لم يبق سوي دفعة وينهار الجدار
2005/06/17
حمدان حمدان
مرة اخري، تحرز الادارة الامريكية فشلا ذريعا، في التعاطي مع الشعوب، ومعتقدات الشعوب واعرافها في تقاليد راسخة منذ آلاف السنين، مؤثرة قصر النظر في حكمة التعلم من دروس التاريخ، وقد سبق لنا الاشارة، الي ان تاريخ امريكا القصير، لا يسعفها في بلوغ وجهين من وجوه الحضارات التاريخية، وهما قابليتا التأثر والتأثير.
فكل حضارات التاريخ المبنية علي اسس العلوم والفن والذوق والفكر.. انما هي خلاصة استقبال وارسال، فالاغريقية كانت قد نهلت من السومرية قبلها، والرومانية هي وليدة جماع بين شعوب الآرية، والعربية هي عصارة حضارات بابلية ـ كنعانية، وهندو آرية، وصينية، حيث المولود في تراجم وفلسفات اغريقية، نمت وازدهرت الي الحد الذي صاغت معه شكلها المستوفي والمستقل، حيــــــث انوار العلم الاندلسي، تنير النفق المظلم في حياة قروسطية اوروبية.
وباعتبار ان امريكا، هي البلد العالمي الاول في التقدم، علي كل صعيد، فاننا نفترض ان العلوم الانسانية في حقولها الشاملة، لا يمكن ان تغيب عن مفكريها العظام، بل هي في الصدر منها، لكن العلوم شيء، والسياسات شيء اخر، فاذا كان خير العلم لوجه الانسان، فان السياسة ليست هي الفن لوجه الفن، بل لخصوصية التعالي لانسان فوق اخر، وتاليا لشعب فوق غيره.. فعلوم التاريخ، تعطينا اوجه حقائق الماضي، بما فيها حقائق الخير والشر في التاريخ الانساني، ومهما قيل عن التاريخ الذي يكتبه المنتصرون، الا ان ذلك الي حين، فما ان ينقشع غبار التدليس، حتي تعود الحقائق الي مواضعها الطبيعية، مهما كان الذكاء في التحريف والتأويل، فهناك ركام من تاريخ المنتصرين لا سقف له، ومع ذلك فانه يتراجع رويدا رويدا، ليستقر في النهاية علي قارعة طريق التاريخ دون اسف، ويتبين اليوم اكثر فأكثر، افتضاح يقينيات كانت كونية، ثم ما لبثت ان تحولت بمكر التاريخ، الي هزء العالم واستخفافه، حتي ان منتصري التاريخ، لم يعودوا علي شجاعة التقرب من ذكرها، فالشعب المختار لا محل له في اعراب العصر، والحركة الصهيونية تأكل نفسها من داخلها، وعبيد روما لم يعودوا في محور الشر، وامريكا لم تكن ارضا للبيض، والهنود الحمر ليسوا من كنعانيي ارض الميعاد، وارض الميعاد لم تكن في فلسطين، بل في المخيلة، وزنوج امريكا، لم يكونوا في دونية الانسان الطبيعية كما جاءت عليها الرينانية المتحذلقة، والجزائر ليست امتدادا طبيعيا للارض الفرنسية، فوق اعالي البحار، او من تحت قيعانها، والاتحاد السوفييتي ليس امبراطورية الشر، الا بمقدار ما كان مناوئا، لامبراطورية (الخير) الرأسمالية، وكوبا لم تثبت التحاقها بفلوريدا، ونيومكسيكو وتكساس واريزونا.. صارت امريكية بقوة الضم في الحرب وليس بالاستفتاء، ومشروع القارة الامريكية للامريكيين، لم تصوت عليه شعوب الامريكتين الوسطي والجنوبية في يوم من الايام، وقرن الاستعمار لم يثبت صلاحيته في تمدين شعوب ونقل امم، وامبريالية بريطانيا ووارثتها الشرعية امريكا، لا تستطيع الاعتذار عن تاريخ سابق، واستمطار تجربة جديدة في وعود لاحقة، والاسلام ليس دين الارهاب والقسوة، فأعظم المؤرخين الاوروبيين (اذ ليسوا هم من العرب ولا من الاسلام)، افادوا بنزاهة الشرف والحقيقة (ان التاريخ كله، لم يعرف فاتحا ارحم من العرب)، وبين هذا القول المأثور، والاتهام بالقسوة والارهاب، اقل من قرن، فكيف مع هذا العمر الزمني القصير، تتحول الرحمة الي قسوة، والتسامح الي ارهاب؟! الا لغايات مسبقة وتحضيرات مبيتة لغزو ديار المسلمين، من طريق الحرير، الي منابع الطاقة الكونية في هذا العالم.
لم يصبر التاريخ طويلا، كي يكشف فضائح المنتصرين في حرب العراق، فليس في التاريخ العالمي، ما هو اسرع من التاريخ العراقي، في كشف زيف الادعاء ومراوغة الذرائع، اذ رغم المخزون الهائل، في مستودعات احابيل واكاذيب، لقطب القرن الاحادي، فان الفضيحة الكبري جاءت من ارض الميدان، ذلك ان الذرائع كمشهد السراب، كلما اقتربت منه، فانه ينتقل الي الجهة التالية، وقد اكتشف الصحراويون السراب منذ الاف السنين، دون ان يفسروا حقيقته العلمية، لكن انكشاف سراب الخداع في العراق، لم يكن بحاجة التجربة الانسانية وحقائق العلم، فشعوب العالم كلها، بما فيها شعب الولايات المتحدة، كانت تعرف مسبقا، لماذا يغزو بلد مثل الولايات المتحدة العراق!
ولو ان الاستخفاف بالسياسات الخارجية الامريكية، ظلت تضرب جذورها في مجتمع القوة الاحادية، بحيث يطمئن الامريكي لانتصاره المحقق، وان هذا الانتصار يلغي اخلاقية الحق والباطل، طالما انه يجلب المنفعة قبل الزهو بعلم المنتصر، حيث يجد مكانه بين سيقان فنانات هوليوود مع التصفيق الشديد من الجمهور.
فالشعب الامريكي لا يكاد يصحو من خمرة النشوة في الانتصار، الا علي وقع قاطرات الاكفان الملفوفة بالعلم نفسه، اذ كلما يزيد عديد هذه القاطرات، كلما استفاق من تثاؤبه المثقل بأسئلة الدخل والضمان والضريبة.. غير آبه بمصائب الشعوب التي تسببها سياسات اداراته الخارجية.
اليوم، تزداد قاطرات الاكفان الامريكية من العراق، ومهما كانت الارقام التي يتم الاقرار بها، فانها ارقام كافية لاستحداث الخضة المطلوبة، بدليل ان اكبر العتاة المطالبين بشن الحرب علي العراق، ينقلب اليوم الي داعية من دعاة الخروج من العراق، انه السيناتور وولتر جونس، عضو لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس عن ولاية كارولينا وعن الحزب الجمهوري نفسه، فقد دعا الرجل، مع مجموعة نيابية جمهورية وديمقراطية، الي تقديم مسودة قانون لتشريع عملية الانسحاب من العراق، ورغم ان المتحدث باسم البيت الابيض السيد سكوت ماكليلان، قد عرض ذات الفلسفة البوشية، في المهمة الاخلاقية لجيش امريكا في العراق، مزودة بمهام القضاء علي الارهاب وما يهدد امن امريكا، الا ا استطلاعا للرأي اجرته الواشنطن بوست ، افاد مؤخرا، ان 52 بالمئة من عديد العينة افادوا (انهم لا يصدقون ان الحرب علي العراق كانت قد شنت بهدف حماية امن امريكا)، وان معظم البقية الباقية من العينة، كانوا مترددين ازاء هذه الذريعة. ويفيد استطلاع آخر، لمعهد غالوب، وهو من اهم معاهد استطلاع الرأي في الولايات المتحدة (ان 59 بالمئة وبواقع ستة من عشرة) يقولون بوجوب عودة الابناء من العراق، فقد (حان وقت الانسحاب ولا ضرورة لمزيد من المكابرة). وفي استطلاع ثالث، اجرته (يو اس توداي) منذ اقل من اسبوع بحسب فضائيات عربية اليوم (14 حزيران ـ يونيو 2005) فقد افاد الاستطلاع ان (57 بالمئة من مجموع العينة، يقر بضرورة الانسحاب العاجل من العراق).. وتضيف: ان مظاهرات ضخمة ستعود الي شوارع وساحات المدن الامريكية، تطالب بعودة الابناء الي وطنهم من العراق ، اما المحلل السياسي العربي منذر سليمان، فيؤكد عبر فضائية الجزيرة (صباح يوم 14 حزيران 2005)، علي لسان الجنرال الميداني آنستون في العراق، ونقلا عن صحيفة فيلادلفيا بأن الحل العسكري قد فشل في العراق، وان علي الادارة في واشنطن ان تفتش عن حلول اخري .
انه المشهد ذاته، قبيل هزيمة العار في فيتنام، ففيتنام لم تهزم القوة الاولي في العالم، بل جعلت منها قوة غير قادرة علي التحمل، سواء في عديد الخسائر البشرية او المادية، كذلك هو عراق الابطال اليوم، ولئن استفاقت المقاومة الفيتنامية بعد عقد من الاحتلال الامريكي، فان المقاومة العراقية استفاقت بعد يوم واحد من احتلال بغداد، او لعلها كانت في حالة جهوزية لمجابهات مجيدة، لا مكان لها في قواعد حرب نظامية.
ومع اشتداد ساعد المقاومة، تكون الفزاعة في محاكمة الرئيس صدام، وكأن صدام لم يكن مشروعا استشهاديا من اجل العراق، ولو كان غير ذلك، لارتضي باغواءات الخروج من العراق، قبل ان تذر الحرب قرنها بسنوات، فقد عرض علي الرجل، من زينة الدنيا وتفخيم التكريم ورفاه العيش الهاديء مع الاسرة والاقارب في اي مكان يختاره في هذا العالم، بعيدا عن كل القرارات الجائرة التي اتخذها مجلس الامن ضد العراق، وبعيدا عن دونية الاتهام وحضيضية الايهام في محاكمة ملفقة بشهود زور يكذبون مثلما يتنفسون، وها هو كريم شاهبور الذي يكذب حتي في اسمه (موفق الربيعي) يتوعدنا بمحاكمة قريبة وعاجلة، قبل التصويت علي الدستور، وبلكنة ايرانية مفضوحة (ان شاء الله)، وهذه اللكنة غير قابلة للكتابة، لان اساسها اللفظ وليس الحرف، والا لكنا كتبناها باسم لفظ الجلالة المخفف بالرفع او النصب وتبقي كلمات ختامية للتاريخ، فصدام كان للعراق، ولم يكن العراق لصدام، فما من قائد بعد أفول نجم عبد الناصر، كان اشد اخلاصا لبلده وأمته مثل صدام، وهو ما تقيمه الشواهد في المدارس والمستشفيات والطرق العراقية في اليمن، والطائرات المدنية والعسكرية للسودان، والاطباء والادوية والمعلمون والمشافي والمدارس لموريتانيا، ومعونات مالية نقدية لجميع اهل الشهداء في فلسطين، ومعونات نفطية للاردن، ومليون عامل زراعي مصري الي العراق، ومعونات مالية وعينية الي الجزائر.. فما من اقليم عربي، الا واراد صدام اشراكه في ثروته العراقية، وهي ارقام موثقة لا بلاغة انشاء، فصدام لم يبلغ احد معه او بعده، ما وصل اليه، ولئن اخطأ، والاخطاء والخطايا من طبائع الحياة في زلات حكم وضرورات انتقال، فان مقاومة المحتلين تجبّ الاخطاء والخطايا، وصدام هو النقيض لايات شيطانية مقلوبة، اريد نشرها عنه، فقد كان يسبر الاغوار في طلب نجاح مهمته كما رآها، من دون ان يبالي بما يعترض سبيله من مصاعب، لانه ما كان ليرتاع من اصطدامه المروع بالفجائع، حيث توقعها وراء كل خطوة وقرار، وهو قبل الاعتقال، كان مواطنا في كهف لا في قصر، يتجشم عناء الحر والقر ونوم التراب وافتراش الحصير، بعد ان القي خلف ظهره، متعة العيش ونعمة الولد ورغد البهاء في حياة الرؤساء، ولو اراد لكان له ذلك وفوقه قبل اي حاكم عربي آخر، حين لم يكن ينقصه لإدامة مباهج حياته في صولجان عرشه.. سوي ان يرفع السماعة ليتحدث مع تل ابيب.
والمشكلة ان صدام لا يتحدث مع تل ابيب، فيما امعات الاحتلال بعده، يفعلون ذلك، والمشكلة ان صدام يقطع يد السارق من اموال الشعب، فيما يتم نهب العراق علي الغارب، بتقاسم ذليل، بين لابسي الاحذية وماسحيها، والمشكلة المضافة، ان مخابرات امريكا المخترق الاول، لقوانين سرية المصارف، لم تعثر علي رصيد بدولار واحد، لصالح صدام في الخارج، والمشكلة الرابعة ان صدام، كان مشروع العراق للخروج من النفق، وقد قطع اشواطا علي الطريق، الا ان (الديمقراطية) الامريكية، قررت اعادة العراق الي العصر الحجري، افتداء لمصير شعب الله المختار.
واليوم انه الفدائي صدام، وليس الرئيس صدام ولا الاسير، وهو ما اعطي ويعطي معني لحياته ودوره ومهمته التي نذر حياته في سبيلها، فالرجل رأي العراق من عرض تاريخه لا من ضيق حاضره، وقد احزنه ان امة العرب بملايينها وقدراتها وجدارة تاريخها، لا تستطيع شيئا امام تحدي الانتقال، لا تستطيع شيئا امام اسرائيل، فكان قراره الخروج من النفق، بتأميم نفط وتحديث بنية ضرورية ومزدوجة، مدنية وعسكرية بآن واحد، وهو الطريق ذاته، الذي سلكته شعوب الحداثة في القارة الاسيوية، مثل اليابان والصين والهند ونمور آسيوية اخري، اما اثمان الانتقال فهي مكلفة ومحزنة بآن.
اما المشكلة الاخيرة (من وجهة امريكية بالطبع) فان نظام صدام، احدث خرقا فاضحا، بين دول نفطية ريعية (خراجية) ودولة ذات نسق تنموي يدفع بعمل الانسان نحو القداسة، ففيما النفط بحسب خارطة اقليمية، تؤول ثروته لجيوب الخارج الاجنبي، مع فضلة متذررة لعيش السكان المحليين واكبر منها للسلاطين، فاذا بصدام يحول الثروة الي اجتراء علي الحاضر في سبيل بناء المستقبل، وهي مفارقة لا ترغب مصالح النفط لها ان تعيش، فاذا ما ادمج النفط بسياسات دولة وطنية خارج تقاليد ووظائف الدولة الريعية، فان حربا ثالثة عليها ان تقوم، وقد كان اجتراء صدام علي تسعير النفط العراقي باليورو، سببا اضافيا لصب الزيت علي نار الغزو للعراق.
فهل لهذا وسواه، يمكن لامريكا ان تؤجل محاكمة صدام، هل يمكنها ان تسمح بمحاكمة دولية عادلة؟ فأولي اشارات العدالة، هي الا يحاكم صدام في ظل نظام فاقد للشرعية في الاساس، فحقائق التاريخ، لا تسقط بالتقادم، والعدالة تحتاج الي قضاء شرعي وشفاف، فكيف اذا كانت السلطات الثلاث قد جاءت بقرار من الاحتلال، اما اذا كانت المحاكمة بهدف التخلص، في ظل اوضاع تكره امريكا علي الرحيل، فحذار ان تمس شعرة في مفرق صدام دون وجه حق، فازدراد الحق في حلوق الايرانيين بلبوس عراقي، او الاسرائيليين بلبوس اغوات السياسة في الشمال، انما هو بمنزلة شربة ماء، لا تحليل ولا تحريم.
ولعل من الجائز في النهاية، استذكار السيناريو اليائس للخروج من العراق، فان لم تتمكن القوات الامريكية من البقاء، فربما كان الخيار شمشون هو السيناريو الوحيد، علي ان شمشون في الاسطورة اليهودية، كان قد اسقط البناء فوق رأسه ورؤوس اعدائه علي حد سواء، لكن الامريكيين يخرجون وهم في مهمة استكمال هدم العراق فوق رأس شعبه، ففي غمرة الهزيمة المذلة، سيترك الامريكيون مصير العراق ـ ربما بما في ذلك محاكمة الرئيس صدام ـ في ايدي لصوص بغداد، او في ايدي الحثالة من باطنية لصوصية ارقي، من متعهدي المصارف! او المصالح الايرانية في العراق، وقد يضطر السيد السيستاني للسفر الي لندن، لمعاينة اوضاع قلبه من جديد، وليتذكر محاكمو صدام، ان نشوة الانتقام، باتت معدودة الايام مع رحيل الامريكيين، فصدام الاسير ما زال حاكما لاوضاع العراق، وهو في الاسر، وليتذكر علقميو العراق الجديد، ماذا يفعل شعب العراق، بالساقطين النازلين ساعة الاستحقاق، وصفات (السقوط الاخلاقي) ليست من عندنا، فوزيرة الخارجية الامريكية السابقة، السيدة مادلين اولبرايت، لم تتورع عن وصفهم (بحثالة الناس من اسوأ معارضة، تعيش معظم اوقاتها في الاوكار الخلفية، لمومسات الدرجة الرابعة، في ليالي نيويورك وواشنطن).. واولئك هم في الجوهر، محاكمو صدام.
الا يحق لشعب العراق ان يتعرف علي قضاته من جديد؟! هذا اذا بقي مثل هذا القضاء مع صيف عامنا الجاري.
كاتب من فلسطين يقيم في سورية