'ذكـرى غــانــيــاتــي الحـزيـنـات' لـغــابــريـــيـل غــارثــيا ماركــيز الحــــيــاة يـــا لـلحـــزن تجــعــل العــشــــاق مجـــانــــيــن بـالحـــب

"كل الأشياء سائرة في مجراها"، يقول هيراقليطس. وفي المفهوم نفسه ينطلق غابرييل غارسيا ماركيز في روايته الأخيرة، "ذكرى غانياتي الحزينات" (في العربية، عن "دار المدى، ترجمة صالح علماني)، حيث يستعرض حياته البائسة بتفاصيل مألوفة لكنها مدهشة انطلاقا من تعامله معها بشكل مغاير. للوهلة الأولى التي يلمح فيها القارىء عنوان الرواية، ثم اقتباس الكولومبي لقطة ذكية من جميلات كواباتا النائمات، قد يعتقد أن العمل لا بد سينزح نحو استعراض البطولات الجنسية التي مر بها الروائي في اعتباره شخصية مستقلة تجعل الرواية شبه سيرة ذاتية. أو على العكس من ذلك، أن الروائي سيكون مجرد راصد لأفعال إنسانية موجودة في الحياة، نافرة لكن غير مفهومة، تبعا لأسلوب دوستويفسكي، وتضاداً مع اعترافات جان جاك روسو. وفي الحالين، قد تقلق من احتمال ان يخيب أملك. لكنك ستقلق سدى.

كم يمتعض المرء حين يتذكر فكرة فرويد القائلة إن الجنس هو دافع الإنسان للاستمرار، والتي كررها كولن ولسن بشكل آخر. أتبنى من جهتي مفهوم يونغ الذي يقول إن دافع الحياة هو الذي يمنح الإنسان سيرورته. عندما أقرأ "ذكرى غانياتي الحزينات"، أراني انحاز الى ماركيز في هذا الإيمان، فهو يصنع من مغامراته الجنسية التي تبدأ بها الرواية، جزءا مألوفا وأليفا - من تفاصيل حياته. في كلام آخر، وإن يكن الجنس يصبح معه دافعا أوليا وليس ثانوياً ، فذلك لا يعني بالنسبة اليه الهدف المطلق، بل عكازة مساندة تساعدنا في تذوق الجماليات التي تحيط بنا. ماركيز، الذي يكتب جمله الشعرية المقتضبة الشبيهة بلقطات فوتوغرافية، يعكس فلسفته للحياة من موقع الكاتب المسنّ، البائس ربما، ولكن ليس الميت!

في الفصل الأول من الرواية يخلق ماركيز حواراً ذاتياً، أو صراعاً لذيذاً مع ذاته، مقتنصاً فرصة بلوغه التسعين. صراع ذكي يتناول وجود الإنسان ويتعامل معه بشكل حاد. إنه رجل مسنّ يشعر بآلام ليس للجسد علاقة بها، بل الحق كل الحق في ذلك على سنّه! في مناسبة كهذه قرر بطل الرواية، الذي كلله ماركيز بتفاصيل الإنسان اللاتيني البائس - حيث البؤس لا ينتهي أبداً على قول فان غوغ - أن يتغلب على هذا البؤس .

لغة ماركيز التي نعشقها، تتعامل مع الحبّ بحساسية عالية وجارحة في لحظة واحدة. لغة مرحة خافتة متهكمة، تجعلنا نضحك وتدفعنا في أحيانٍ أخرى الى كره ماركيز بسبب قسوته على أبطاله - أطفاله الشرعيين. لربما يرى البعض أن تصنيف هذه الرواية خارج خانة النصوص الإيروتيكية ضرب من العبثية. لكني أعتقد بذلك انطلاقا من العمق الذي يفسح لنا ماركيز أن نتوغل فيه بفحش. فحتى حديثه عن ماضٍ له خصوصيته وجماليته يُظهر بطل روايته كحيوانٍ لاهث خلف الجنس. وفي موضعٍ آخر يبرز لنا الجانب الآخر من هذا الإنسان، جانب الإله المترفع عن الدوافع الحيوانية مقابل فكرة الإنسانية فقط. و على العموم فإن الرواية تتكلم بصوت خافت حول الأجواء أو المشاهد الإيروتيكية بحيث أتذكر الهمس الإيروتيكي لدى جورج أورويل في رواية "متشرد في باريس ولندن".

"وجهي البائس لكن ليس الميت"، هكذا يكرر ماركيز بلغة متشائلة السوداوية من ذاته. فنحن نموت لأننا أكثر كسلاً من أن نجعل الحياة تستحق أن تعاش، في تعبير برنارد شو. التفاصيل البسيطة في هذه الرواية تمتلك سحراً فاتناً، فهي تستمد سطوتها من بساطتها، بطل الرواية لا يريد أن يتكلف ويحوّل نفسه قديساً يحب الأطفال والحيوانات، بل يظهر نزعته في معاشرة مراهقة عذراء كاحتفال بسنواته التسعين. لقد شعرت بوخز من هذا الكم الهائل الذي يمنحه ماركيز لغانياته اللواتي حوّلهن قسراً أو طوعاً غانيات عابرات يبلغ عددهن ما لا نتصور! هذه الهواجس المطروحة تشبه تساؤلات طفل بريء حول فكرة الله على سبيل المثال، لأنه يرتكبها بثقة ومن دون اهتمام، أكانت ترتدي اللون الأسود أم الأبيض، فهو في الدرجة الأولى يحاول أن يجعل الهر الشرس في داخله فراشة هادئة لا تضر أحداً لكنها تسعى لابتلاع الكثير من الفرح لضمان استمرارها على وجه الحياة.

ذكرت أن هذه الرواية تظهر فلسفة ماركيز للحياة. الإنسان الذي يتضاد مع آلية الزواج التقليدية ويتوافق بلا ندم مع اللاجدوى التي بدأت تسود جوانب حياته المختلفة. حين قرأت "الحب في زمن الكوليرا" لم تكن هنالك مساحة كبيرة للإيروتيكية قط، بل كان هنالك العشق فقط.

لربما كان هذا معادلاً للإيروتيكية في الوقت نفسه، أي أن ماركيز يلعب لعبة تورية لكن هذه المرة في الاتجاه المعاكس، فيصبح الجنس معادلاً للحب. هنا يلقي ماركيز الضوء على محاولاته المتكررة لخلق تلاحم الجسد وليس في المفهوم الذهني الذي قدمه سقراط عن الحب: الحب هو التعبير عن الرغبة في الامتزاج بالجمال من خلال المحبوب الجميل.

عنوان الرواية حملني على الظن المزعج الآتي، وهو أن تكون إحدى روايات ماركيز مشابهة لرواية فلاديمير نابوكوف، "نهاية رجل أرمل"، حيث تتناول الروايتان قصة عشق بين رجل مسنّ وطفلة في مرحلة التفتح، رغم أن ماركيز لم يلتفت للطفلة فقط بل ترك لها أن تكون عنصرا مساعداً في الحكي، بدلاً من أن تكون محوره. وبذا كان هنالك غانيات أخريات متخفيات بين ثنايا الرواية. في "ذاكرة غانياتي الحزينات" يتجنب ماركيز ذكر أي مشهد إيروتيكي مقابل تربصه بالحديث عن مشاعر في اعتباره يعيش قصة حب فذة قلبت موازينه بل وخلقت منه إنساناً جديداً. من غير المخفي أن آلية ماركيز السردية ديكتاتورية لا تدلل القارئ بل ترغمه على اقتناص الفكرة الأساسية.

يا للحزن! الحياة لا تنتظر العشاق حتى ينزعوا جروحهم ويلحقوا بها. إنها تتركهم مجانين بالحب كما يرى ماركيز، أو مرضى بالحب كم ترى سمراء "نشيد سليمان"


منى كريم
* عن ملحق جريدة النهار اللبنانية .