دمشق
صحيفة تشرين
ثقافة وفنون
الخميس 25 آب 2005
أ.د. عبده عبود(
1­ياسين رفاعية يكتشف تراجعاً كبيراً في كتابات محمد الماغوط .. هكذا وببساطة لامتناهية، ومن خلال زاوية صحافية قصيرة، نشرتها جريدة «تشرين» بتاريخ 17/8/2005، «شطب» الأديب الشاعر والكاتب المسرحي وكاتب المقالة والرواية السوري الكبير محمد الماغوط، وذلك انطلاقاً من نصوصه التي نشرتها جريدة «تشرين» ومازالت تنشرها بصورة نصف شهرية منذ عدة شهور. ففي ما يشبه الضربة القاضية أو الهجوم النهائي شن ياسين رفاعية هجوماً كاسحاً على تلك النصوص، ووصفها بأنها «أصبحت تكراراً ممجاً لكل ما كتبه (محمد الماغوط) في السابق، وأن نشر هذه النصوص أصبحت تسيء اليه وتسيء الى الجريدة التي تنشرها، إنها نصوص بلا لمعة، بلا طعم، ولا رائحة، إنها باختصار لا تعبر أبداً عن الماغوط القديم الذي أحببناه في الخمسينيات والسيتنيات والسبعينيات.

كيف يفسر الأستاذ رفاعية ذلك «التراجع» الذي يرى أن كتابات الماغوط قد شهرته؟ إنه يرجعه بكل بساطة إلى حقيقة أن هذا الكاتب لم يعد اليوم كما كان، لقد ارتاح الرجل، وأصبح ميسور الحال، أكثر من أي أديب آخر من جيله إن في مرتباته التقاعدية، أو في دخله من المسرح، الذي وفر له منزلاً في أحد أحياء دمشق الراقية، هذا عدا عن الاحترام والتقدير الذي بات يحيط به بحب لم يألفه من قبل، فلم تعد هناك أسباب لغضبه من الحياة. فكل شيء أصبح متوفراً إلى أقصى ما كان يحلم به. كل شيء أصبح في حياة الماغوط هنيئاً وبسيطاً ومريحاً إلى آخر الحدود. ولم يتورع السيد رفاعية عن الإشارة إلى ابنتي محمد الماغوط، فذكر في زواية أنهما «أنهتا دراستهما وأصبحت إحداهما طبيبة» وعندما يقرأ المرء ماورد في تلك الزاوية من معلومات حول أوضاع محمد الماغوط المادية. فإنه يجد نفسه مضطراً لأن يتساءل: هل جمع ياسين رفاعية معطيات دقيقة عن الأوضاع المادية لكل أدباء جيل الماغوط، مما سمح له بإجراء مقارنة، وبالتوصل إلى نتيجة كهذه؟ وما مصادر تلك المعلومات؟؟ وبأي هدف قام السيد رفاعية بجمعها؟ وهل كان على محمد الماغوط أن يسكن في حي غير راقٍ كالحجر الأسود أو الطبالة أو دف الشوك؟ وهل كان عليه أن يظل محتقراً ومنبوذاً وملاحقاً أو مسجوناً؟ وكيف عرف الأستاذ ياسين رفاعية «أقصى ما كان يحلم به» محمد الماغوط؟ لقد كان يحلم بأن يتزوج ابنة خاله أو عمه، وأن يكون فلاحاً يحرث أحد حقول بلدته السلمية كما قال في الكلمة البسيطة التي ألقاها في مكتبة الأسد بمناسبة تكريمه. وهل كان على محمد الماغوط أن يواصل حياة العذاب والتشرد والسجون؟ وهل كان على ابنتيه ألا تدرسا في الجامعة، وأن تتسربا من المدرسة الابتدائية؟ وهل تمكنت إحداهما من أن تدرس الطب وتصبح طبيبة بفضل جهودها وتفوقها الدراسي، أم نتيجة «مفاضلة» خاصة بأبيها؟ تلك أسئلة جالت في نفسي وأنا أقرأ زاوية ياسين رفاعية «محمد الماغوط الى أين؟» وأرجح ألا أكون القارئ الوحيد الذي خطرت بباله هذه الأسئلة، تفسير مادي مبتسر للتراجعات من الملاحظ أن السيد رفاعية قد أعاد ما سماه تراجعاً في كتابات محمد الماغوط إلى التغيير الذي طرأ على أوضاعه المادية. ألا يتحكم الوجود المادي للإنسان في وعيه، وفقاً للمقولة الماركسية المعروفة؟ ألا تتحكم البنية التحتية للمجتمعات في بنيتها الفوقية؟ للوهلة الأولى يبدو هذا التفسير مقنعاً. ‏



‏

فمن الممكن أن تكون الأوضاع المادية لمحمد الماغوط قد تحسنت في المرحلة الأخيرة، ولكن هل ينعكس ذلك بالضرورة وبهذه السرعة، وبصورة مباشرة على كتاباته؟ وهل العلاقة بين الواقع المادي للأديب وبين إبداعه بهذه البساطة والميكانيكية؟؟ وهل كان كبار الأدباء العالميين فقراء معدمين؟ ‏

هل كان تولستوي عاملاً مياوماً؟ وهل كان غوته أجيراً في مطعم؟ وهل كان إرنست همنغواي فلاحاً فقيراً؟ ألم تتحسن أوضاع ماركيز المادية نتيجة مبيعات كتبه؟ وهل محمد الماغوط الأديب السوري الوحيد الذي تحسنت أوضاعه المادية؟ ألم تتحسن الأوضاع المادية لزكريا تامر وحنا مينه ووليد إخلاصي وسليمان العيسى؟ وماذا عن ياسين رفاعية نفسه؟ أما زال يعمل فراناً في حي القيمرية؟ ألم تتحسن أوضاعه المادية تحسناً كبيراً؟ وهل غاضت ينابيع الإبداع لدى هؤلاء الأدباء بمجرد أن تحسنت أوضاعهم المادية؟ ولماذا نؤاخذ محمد الماغوط بصورة ضمنية (رغم ورود عبارة: مبارك عليه) على أنه أصبح يسكن في أحد أحياء دمشق الراقية، وعلى أن ابنتيه قد درستا وأصبحت إحداهما طبيبة؟؟ أصحيح أن على الأديب أن يبقى فقيراً معدماً مشرداً ملاحقاً إلى آخر عمره كي تتوافر لديه أسباب غضبه من الحياة؟ حقاً: إذا اشترى الغني ثوباً جديداً يقول له كل الناس: مبروك!، أما إذا اشترى الفقير ثوباً جديداً¾ فيسأله الناس: من أين لك هذا؟.. نعم «الكثرة عند الشحاذ هجنة» كما يقول المثل، وكان على محمد الماغوط أن يبقى شحاذاً، من أجل أن تستمر أسباب غضبه من الحياة، وألا تفقد نصوصه تلك الروح ا لمتمردة الغاضبة، التي يقدرها الأستاذ رفاعية. وبالطبع فإننا لن نكون من الإسفاف بحيث نسأله: في أي حي يسكن، وما مقدار دخله السنوي، وماذا درّس أولاده، وما رصيده في البنك...! إلى آخر هذه الأسئلة الشخصية غير اللائقة، ولكننا نقول له جازمين: إن محمد الماغوط ليس من ذلك النوع الهش من الكتّاب الذين يغيرون قناعاتهم ومواقفهم وتتغير كتاباتهم بمجرد أن تتحسن أوضاعهم المادية، وها هو يقول في مقابلة جديدة أجرتها معه جريدة «الثورة» بتاريخ 10/8/2005: «أنا لست (حبيب قرش) الموت أهون عليّ من أن أكتب لأجمع مالاً. ‏

3­ المرحلة الجديدة تحتم ظهور ما غوط جديد ‏

إلا أن من المعروف أن الإبدع الأدبي لا يعبر عن الظروف الشخصية للأديب فحسب، بل يعبر عن أوضاع مجتمع بأكمله، وهذا ينطبق أيضاً على الكاتب محمد الماغوط، لقد تغيرت أوضاع المجتمع العربي السوري كثيراً منذ سبعينيات القرن الماضي الى اليوم، ومن ثم فإن التعبيرات الأدبية عند تلك الأوضاع ستتغير بالضرورة. وعليه فليس من المنطقي أن نطالب الأديب محمد الماغوط بأن تكون كتاباته في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ككتاباته في خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن العشرين، فالتجارب الحياتية والاجتماعية الأساسية التي يمتح منها إبداع محمد الماغوط الأدبي ترجع الى تلك العقود الثلاثة لابل وإلى ماقبل ذلك. ولئن كانت كتاباته الجديدة «لا تعبر أبداً عن الماغوط القديم الذي أحببناه، كما يقول الأستاذ رفاعية، فإن ذلك أمر طبيعي جداً،لابل بدهي، فالمجتمع القديم الذي عبّر عنه الماغوط القديم أدبياً قد ولّى الى غير رجعة، وولى معه ماغوطه إلى غير رجعه أيضاً، وحل محل المجتمع السوري القديم مجتمع جديد يتطلب ما غوطاً جديداً ليعبر أدبياً عنه، لذا فإن ا لسؤال الجوهري الصحيح الذي يجب أن يطرح على أديب عاصر كل هذه التحولات الاجتماعية، بسلبياتها وإيجابياتها، بمرها وحلوها كمحمد الماغوط يجب أن يكون: هل تمكن محمد الماغوط (أو الماغوط الجديد) من أن يواكب التحولات التي شهدها المجتمع العربي السوري منذ الربع الأخير من القرن العشرين إلى يومنا هذا بالدرجة العالية من الكفاءة والتميز والتفرد التي عبر بها الماغوط القديم عن مجتمعنا في الربع الثالث من القرن العشرين؟ إن الإجابة عن هذا السؤال لا يمكن أن تتم من خلال زاوية صحافية كزاوية ياسين رفاعية (محمد الماغوط الى أين؟) بل تقتضي الرجوع إلى كتابات محمد الماغوط في العقود الثلاثة الأخيرة لدراستها وتحليلها وتقويمها وتقييمها، و عدم الاكتفاء بالنصوص الماغوطية التي نشرتها جريدة (تشرين) خلال الشهور القليلة الأخيرة. إن تقديم إجابة مقنعة السؤال الآنف الذكر تقتضي دراسة مسرحية «خارج السرب» وكتب «سياف الزهور» و«سأخون وطني» و«شرق عدن غرب الله».. ونتيجة لتلك الدراسة النقدية نستطيع الحكم على مدى نجاح محمد الماغوط في التعبير أدبياً عن المرحلة الجديدة من تطور المجتمع العربي السوري. أما الحنين إلى الماغوط القديم فإنه لا يجدي فتيلاً ولا نقيراً ككل أشكال وأعمال الحنين إلى الماضي (النوستالجيا)، ومهما طال انتظارنا فإن الماغوط القديم لن يعود. أما ضرب الماغوط القديم بالماغوط الجديد بغرض الحط من قدر الماغوط الجديد، فهو عمل لا أخلاقي، لا أعتقد أن الأستاذ ياسين رفاعية يمكن أن يلجأ إليه. ‏

4­ ليس لهذا الحكم القاسي ما يسوغه ‏

ولكن أصحيح أن محمد الماغوط في نصوصه التي نشرتها جريدة (تشرين) في الشهور الأخيرة سيء بالدرجة التي تسوغ للاستاذ رفاعية أن يقول عنه «لاحول ولا»؟ إن حكماً بالغ القسوة كهذا الحكم لا يجوز أن يسوغ من خلال ما سمعه مطلقه «من آراء سلبية عن هذه الكتابات، لاسيما من الجيل الجديد الذي لا يعرف ماضي الماغوط» بل يتطلب قراءة نقدية متأنية لتلك النصوص، التي اختلف مع الأستاذ رفاعية ومع «الجيل الجديد» الذي يتحدث باسمه في تقويمها. ‏

5­ «الأنشوطة» أم «الأرجوحة» عنوان رواية الماغوط؟ ‏

وبالمناسبة لقد ذكر الأستاذ رفاعية في زاويته أن لمحمد الماغوط رواية وحيدة عنوانها «الأنشوطة» وأنا أعرف أن عنوان تلك الرواية هو «الأرجوحة» وهذا ما جاء في «أعمال الماغوط» (دمشق: دار المدى، 1998، ص389­594) وفي كتاب لؤي آدم «محمد الماغوط وطن في وطن» (دمشق: دار المدى، 2001، ص187 و491) والفارق الدلالي بين الأنشوطة والأرجوحة كبير، فمن أين جاء الأستاذ رفاعية بعنوان «الأنشوطة»؟ ‏

6­ كبوة نأمل ألا تتكرر ‏

وعلى أية حال فإن قراءة الفاتحة على أديب عربي سوري كبير كمحمد الماغوط ليس أمراً سابقاً لأوانه فحسب، بل هو أمر غير مقبول وغير لائق، ولاسيما إذا صدر عن أديب عربي سوري كبير آخر كياسين رفاعية، وتم بالأسلوب الشديد القسوة الذي كتبت به زاوية «محمد الماغوط الى أين؟» فمن يقرأ هذه الزاوية يتولد لديه الانطباع بأن بين كاتبها وبين محمد الماغوط عداوة شخصية، أو عداوة كار»، وأن رواء هذه الزاوية دوافع شخصية، كالحسد و«ضيقة العين» أو نعرة مناطقية بغيضة. إن ما جاء في زاوية «محمد الماغوط إلى أين؟» يسيء إلى ياسين رفاعية أكثر مما يسيء الى محمد الماغوط، الذي يشكل النجاح الكبير الذي حققته كتبه الأربعة الأخيرة أبلغ رد على ما جاء في الزاوية الصحافية السابقة الذكر، التي نأمل أن تكون مجرد هفوة أو كبوة، لا تراجعاً إلى مستوى «المجلات الفنية» فياسين رفاعية علم بارز من أعلام أدبنا العربي السوري المعاصر، نُكّنُ له كل التقدير، ونحرص عليه تماماً كما نحرص على أديبنا الكبير محمد الماغوط. ‏

‏

(ہ)­ أستاذ الأدب المقارن في كلية الآداب في جامعة دمشق، ومقرر سابق لجمعية النقد الأدبي في اتحاد الكتاب العرب (t.abboud@ses-net.org) ‏

‏