أخطأ سعادة حين قال : " أنا أموت أما حزبي فباقٍ " وكان الأجدر به أن يقول : " حزبي يموت أما أنا فباقٍ "

بينما كنت أفكر كثيراً للحال الذي وصلت إليه أحوال مجتمعي وأنا منه ، ولم أجد له منقذاً ، اقتحم الفكر السوري القومي قلبي وعقلي ووجداني .
لم يكن هذا الفكر بالنسبة لي أداة أعبر بها عن ذاتي وكينونتي ، بل كان في رأيي السبيل الوحيد للإنقاذ ، لإنقاذ الأرض والشعب والطريق الفريد إلى الدولة السليمة .
لقد وجدت في أسسه الناظرة إلى الحياة بمحبة وإخلاص وحرص ومسؤولية وعقل ، وجدت العمق والبساطة والحقيقة . كان ذلك في نظرته إلى الإنسان والحياة ، العلم والدين ، المادة والروح ، الأمة والدولة ، الديمقراطية والعلمانية ، هذه النظرة التي تعتبر أساساً يبنى عليه صرح النهضة السورية اللامحدودة التي تتماهى مع المثل العليا .
ولكن النهضة تحتاج إلى بناء مستمر يستنفر القلوب والسواعد والأدمغة الصادقة ، ولا تتم فقط بوضع الأساس النظري . ومن هنا جاءت أهمية المؤسسات المؤتمنة على هذا الفكر من أجل تعميم النهضة ونشرها ، وبناء المجتمع والدولة . من أجل هذا السبب أنشأ الحزب السوري القومي وليس من أجل أي سبب آخر . إن الحزب المؤتمن على العقيدة المنقذة للمجتمع تقع على مسؤولية أمور كثيرة منها سبر أغوار النهضة ونشرها ، والتعامل بصدق وإخلاص ومسؤولية مع احتياجات المجتمع ، والعمل المستمر على إتمام الفكر الذي لم يتم ولا يمكن له أن يتم ، وتنظيم الخطط الاقتصادية التي تعود بالنفع على المجتمع ، وطرح القوانين التي تنسجم معه وترفع مستوى حياته ، وممارسة العمل السياسي من أجله لا من أجل أي شيء آخر ، وتعميم الوجدان القومي لدى الشعب ليتمكن بدوره من كسر الحواجز المصطنعة ( النفسية والسياسية ) وتحرير كامل الأرض ، وبناء المؤسسات الرسمية وغير الرسمية ، والمساهمة في إقامة النظام الجديد الذي يكفل مصالح الشعب ، ويعبر عنه ، وينطق باسمه . ولكن هل هذا هو ما يعرف بالحزب السوري القومي الاجتماعي ؟
للوضوح ، فإن الحزب السوري القومي له جناحان رئيسان : الطوارئ والانتفاضة ، والثاني انشق عن الأول لأسباب سآتي على ذكرها ، ولكن كلاهما يسير في خط مغاير لخط النهضة السورية القومية .
فالانتفاضة هي انشقاق قام به بعض الرفقاء عام 1957 كرد فعل على الممارسات السيئة للحزب آنذاك ، وتكمن في الفساد الإداري والمالي ، والانحراف الفكري عن خط العقيدة التي وضع أسسها أنطوان سعادة ، وبعد الانشقاق احتضنت الانتفاضة رمزاً هو جورج عبد المسيح الذي أصبح المنظر الوحيد تقريباً لها .
إن الانتفاضة لكي تبتعد عن مفاسد العمل السياسي الذي غرقت المؤسسة الأخرى ، انغلقت على نفسها كنساك الجبل ، ولم تبدأ بالظهور إلا منذ سنوات . وهي تتهم المؤسسة الأخرى بأنها باعت العقيدة ( وهي فعلاً كذلك ) ، ولكنها ولكي تحافظ على العقيدة خبأتها في التراب ، دون أن تدع رياح الحياة تداعبها ، وضاع رفقاء الانتفاضة في تفاصيل تفاصيل كتابات الزعيم وجورج عبد المسيح دون أن يساهموا في بناء صرح النهضة ، فكانت أخبار الأمة والعالم هي آخر شيء يخطر للانتفاضوي سماعه ، وكانت الأمة تتأوّه بينما الانتفاضويون غارقون في بحر الكلمات والمقالات .
لا يمكنني أن أتهم الانتفاضة بأنها باعت العقيدة ، ولكن منعتها من الإثمار وكان الانتفاضويون أشبه بنساك يعيشون في صومعة ارتفاع جدرانها عشرة أمتار دون أن يخلقوا مؤسسة حقيقية تعنى بهموم والآلام المجتمع .
إنهم يذكرونني بالبيزنطيين المحاصرين في القسطنطينية يناقشون جنس الملائكة بينما كانت جحافل العثمانيين تحاصر أسوارهم ، مع فرق كبير هو أن البيزنطيين كانوا يناقشون ، بينما الانتفاضويون يرددون ويغرقون .
ولكي تبعد الانتفاضة عن نفسها هذه الشبهات ، قامت مؤخراً بممارسة العمل السياسي ، وللأسف كان عملاً سياسياً فاشلاً ، فكان اللالون واللاطعم واللارائحة هو الشكل المسيطر عليه ، لم يكن سلبياً ( كما تمارسه المؤسسة الأخرى ) ولكنه كان غير مجدٍ بالنسبة للشارع المتألم والأمة المعذبة والجائعة .
العلاقات حسنة مع كل الأطراف السياسية ولكن نحو اللاهدف ، والبيانات التي كانت تصدر في كل عاصفة سياسية تمر بها الأمة كانت كلاماً في كلام دون فعل على الأرض : بيان في حرب العراق ، بيان لمقاطعة البضائع الأمريكية ، بيان في أحداث القامشلي ثم المزة ، وكل هذا لم يؤثر بشكل حقيقي في تضميد جراح الشعب النازفة .
وكان الخطاب السياسي دائماً يدور حول نقطة معينة هي المقاومة . وهذا ضروري ، ولكنه كان على حساب أمور التنمية والإنعاش لشعب جائع أعزل فاقد الهوية .
ثم أنه أين تقع الانتفاضة من المقاومة ؟ فبينما يمارس حزب الله والفصائل الفلسطينية المقاومة بالسلاح ، تتفوه الانتفاضة بكلمة ( المقاومة ) لدرجة أفقدتها مضمونها ، بل إنهم حتى لم ينفذوا عمليات مقاومة في لبنان كالتي قامت بها المؤسسة الأخرى أيام الثمانينيات ، وفوق كل هذا فهم يقتاتون على أمجاد نسور الزوبعة ويرفعون رؤوسهم بهم ويقولون بكل فخر : " هؤلاء قوميون " دون أن يتطرقوا إلى أنهم من الجناح الآخر ، هذا هو الكيل بمكيالين .
لقد اغتم كثير من الانتفاضويين – وكنت منهم آنئذٍ – حين حاول الجناح الثاني أن يطق لهم برغي عند السلطات المعنية لمنعهم من إقامة محاضرة لعميد ثقافة الانتفاضة في جامعة حلب ، وهم محقون في ذلك ، ولكنهم وبعد سنتين يقومون بمنع طلبة سوريين قوميين غادروا تنظيمهم من المشاركة باحتفالات الشعب بعيد الجلاء ، وكان هذا الموقف مثالاً جميلاً للكيل بمكيالين ، وإلغاء الآخر ، وكل القيم السلبية التي تتنافى مع ما يقرؤون في كتابات الزعيم . كما أنهم مارسوا الكذب حين ادعوا زورً بأن هؤلاء الطلبة الذين بدلاً من أن يعيدوا تقييم عملهم وسبر أغوار نشاطهم الذي أدى إلى هذه المغادرة الجماعية .
هل هذه هي القومية الاجتماعية ؟ إذا كانت كذلك فقبحت من عقيدة ، ولكن الجميع يعلم أنها ليست كذلك بل هي قيم حق وخير وجمال .
وقبل أن أختم كلامي عن الانتفاضة أود أن أقول أن أي حركة تنشأ على أساس رد الفعل هي حركة باهتة تزول بزوال الفعل .
وعلى هذا فإن وجود مؤسسة الطوارئ بأخطائها القاتلة شرط ضروري لاستمرار الانتفاضة المستفيدة جداً من الفساد في الطوارئ .
أما الطوارئ ، وهي المؤسسة الأضخم والأثقل والأغنى والأشهر والأكثر شرعية ، فأخطائها قاتلة ومميتة وفوق كل هذا مكشوفة للخارج ، وبادية للعيان في حين ذلك غير موجود في الانتفاضة . ولقد أثبتت هذه المؤسسة أنها لا تعبر عن العقيدة لا نظرياً ولا عملياً : فساد ، محسوبيات ، تجسس ، واسطات ، معاملة منية مشعوذي سياسة ، تجار عقيدة ( بأسعار سوق الهال ) ، طق براغي ، صفقات اقتصادية مشبوهة ، تعبير سيء عن الروحية القومية الاجتماعية ، تشويه لاسم الحزب .
وأما صفات هذا الحزب فهي على سبيل المثال لا الحصر :
1. هذا الحزب العظيم خريج حروب أهلية ( دون إنكار دوره في المقاومة الوطنية ) فوقف مع اليمين المسيحي عام 1958 ضد الناصريين والقوميين العرب ، ووقف مع اليسار والفصائل عام 1975 ضد اليمين المسيحي .
( خسر الكل ) .
2. قد تصل شخصيات مشبوهة ( ربما أمينة ) إلى سدة المناصب في هذا الحزب ( بعض هذه الشخصيات كانوا تجار حشيش أيام الحزب اللبنانية ) وهيك شخصيات غير ربك ما بيشيلها !
3. يتسم هذا الحزب بخاصية ركوب الموجة فاعتلى موجة اللبننة مع كميل شمعون ، ثم موجة اليسار والاشتراكية ثم موجة العروبة فالإسلام السياسي وكل هذا على حساب العقيدة .
4. يفضل هذا الحزب الإفلاس القومي على الإفلاس المالي .
5. يفضل هذا الحزب علاقات مشبوهة بين لبنان والشام بدلاً من علاقات سوية تسمح بانتشار القومية السورية كفكر منقذ .
6. يحب هذا الحزب طرد بعض العناصر النظيفة ، وتسهيل ترك البعض الآخر للتنظيم . إيماناً منه بضرورة التجانس والتفاهم بين أعضاء الحزب كافة . ( ملاحظة : القوميون خارج الحزب يشكلون ما يقارب 80% من القوميين ويعتبرون من أنظف القوميين يداً وفكراً ) .
7. يمارس هذا الحزب السياسة على حساب أي شيء : الوحدة الاجتماعية والوطنية ، تعميم الوجدان القومي ، سمعة الحزب ، القومية السورية التي تستبدل بأي شيء آخر إن دعت الحاجة .
وهنالك كثير من الجرائم نسيتها ( لكثرها ) أو تناسيتها مارسها ويمارسها هذا الحزب الذي يعتبر حزباً سورياً قومياً اجتماعياً .
إنني أعلن بصفتي ابناً للنهضة أن النهضة السورية القومية الاجتماعية تبرئ ذمتها من الحزب السوري القومي الاجتماعي ، بصومعجيته وزعبرجيته .
إن النهضة لا تكيل بمكيالين ، ولا تحيا الانفصام ، ولا تتاجر بالحشيش ، ولا يهمها سوى سوريا والسوريين .
إن النهضة ترفض النعرات الإقليمية والاثنية والطائفية .
إن النهضة لا تحول أنطوان سعادة إلى صنم ووزنة مطمورة في الرمل ، ولا تعتبره حصاناً تعتليه متى شاءت وتترجل عنه وقت تريد .
إن نهضة أنطوان سعادة تريد ما أراده أنطون سعادة : أن يفكر كل السوريين بإخلاص من أجل سوريا ، وإن يعملوا لها ، وأن يحيوها ويحيوا معها وبها ، وأن يبنوا بأيديهم ما وضعه بتعبه وختمه بدمه .
لقد أخطأ سعادة حين قال : " أنا أموت أما حزبي فباقٍ " وكان الأجدر به أن يقول : " حزبي يموت أما أنا فباقٍ "

الكاتب: رامي سباط