كانت رحلتك طويلة يا أستاذ؟
-نسبيا

-إذن لابد أن تكون متعبا؟

-قليلاً.

-أين كنت تعيش؟
لذتُ بالصمت لثواني, محاولاً التغلب على ضيقي الذي أستيقظ بمكان ما من ذاتي.

-بالولايات المتحدة.

-لتدرس؟

-نعم.

ضحك عندها, متجاهلا محاولاتي المكشوفة لتفادي النقاش, و كان صوته خبيثا:

-لاشك بأن النساء هناك جميلات.

-هناك الحسن و الدميم منهن.

-هل كانت لك عشيقة كالأفلام؟

-لا.

قلتها بإمتعاض تزايد بعد قهقهته الأشبه بالسعال, ثم رأيت عيناه ترنوان إلي من خلال المرآة الخلفية و هو يقول:

-تبدو متوحدا و متعبا, هل تحتاج لعشيقة لليلتك هنا يا أستاذ؟ أعرف امرأة رائعة و صغيرة بالعمر نسبيا.. ما رأيك؟

الشعور بالضيق ينمو أكثر في ذاتي, و ألفيتُ نفسي أمام قذارة لم أذكرها بسائقي الأجرة بعد, لجانب الحشريّة و التطفّل.

-قُد لمحطات النقل و ليس للمواخير يا هذا.

-و ما الذي قلته لتغضب؟
-لا تناقش أكثر و انسى الموضوع رجاءً.. لا أحب التحدث إلى الغرباء.
-و مالذي قلته لتغضب أنت؟ ها؟

صرخ بصوت عال هذه المرة- كصوت كحوذي- ثم أردف و هو يرشقني بنظرة حادة عبر المرآة:

-ياللقذارة يا رجل, أعتدت على الأمريكيات و لم تعد نساءنا يعجبنك, أم أن المصلحة الوطنية لا تهمك فتنٌفع الأمريكيين بدلا عنا؟

عندها أحتقنت الدماء بين عينيٌ و تبخٌر الصبر جراء الغضب. و كعادتي, حرصتُ على أن تكون مخارج حروفي نقيّة و صوتي هاديء إنما صارم.

-إبق فمك مغلقا يا كومة القذارة.. ليس هناك من يبحث عن السفالة إلا أمثالك في هذا البلد. نساؤنا أشرف من أن يدنسهن زنيم جلف مثلك.. شئت هذا أم أبيت.. مفهوم؟
لم يجب, فأعدتُ سؤالي له بلهجة أقوى:
-مفهوم؟

-حسنا حسنا يا أستاذ.. مفهوم للغاية.. لا داعي لأن تغضب.

صار يكرر جملته الأخيرة كعبد الذليل, و لقد نسيت- بعاصفة السخط- أن السائقين عيون عزيزة للمخابرات و الشرطة. كان السائق يرتجف حنقا, و بدى ذلك واضحا بضغطه على الفرامل عندما توقف أمام بوابة خلفية لأحدى البنايات, التي لم تضع على الباب سوى صورة الرئيس. و لا عجب, فصور سيادته تتبعنا حتى بالمراحيض, و ليست بيوت المومسات من صوره ببعيدة. نهرت السائق بغضب:

-قلت لك بأنني لا أريد أن تأخذنـ...

لم أكمل جراء صرخته المقاطعة:

-أنزل يابن الكلب.. أنزل يا حيوان.

أن من صفاتي, التي أكره الإعتراف بها, هي الجسارة و "طول اليد" كما كانت أمي تشكو لأبي بطفولتي. و لم يتغير الكثير بهذا اليوم رغم كوني أكثر كياسة و صبرا, إلا أنني فقدت كل هذا إثر صرخة السائق المتحفزة, و لم أجد نفسي سوى مطوقا رأسه بذراعيّ, ثم توالت منيٌ اللطمات و اللكمات على صدغيه و فكه. أندفع صراخي مختلطا مع صراخ السائق الذي وصل به الأمر للإستغاثة. كان صوته باكيا متهدجا و هو يصرخ: "خلصني يا محمد.. يامحمد.. يامحمـ..". أمسكته من حنجرته بأصابعي, و شعرت آنها بأنني أغوص عميقا بروحه بكل ضغطة على عنقه. أخيراً, عندما أمسى السخط عصيا على أن أختزله بين أصابعي, صرخت فيه بوجه محتقن الشرايين: كل التبن و أخرس.. إن محمداً بريء من أمثالك. و تابعت شده و لكمه, لا بل صرت أحاول خنقه أو كسر حنجرته بضغط أصابعي, الأمر الذي غيّب صوته تماما و أطغى على وجهه لون الموت الأزرق. كان غضبا عاتيا, لا أفهم مسوغاته المباشرة, بل أنه حالة ثأر لخيبة أمل سريعة بالواقع الذي كُنت أنشده على أرضي.
أستمر صراخه و أزدادت لكماتي, لكنما ببغتة, و دون أدنى شعور مني, أتتني ضربة مدوية على ظهري ثم تبعتها أخرى على مؤخرة رأسي تماما. كانت ضربة محكمة, مركزّة و عنيفة من عصا غليظة قاسية. فقدتُ وعيي بألم, و مال جسدي بعدها ليسقط خارج السيارة- التي فتح الضارب بابها دون أنتباه مني- لترتفع بعدها كارثة غير متوقعة بحياتي.

أستيقظت في غرفة مدلهمة خاوية, تساءلت بداخلي عن طبيعة المكان و نوعه: لا إجابة حالياً. تابعت تحريك رأسي ببطء متثاقل, لمستُ بأناملي مكان الألم؛ شجٌ صغير متورم عليه دماء متيبسة. مددت يدي اليسرى قريبا من عينيّ لقراءة الوقت, إلا أنني أكتشفت بأنهم جردوني من ساعتي, و كان هذا سخيفا على نحو ما إذ لم أتوقع بأنهم سيكترثون لساعة رخيصة كالتي أمتلك. تلمسّت جيوبي بحركات سريعة نسبيا, و لم أجد فيها من شيء: أخذوا الجواز و النقود و كل ما بحوزتي. بعد زهاء خمس ساعات, فَتح الباب رجل يرتدي ملابس مدنيٌة يحمل رشاشا روسيّ الصُنع. و جّه الكلاشينكوف نحوي و هو يأمرني ببرود متحفز: أرفع يديك و أمشي. فعلت ما أمرني و لكني حاورته قائلا: "لاشيء عندي فلم أرفع.." و بترت عبارتي فوراً إثر ركلته السريعة الممتزجة بنهرته: "بلا كلام", و لم يزد. كان صوته أجشاً لئيما و قاسيا أيضا, فكرت بأن اسأله عن وجهتنا إلا أنني تذكرت الشلوت العنيف, لا بل خفت أن يضربني بأخمص رشاشه حتى. كانت غرابة المكان تساهم ببُعد المسافة التي قطعناها, لم أتمكن من التلفّت لفحص ما حولي, فأوامره كانت واضحة: أن لا أحرك رأسي, أو أن أرفعه عن الأرض أصلاً. أنتهى المطاف بنا لحديقة واسعة ذات سياج مسوٌر بأسلاكٍ شائكة, قد سترت أشجار النخيل و الصفصاف الفراتي (الغُرّب) أغلبه.

بوسط الفناء تماما, كانت هناك طاولة متسخة من البلاستيك الأبيض, و حولها صُفٌت أربع كراسي, بينما أنتصب كرسي خيزراني قُبالة الطاولة بمترين. رمقت الأرضية المبلَطة ببلاط كبير جدا- و كان بعضه متصدعاً- و على بعض البلاطات كانت هناك بقع دماء جافة. "إجلس و بلا حركة", صرخ الرجل صاحب الرشاش, فجلست على الكرسي الخيزراني بحركة جامدة. لاحظت بأن هذا الرجل لم يكن متفاجئا بقدومي, بل كان يعاملني كم ألف هذه الحياة الغامضة. بعد إنتظار دام لعشر دقائق, دلف رجل بدين يكاد يختنق, أثار لُهاثَهُ ضجَة كتومة بالمكان, كان يمسح العرق من حول وجهه بمنديل متسخ, دون أن يعبأ بالبلل الذي يبٌقع عنق قميصه أو إبطيه. تأملني بهزء و حدثني بإبتسامة ساخرة:

-مالخبر يا حلو؟ هل تريد أن تكون زعيما لعصابة مثلا أو قاتلا محترفا؟

-لم أفعل شيئا يا سيدي..

لقد فاجأت نفسي لقولي "سيدي" فأنا لا أعرف الرجل, إلا أنني أشعر بأنه من ذاك النوع الوضيع الذي تعتمد عليه حكومتنا المرعبة. لعله لاحظ شرودي, فأعادني لرشدي بصفعة مباغتة و قوية, و الواقع أنني لم أعرف بأن هناك من له القدرة الدقيقة على الصفع مثله! كانت صفعة متيبسة كظاهر أصابعه و قد فجرت الدماء من باطن خدي. خاطبني ببرود بعد أن أشعل سيجارة "سومر" رفيعة:

-هل تعرف هذا المكان؟ ..لا.. و لكنك بالتأكيد تعرف سبب وجودك هنا, صح؟

-لقد كان حادثا عرَضيا قسما, و هو من..

-أخرس يا وقح.

قاطعني بصرخة ثم تابع ببرود و عجرفة:

-أنت في مديرية الأمن العامة ببغداد يا حيوان, و قد تجرأت على ضرب أحد رجال الأمن... هل تعرف من نحن يا وغد؟ هل تعرف ما يمكننا أن نفعله بك؟

-أنا سأشرح لك يا سيـ..

-إنكب.

صرخ بصوت أعلى عن سابقه, ثم تابع:

-لقد أخبرنا الرفيق بكلّ شيء و لم يذكر أي سوء من جهته.
أبتلعت ريقي دون تمييز جملته الأخيرة الممتزجة برمال الصراخ, كان قلبي يخفق لفكرة وجودي بأيدي رجال الأمن. سألته و أنا أبلع ريقي بصعوبة:

-أأنتم من جهاز الأمن حقا؟

-طبعا يا وغد

-يالسوء الحظ.

قلتها دون وعي, فترقبت صفعة منه أو ضربة من موس الحلاقة الذي أستلّه من جيبه, لكن رده كان أغرب من كلّ ما خطر على بالي إذ أنه قهقه ضاحكا و قال بلهجة منتشية:

-نعم, يالسوء الحظ هي أفضل جملة قلتها للآن, و سنسألك عدة أسئلة و ستجيبنا عليها قطعا, أو جعلتك تحلم بالموت.. مفهوم؟

=مفهوم.

و هنا رمقني بحدة و قد حملَت عيناه نذيرا مرعبا. عيناه صغيرتان و بيضويتا الشكل, كعيون الأفاعي, إذ أنهما ثابتتين و بلا حياة؛ فوهتان شرهتان ليطل رأس الشيطان منهما. تداركت هفوتي و صححت مسرعا "مفهوم يا سيدي", عندها أرتاحت معالم وجهه و أرخى حاجبيه الكثيفين, ثم رفع كميٌ قميصه و خاطبني كمن يخاطب ماسح أحذية: "علينا أن نتهيأ.. أنتظرنا يا وغد". قالها و مضى بخطوات ثقيلة و قد عزوت هذا لسمنته المدهشة, تلك التي تثير خوفي و شفقتي في آن معاً. بقيت وحيدا لساعة كاملة, خامرني شعور بأن هناك من يراقبني. كانت شمس الظهيرة قد أنخفضت عن وسط السماء, لتحل محلها أبخرة البرد, التي راحت أصابعها تلسع عنقي و كتفاي كذلك. فتحت ياقة قميصي الأبيض عن طويتها بشرود واجم, ثم أخفضت رأسي و أمتد بصري إلى بنطالي الرمادي القاتم, تذكرت فجأة بأنني تركت السُترة- ذات اللون المماثل- بسيارة الأجرة, و كذلك حقيبتيٌ. كانت مثانتي متقلصة على نحو مؤلم, و قد نمٌت عن ضرورة تبولي, إلا أنني لم أكن لأجرؤ على هذا و فضلت, مؤقتا, أن أضع راحتيٌ الدافئتين عليها لأتخلٌص من إعتصار الألم. أحاول أن أغمض عينيّ كما كانت الصيصان تفعل بحديقة دارنا الكبيرة, أن أسترق نوعا من الراحة, لكن جلَبَة البدين و رفاقه قد أعتقلت السكينة. كان أحدهما نحيفا شاحب اللون و ذا أنف طويل على نحو ملفت, أما الآخر فبدا متناقضا بشكل مضحك, فبالوقت الذي ألتمع رأسه جرٌاء الصلع, غطّى شاربه الكثّ شفته العليا. كان مظهر الثاني, بلحيته المحلوقة منذ يومين و عينه اليمنى المطفأة بسحبة موس, يثير فيٌ لون من التوجس و ربما الخوف حتى. و بدت نظراته المتدفقة من عينه اليسرى وقحة و عدائية, و لم يترك مجالا لصاحبيه إذ سرعان ما علٌق بأمري, و هو يحك بطنه الكبير, "أهذا هو حقا؟ .. أنه على وشك الولادة". قهقه على نحو صارخ, عندها أبعدت راحتيٌ بخجل و نظرت خلسة إلى بطنه الذي كاد أن يمزق حزامه و يتدلى أرضا. تقدم نحوي بعدها بخطوات متلعثمة, وضع فمه قبالة و جهي و همس بعين ثابتة: " حان وقت الحفلة.. و نريدك أن ترقص". لقد بردت الدماء في ساقيّ, إذ أدركت بأنه ثمل حتى النخاع. قيدوا يديّ إلى خلف الكرسي الخيزراني و بدأت الحفلة.

سأل شاحب اللون أول سؤال بعد أن حمل موس الحلاقة من الطاولة, و راح يقلبه بين أصابعه:

-هل عشت بأمريكا؟

=نعم سيدي؟

-هل حصلت على الجنسية الأمريكية؟

=لا بل أنا طالب هناك فقط.

-لكنك عشتَ بأمريكا.

=نعم سيدي.

مدّ شفتيه و رمقني ببرود و قال بتشفٍ:

-و قد حللت بأرض العراق و أول عمل قمت به هو الإعتداء على ضابط من قوات الأمن أليس كذلك؟ أيها المتأمرك الوضيع.

-سيدي, المسألة ستكون أوضح لو أتصلتم بالسائق و جعلتموني أواجهه لكي يشهد بما أعتدى به عليّ.

-أنت ستتصل بعزرائيل الذي سيخلصك منا.

قالها الأعور ثم هوى على فكي بصفعة دوى أصطفاقها بين الأشجار للحظة. تغلبت على الدوار بصعوبة و خاطبتهم بصوت جاهدت بأن يكون مقنعا: "لم أقصد أن أؤذي أحدا و أقسم لكم, أنا عراقي عربي مسلم... أحب بلدي و لست متأمركا.. أريد الذهاب لبيتي فأرحموني". سألني البدين الأول هذه المرة:

-طيب يا حلو, ما تريد من مهاجمة أحد رجالنا لو كُنت ذاهبا لبيتك هذا؟

-يا جماعة أنا لا أعرف بأنه أحد رجالكم, و لو عرفت أنه منكم لما....

بترت عبارتي بسرعة و قد أعقبتها بشهقة عالية, ذلك بعد أن صب الأعور عليّ ماء طفَت فيه مكعبات الثلج. المفاجأة تلدغني, أشهق بلا شعور, أتنفس الماء البارد مع شهقتي, أعطس بلا شعور, و أتبول ببنطالي دونما رغبة بذلك أو تحكم. أحقا أنني تبولت على نفسي بعقدي الثالث؟ طفقوا يضحكون على حالة الإرتجاف التي أعترتني, و أمسى أرتجاف فكيَ رغما عني باعثا آخر للضحك. أيقنت بأنني بين بشر لا رحمة لهم و لا دين يسيّرهم أو أخلاق تردعهم, بل بشر يحملون هذه التسمية للمجاز, فهم أردى من الحيوان سوء و بربرية.
أشعر برغبة في البكاء على حالي, أو بالصراخ رافضا لهذي الهمجية التي سمعت عنها لسنوات طويلة عن هؤلاء. "هؤلاء", الذين يدخنون لفائف الوطنيّة و يطلقون رصاص العدالة.. لا نعرف أي عدالة بالواقع. و الأنكى من كلّ ذلك هو أنهم يمتلكون الهواء الذي نتنفسه, و يصادرون الماء الذي نجترعه و يعتبرون النساء- كلّ النساء- منفعة لهم, و الرجال, كلهم, عبيد لهم. يقودوننا, فوق ذلك, لحروب حمقاء خاسرة, يتآمرون أثنائها مع من نحارب فنتساقط كالذباب, دونما أحترام لنا, فنحن كلاب و أبناء عواهر بنظرهم. و تتقافز الشعارات و العنتريات, و يجبروننا على تكرار كلمات القائد الملهم حتى تتحول لبراز روتيني نلوكه يوميا باحتفالاتنا المدرسية و مسيراتنا الجبريّة: "الموت أو النصر", "الأرض لنا و ليخسأ الخاسؤون" *. هاه حقا, الأرض لنا, مع أنهم من سملوا العيون و كسروا السيوف حينما سرق اللص الأرض. فعلوا كلّ ذلك لكي يسمح لهم اللص بإعتلاء كراسينا الزهيدة, و التجبر على بشر مساكين قد غلبوا على أمرهم منذ قرون. و ما إن ينهون حملات التصفية الدموية, حتى يجبرون تلاميذ المدارس للخروج لشوارعنا المتآكلة بعطن الموت و المهزلة, يخرجون على امتداد هذا الوطن الشاسع, الذي عجزت كلّ مخيلاتنا باحتوائه. الوطن الذي يغص بحدائق الموت الجرداء, بمقابرنا الجماعية, بمزابلنا و كلابنا الشاردة, و كذلك بالأمهات الثكالى و العذراوات الأرامل. لقد حولوا رجالنا لبذور مأساة بحقول المقابر, حقول لا تثمر سوى الشعور بالتقيؤ أو البصق سخطاً.
لم أفقه كم أستغرق الوقت الذي قضيته تفكيرا, و أنا أسند برأسي على صدري, و هل رافق ذلك كلمات غاضبة أو نحيب مسموع؟ رفعني الأعور من غرتي الطويلة- التي ألتصقت على جبهتي- ثم صفعني بشدة و تلتها أخرى و أخرى. صرخت بهم بحنق و قد برزت شرايين وجهي و رقبتي أثناء ذلك "أتركوني يا كلاب.. يا حقراء.. يا..", و هنا أخرسني البدين, الذي كان أسمه المساعد وليد, بضربة لاهبة من خرطوم ماء أحمر كان يتلوٌى بين يديه على جسدي. كانت ضرباته متوجهة لعاتقيّ و صدري و فخذيّ. لم يبدو أن الضرب المبرح قد أعجبه حتى اللحظة, فكني بجنون و هو يصرخ بشتائم قذرة, ركلني شاحب الوجه من على الكرسي فهويت لوجهي, و شعرت بإحتكاك صدغي بخشونة الأرض. تابع المساعد ضربي المسعور و قد ساعده الرجلان بركلاتهم الثقيلة. لم يغادروا ضربي إلا بعد أن وجدوا فيّ مخلوقا يحتضر. أبعدهم المساعد وليد مخافة أن أموت, فهم يريدونني حيا و بإصرار. صرخ بهم كمن يصرخ بكلاب حراسة مجنونة: "كفى", و صمت لوهلة ثم أكمل "نحن سنجعله يغرٌد قريبا.. لا تستعجلوا فالمتعة قد بدأت لتوها". مضوا عني و قد شعرت ببصقة أحدهم تسيل على رقبتي ببرود, و ما كان بوسعي مسحها جرّاء الهلاك الذي يعتريني. كنت ملقياً على جنبي الأيسر و قد تكومت حول نفسي كحلزون, لم أتمكن من رؤية وجهيّ اللذين تكفلا حملي و إلقائي لقاع عربة صغيرة ترتكز على أربع عجلات. ألقياني ككيس قمامة بالضبط. دفعني أحدهما للزنزانة و بقيت على أرضها لعشر ساعات, كنت بحالة هلامية من اللاوعي الممتزج باليقظة. أنتظرت أن يأتوني بأي شيء آكله, إذ لم أتذوق سوى كأس صغير من عصير التفاح, الذي إحتسيته على ظهر الطائرة التي غادرتني من روما أمس.

* * *


في الثامنة صباحا, فتح الباب شخص بملابس عسكرية, لوى ذراعي بعنف لا مبرر له و أجبرني على المسير, ذلك لأنني لم أكن لأملك أدنى قوة جرّاء التعب الذي يغلف عضلاتي كسائل شمعيّ متجمد. ركلني الحارس الهرم كي أستعيد نشاطي ثم همهم بضيق: "رجال آخر زمن.. متعب من ركلتين و بضع صفعات".
وصلنا لغرفة مختلفة ذات باب باستيلي لا يحوي سوى كوة مستطيلة بأقصى قاعدته. دفعني بركله ثم صفق الباب بغضب لم أفهم مبرره و لم أكترث. كنت متعب إذ أرتميت على السرير الوحيد في الغرفة ذات المترين و نصف طولا و المترين عرضا. بقيت راقدا على بطني لساعات تخللتها سُنات نوم خفيف, و أحلام يقظة عن الطعام الذي سيرطب أمعائي المتفطرة جفافا. مرت سبع ساعات كالقرون, حتى دخل علي ذات الحارس أخيرا و لوى ذراعي بطريقته الوحشية عينها, و دفعني إلى الحديقة من جديد. لم يأمرني بالجلوس بل نهرني كمن يحدٌث أصما "أبق مكانك و لا تتحرك". وضع الأصفاد حول معصميّ اللذين جذبهما لخلف ظهري بحركة خشنة, ثم وضع على كاحلي كلابتين تربطهما سلسلة قصيرة. و مرت دقيقة حتى قدم الأوغاد السابقون حاملين بضعة خراطيم و عصي خيزرانية رفيعة, و قد تقدمهم رجل نحيل و ذو قامة قصيرة, كان يسير كملك بينهم و لا يُخفى بأنه برتبة رائد طيّار. حدثني المساعد وليد ببهجة عصية على الفهم قائلا "حان وقت الأكل يا حمار". رشوني بالماء البارد لفترة ثم هوت الركلات التي طوحتني أرضا, و تغوص بمعدتي كالنصول. رفعوني بأذرع هرقليٌة ثم تسابقت قبضاتهم للفوز بلكمي, حتى صار النظر عصيا عليٌ لوهلة. خمستهم يضربون, خمستهم يصرخون, خمستهم يشتمون و يضحكون, و خمستهم يكفرون بكلٌ مقدس أعرفه. لقد شحنوا الجو بالجنون و الغضب, توترت أعصابي و صرت أذب عن نفسي بحركات عشوائية يائسة. كنت أنزل رأسي لأتخلص من صفعاتهم و لكماتهم, فكانوا يلهبون ظهري بالخراطيم و العصي, و عند رفعه لأخلٌص ظهري كانوا يدكون صدري بركلاتهم العالية المحترفة. تكومت على الأرض بشكل دائري ساخط, إلا أن شياطينهم قد أتقدت نارا و صاروا يصرخون بي "أنهض", "تحرك", و صرخ الأعور بأذني: "لا تعاند". لم أحرك عضلة واحدة, كنت غاضبا على الدنيا, حاقدا على كل شيء و مستعدا لقتل نفسي ذاتها. كان المساعد وليد أكثرهم هيستريا, إذ أحضر سلكاً كهربائيا غليظا و جلدني دونما كلمة. لقد صرخت من الجلدة الأولى جراء ألم السلك الذي يستقر على الجسد ثم يحدث إنفجارا نوويا لاهبا في أنسجته, و تبدأ الحرارة التي تفطّر العظام قبل أن تذيبها نهائيا. توقف عن ضربي فجأة و أبتعدوا كلهم عني, ساد صمت مريب لم يحطمه سوى الأعور بركلته لصدري. "يا أبن الكلب" قلتها بصوت واهن و أنا أحاول أن لا أبتلع الدماء الساخنة التي فاض بها فمي. لم يكترثوا لشتيمتي هذه و لم يعبأوا بالتحدي, كانوا يشتغلون بشيء لم أعرفه على الطاولة التي لم أرَ منها سوى شكلها العام جرّاء التعب. بعد دقيقة أو أكثر, تقدم المساعد وليد حاملا دلوا أصفرا, و كانت ابتسامته تحجب عينيه عن الناظر.
صبّ محتوى الدلو عليّ و هو يصرخ ضاحكا "أشبع يا روحي أشبع". و لم يكن السائل سوى ماء قد أذيبت فيه كمية من الملح, ذاك الذي كهرب جروحي بحرقة ناسفة لأي صبر. صرت أقفز هنا و أزحف هناك, أتمرغ على الأرض كسمكة معذَبة و أنا أشعر بجيوش نمل تأكل من جروحي و توٌسعها. قال الرائد بأن الألم لن يسكن ما لم يغسلونني بالماء العذب, عندها رجوتهم أن يفعلوا إلا أنهم صفقوا ضاحكين و كان المساعد وليد يهز وسطه راقصا كالنساء. صرخت بهم بكل ما للألم من نفوذ أن صبوا الماء يا أولاد الوضيعات, و فعلا فقد صبوا الماء إلا أنه حوى ضعف كمية الملح السابقة. جلسوا على الطاولة بأرجل ملفوفة و هم يتأملون نشيجي و تقلبي, و بلحظة غير متوقعة صبّ الرائد ما بكأسه من خمر فوقي و هو يقهقه بمجون. بكيت و أنا أرجوهم بأن يصبّوا علي ماء عذبا, و قلت لهم, دون وعي, بأنني سأعترف بكل ما يريدون. و هنا أخذ الرائد نفسا عميقا, بعد أن هدأت فيه عاصفة الضحك, و قال بأنه سينقذني من الملح هذه المرة لأنه يرى بنفسه إنسانا طيبا, لكنه سيشرّح لحمي و يضع فيه الملح إن تغابيت من جديد. كان على وشك الأمر بصب الماء البارد إلا أن المساعد وليد رجاه بأن ينتظر, و لما سأله عن السب قال " لهذا". ثم جلدني خمس جلدات حيوانية بالكابل الكهربائي الذي أفقدني ألمه وعيي, و لم أستفق إلا على الماء الذي صبوه على أذني مباشرة بواسطة خرطوم غليظ. تركوني على الأرض و باشروا التحقيق عندما سأل الرائد:

-ما أسمك؟

=واثق حسن التميمي.

و هنا صرخ المساعد وليد بمجون "حقا؟ ..واثق من ماذا يا عيوني؟ واثق من دخول حذائي بفمك ربما" و صفعني من ضحكة مجلجلة. ضحك الرائد معهم إلا أنه أمسك بالسانحة من جديد و أكمل أسئلته بصوته البارد الخفيض و هو يدور حولي:

-طيب يا واثق يا بعد عيني, لم سافرت لأمريكا؟

=للدراسة.

-متى حدث هذا؟

=في يوم 18 مارس من عام 1979.

-كيف تدبرت أمرك هناك؟

=لعائلتي أصدقاء عراقيين هناك, و قد ساعدوني و أمنوا لي العمل.

-في أي ولاية عشت؟

=في عدة ولايات..

و لما رأيته و قد قطب حاجبيه تدراكت هفوتي و صححت: "بولاية فلوريدا سيدي". مطّ الرائد شفتيه ببرود ثم سأل بغضب لم أعرف مصدره:

-ماذا كنت تفعل هناك بالتحديد؟ تكلم يا حقير.. قل كل شيء و إلا جعلتك تتمنى الموت قسما بمجد السيد الرئيس.. مفهوم؟

=مفهوم سيدي..

أجبته بهلع و قد توجست شرا من نظراته الشزرة, إلا أنه عاد لبروده بقوله:

-تكلم.
=أدرس الطيران المدني, و أنا بالمرحلة الرابعة و أعيش بمدينة تلهاسي.

و هنا سألني المساعد وليد و كان يدوّن كلّ كلمة أقولها بدفتر يحمله:

-هل ألتقيت بمواطنين عراقيين أو عرب أو ايرانيين بتلك المدينة؟ أو البلد حتى؟

=لا أبدا, كنت وحيدا.

سأل الأعور بعدها:

-قلت بأنك تعرف أؤلئك الذين ساعدوك, فمن هم؟

=أنهما زوج و زوجته و ليس لهما أطفال.

-أسماؤهم؟

=أبو سعد و أم سعد.

و بهذه اللحظة فقد المساعد وليد سيطرته على أعصابه, بعد أن أنفلت عليٌ ضربا حتى حطم ضرسي الأيمن. صرخت بأنني لا أعرف اسماءهم و أنني أعرفهم بهذا اللقب فقط, و لم أكمل إذ بادر أبو تحرير بخنقي بكابل رفيع من خلف رقبتي و لم ينقذني من الموت أختناقا سوى تدخل الرائد. كان الأخير يراقب الوضع بارتياح, و هو يسند بظهره للطاولة. خاطب الجلاوزة بلهجة جديدة قائلا "لقد حان وقت العشاء ياقوم و الرجل لم يأكل شيئا عندنا, لذا سنضيّفه كما علمنا الرئيس المناضل". لم يغيبوا لعشر دقائق, حيث جلس الرائد ببروده و تركني ممددا أرضا بعد حفلة الصفعات الأخيرة. عادوا بفخذ دجاجة مسلوق و ليترا من الحليب. شربت الليتر بسرعة و أكلت الفخذ بنهم, و كان الرائد يرمقني بابتسامة حسبتها رحيمة آنها. سألني الرائد إذا ما أحببت أن أشرب ماء أو عصير, فطلبت الماء و شربت منه نصف ليتر حتى أنتفخت. و هنا صفَر الرائد بصفير خاص فهجموا كلهم علي دفعة واحدة, أحكم المساعد وليد أمساك كتفاي بينما أمسك أبو تحرير و الرائد وسطي. أما أبو قصي, الأعور, فقد فتح حزامي بصلافة و فتح سحٌابه وسط صراخي ثم عقد عضويَ بمطاط ثخين, كالذي يستخدمونه بالمستشفيات لربط الذراع و سحب الدماء منها. خلت بأنه سيقطعه بسبب العقدة المؤلمة, و قد وهبني هذا الخاطر قوة ساحقة إذ ركلت وجهه بكلتا قدماي و أنا أصرخ بهيستريا و خوف. كانت ركلة فعالة بحق ذلك لأن أنف أبو قصي قد تصبب دما, و قد أشعل ألمه فيهم نار الإجرام. أستلوا مسدساتهم و صوبوها إلى رأسي و بدوا جادين بما يزمعون فعله. صمتنا كلنا و بقي أبو قصي يصرخ بصوت هائج "أعدموه.. أعدموا هذا العميل الجاسوس". هدأ أبو تحرير من روعه قائلا بأن إعدامي لن ينفع, لأن الموت سيكون رحمة بحقي لجانب ما يخططون فعله. ابتسم الأعور بدموية و قد وجل قلبي لهذه الإبتسامة, لأنها بدت وليدة الفرح بكراهيته الشديدة لي. صوب الرائد سميح, و هذا هو أسمه, مسدسه إلى صدغي و أمر أبو قصي بأن يكمل ما كان يؤديه, و لقد أدى أبو قصي عمله جيداً بحق, لا بل أنتقم مني مؤقتا بهذه العقدة التي سحبت روحي كلها لموضع الألم. ألقوني إلى الزنزانة من جديد و تركوني مقيد اليدين و الرجلين, و لم أقوى على الحركة أكثر فأرخيت جسدي المضعضع على الرمضاء الباردة. بكيت دونما شعور إثر سماعي لصراخات متقطعة كانت تتهادى إليٌ؛ كانوا يعذبون أحدهم. أغمضت عيني محاولا النوم إلا أن ألم المطاطة لم يكن بذاك الذي يتسع للمرء بأن يتناساه, و الحقيقة فأنني لم أفهم سر هذه الحركة حتى ساعتين أُخرَيتين عندما شعرت بالرغبة بالتبول. كتمت أنفاسي و عصرت قدر أستطاعتي لكي أتبول إلا أن المطاطة قد سدت كلٌ مجرى, و أزداد الألم و أزاد و أزداد, إذ لم أعد أطيق صبرا على الرغبة بالتبول. بقيت أحتضر طيلة الوقت المتبقي من الليل حيث أخذت إلى غرفة و اسعة جرداء, قد تناثرت داخلها كابلات و خراطيم و قطع من كراسي مكسرة. و بصدر الغرفة كان ثمة كرسي حديدي يحوي على كلٌابات تثبت اليدين و الرجلين أثناء الجلوس, و يغدو الوجه مكشوفا تماما للضرب. أجلسوني على الكرسي بخشونة ضاعفت من تمادي الألم بمثانتي المتورمة, لم يعبأوا بصراخي الذي أنطفأ بعد رحيلهم و تركي وحيدا وسط الغرفة. وحديتي كانت أقصر مما أفترضته, ذلك لأن أصوات لرجال يتحادثون كانت تقترب مني. دلف الرائد سميح و المساعد وليد و رجل ثالث بدى هرما و مهما لتبوئه رتبة عقيد ركن. وجهت نظراتي الشاكية للرائد و خاطبته بصوت محتقن "أريد أن أتبول.. أرجوك.. سأموت لو لم أفعل". ضحك الرائد سميح لجملتي الأخيرة و علٌق مستهزءً "إلى جهنم", و بالمقابل صفعني المساعد وليد على أذني و قد تقبلت صفعته كنوع من التحية. دمعت عيني على نحو مخجل و أنا أخاطب الرائد سميح بصوت مبحوح و مختفي "سأعترف بكلٌ شيء ترغبون فيه.. أرجوك صدقني", و عندها أغربوا كلهم بالضحك و رَنا العقيد أن يختبرني فقال بلهجة ساخرة:

-لقد حدثت سرقة قبل أسبوع, و يعتقد بأنك السارق.. ما رأيك؟

=أجل, أنا هو يا سيدي.. فكني أرجوك.

-كيف سرقت؟

=لقد قفزت من نافذة البيت الموازي يا سيدي.

لم يتمالك العقيد نفسه من شدة الإغراب بالضحك, و قال جملته متقطعة جراء القهقهة "يابن الكلب, لقد تمت السرقة بالطابق الثامن". تابع هز رأسه و التبسم بارتياح و هو يفتح ملفا أزرق كان بين يديه, و راح صوته يُطلى بالصرامة كلما أمعن بالقراءة التي ابتدأها بقوله "الإسم: واثق حسن التميمي.." و قاطعه المساعد وليد لا إراديا بفرقعة – عفطة – من فمه, الأمر الذي أزعج العقيد إذ رمقه الأخير بعينين شزرتين فأعتذر المساعد وليد بمذلة واضحة. أخفض العقيد رأسه بصرامة و أكمل القراءة "من مواليد عام 1963, العمر 23 سنة, طالب بجامعة فلوريدا للملاحة الجوية و مقيم بمدينة تلهسية", و هنا صححت بصوت خفيض "تلهاسي". صرخ بي بعد أن سحبني من ياقة قميصي المهتريء "لا تعلمني القراءة يا بني لأنني أعرفها قبل أن تضعك الماما.. و أنت يا وليد الحيوان, كيف تكتب اسم المدينة خطأ يا بغل؟". أعتذر المساعد وليد بتلعثم و لم ينس أن يصوب نظرات نارية نحوي. تابع العقيد القراءة: "أنت من مدينة النجف, حي الأمير, و الأب عسكري حاليا. هناك عدة تهم موجهة إليك أهمها مهاجمة عناصر الأمن و تكرار المهاجمة لضربك أبو قصي, و الأهم أننا نشتبه فيك كشخص قد تكون منتميا لأحزاب معارضة". أغلق العقيد الملف و قال كلماته بمكر مجرٌب بالترغيب و الترهيب:

-شخصيا, لا أحب أن أؤذيك فأنت شاب واعد و لذا فالإعتراف سيكون لمصلحتك لا مصلحتنا.

=صدقني يا سيدي.. لست منتميا لأي معارضة.. بل أنا وافد إلى بلدي كي أتزوج و أكوٌن عائلة محترمة. أرحموني من فضلكم إذ لا أود أن يُقلِق غيابي عائلتي أكثر من هذا.

أنهيت كلامي بحزن, الوقت يسبح بلجاج الصمت للحظة, عيونهم تنظر لبعضها بلغة غريبة, خلت فيها بأنهم لمسوا أخيرا الألم الذي أعيشه. و لكنهم لم يفعلوا شيئا عدا الضحك سخرية, و راح المساعد وليد يعيد كلماتي بصوت ساخر و هو يتصنع البكاء. الواقع فإن العقيد كان محترفا بمهنته, ذلك لأنه بدأ مناورته بحذر و دراية:

-لنعترف يا واثق, كلانا يعرف بأن العقدة التي عندك الآن تحجز كمية كبيرة من البول الذي قد يؤذيك أكثر لو بقي, و على هذا فإن أول عمل تقوم فيه لكي تخرج سليما من هنا هو أن تعطينا سببا وجيها كي نفك العقدة عنك.

=كيف ذلك سيدي؟

قرب وجهه لوجهي و أبتسم بخبث:

-أن توقع بالإعتراف على تهمة واحدة فقط... و سأكون معك لطيفا إذ أدفعك لأن تختار التهمة بنفسك.

وافقت على الإعتراف بضربي المتعمد للسائق, و بدت هذه أخفٌ التهم ثقلا و أذى. كانت العقدة قد حُلت و بقي عذاب خروج البول من الجسد, ثم تلتها موجات مغص عاتية. لم يكن الإعتراف بالتهمة الأولى سوى خطوة فعلية لمباشرة التعذيب و الإجبار على الإعتراف بباقي التهم, أو هذا ما فهمته بعد أن مزق الرائد سميح ما تبقى من قميصي المسود, و تقدم المساعد وليد بعدها حاملا لفرشاة عريضة تحوي سائلا كعصير التفاح. مررها على ظهري لثواني ثم ترك الجحيم لتستعر عليه و قد فهمت كل شيء, ذلك لأنه مسح ظهري بنوع من الأحماض الحارقة التي سلخت جلدي بألم فظيع أجبرني على الصراخ باكيا دونما دراية بما أقوله. لم يكترثوا لشتائمي بل أنتظروا غيابي عن الوعي لينقلونني للزنزانة. و بالرابعة عصرا, زج أحدهم صحنا بلاستيكيا من تحت الباب و تركه نصب عينيٌ المرتخيتان ألما. مددت يدي ببطء شديد إلى الصحن لأتبينه, و قد حوى على قطعة خبز و بيضة مسلوقة. دفعت الصحن بعيدا عن وجهي المستند إلى الأرض و همهمت داخلي "و من يفكر بالطعام؟". كنت منبطحا على بطني الممزقة بضربات الخراطيم و العصي, و هناك كانت ثمة جمرات تتقد على ظهري المسلوخ. أزداد ثقل التعب على عينيٌ حتى حسبت الزنزانة دامسة الظلام, و لم أحسب للحظة بأنني قد أكون مغلقا لعيوني فقط! و من بعد سحيق, هبت نسمات باردة و طرية لامست باطن قدماي برقة. لم أكن أدري أكان هذا حلما أم أن روحي قد فارقت جسدي و رفرفت فوق تلك الشوارع المقفرَة بالصباح الباكر, حيث كلٌ شيء مُثلَج بما في ذلك أوراق شجر الصَفصَاف العطرية. فكرت بالفطور الصباحي المعتاد الذي طالما أثار تبطري, بينما صارت نكهة القيمر المدخّن اللذيذ و طعم الشاي المغلي على الحطب رمزا لإثارة الحزن فيٌ. كنت أستعر حنقا بأعماقي, فماحدث لم يكن له أدنى مبرر و المشكلة التي زجت بي هنا قد تكون مشكلة شديدة البساطة, و لا يمكن أن نحطم حياة البشر وفق أخطاء أرتكبوها تحت ظروف قاهرة. لم أمعن بالتفكير أكثر لأن الحمى صارت تفتك بكل جسدي و ليس ظهري فحسب, و لقد سقطت إلى وجهي مع أول محاولة للنهوض و آخرها, ذلك لأنني فقدت وعيي.

* * *


تابع
04-04-2005, 09:05 PM
إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


الردود في هذا الموضوع
حــــــفـــلة تـــعـــذيــــب (الفصل الأول) بعد تعديلات جذرية - بواسطة ضيف - 04-04-2005, 09:05 PM

المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع الكاتب الردود المشاهدات آخر رد
  مآذن خرساء الفصل 25 ــ 32/48 رواية مسلسلة حمادي بلخشين حمادي بلخشين 0 1,069 08-04-2011, 06:00 PM
آخر رد: حمادي بلخشين
  الفصل الأخير ابن حوران 9 1,753 01-05-2006, 11:31 PM
آخر رد: ابن حوران
  حفلة تعذيب (الفصل الثاني) / بقلم أحمد الكناني 2 809 04-04-2005, 09:13 PM
آخر رد: Guest

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 1 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS