خلال العقود الأخيرة أخذنا كمثقفين نرص المصطلحات حول الديمقراطية و الليبرالية ، أو حول مفاهيم غير مدققة مثل الإرهاب و التخلف و التطرف و كل ذلك بدون تمحيص استنساخا للفكر الغربي . و ليس في ذلك ما يعيب سوى أن ما يطرحه الفكر الغربي من إشكاليات و مفاهيم و قيم تعبر عن مرحلة من تطوره المادي و بالتالي العقلي ( خاصة من وجهة نظر أنجلوساكسونية مهيمنة ) ،و لكن ليس بالضرورة أن تعبر عن واقعنا أو تلبي احتياجاتنا. علينا إذا بذل جهدا استثنائيا من أجل نقاش أكثر دقة و تطلبا ، حيث تعرف المصطلحات من مختلف وجهات النظر ،و أن توضع في سياقها التاريخي .
إن ما يقدمه مفكرونا العرب و للأسف مجرد انطباعات سريعة على هامش قراءاتهم للجدل الغربي ، إن مفاهيما مثل العولمة و الحداثة و ما بعد الحداثة ، التي يصرون على نقلها حرفيا إلى مناخنا الفكري ، هي مفاهيم ذات مفاتيح و مرجعيات غربية تخص التاريخ الاجتماعي و الاقتصادي لأوروبا الغربية و أمريكا . وعندما نراجع الخطاب و الأدبيات الفكرية لمثقفينا سنجد أننا غالبا أمام مجموعة من اللاهثين الذين يقدمون مزيجا من الخطاب الحماسي و الكتابات الصحفية ممزوجة بلغة أكاديمية ، و هي غالبا منقولة مباشرة عن كتابات غربية .
هناك ملاحظة أساسية حول المفكرين والكتاب العرب الكبار ، فهم مثل الساسة و مديري المجتمع و .... .يتميزون بصفتين هما : سيطرة الشيوخ على كل شيء .بحيث يصبح الأحدث سنا ( ولا أقول الشباب ) مجرد متلقين كما يتجه الجميع إلى الاتفاق و ليس التنوع و الاختلاف ، مما أصاب حياتنا الفكرية بالركود .
إن معظم الأفكار التي يقدمها لنا هؤلاء الأكاديميون و المفكرون الشيوخ هي أفكار منقولة إلى اللغة العربية و يجري تسويقها كنتاج ذهني لبعض الكتاب متترسين خلف شيوع الجهل و السطحية .
ما دفعني لإعداد هذا الشريط هو محاضرة سمعتها لدكتور أمريكي في العلوم السياسية ، كان يشرح خلالها مفهوم الليبرالية الأمريكية فجاءت محاضرته أشبه ما يكون بالحديث عن الاشتراكية !. هذه المحاضرة جعلتني أعيد النظر فيما قرأته في المراجع و الموسوعات الغربية ذاتها عن مفهوم الليبرالية لأجد اختلافا تاما في مفهوم الليبرالية ليس فقط بين منتسبي الثقافات المختلفة بل داخل حزمة الثقافات الغربية المهيمنة . هكذا استقر رأيي على إعادة صياغة مفهومي لمصطلح الليبرالية على هيئة نقاط و أطرحها للمناقشة العامة مستعدا لتقبل مختلف وجهات النظر .
وهاهي تلك النقاط .

1- الليبرالية ليست نمطا قياسيا أو منتجا نهائيا محدد المواصفات ، بل هي اتجاه ثقافي متجدد ، لا يقيده سوى الانتماء للإنسان كونه فردا و محورا للكون ، و من ثم فالليبرالية هي في جوهرها الولاءٌ لقيم الحداثة والتنوير ، و إسباغ الشرعية على ما يفضي إلى سعادة الإنسان و حريته. إن الليبرالي يرى أن الحكم التاريخي على أي ثقافة أو حضارة مهما كان إنجازاتها المادية هو بمقدار ما تتيحه تلك الثقافة من حرية و سعادة لمنتسبيها و للآخرين.
2- إن الليبرالية تعني رفض كل أشكال التمايز على أساس الدين أو الجنس أو العرق أو المكانة الاجتماعية و الاقتصادية ، وليس هناك دين أو دولة أو شعب أو طبقة أو حزب يمكن أن تدعي لنفسها حق تمثيل الحقيقة المطلقة ، أو الحق في حرمان الآخرين من الحرية ، لأي مفهوم فكري أو سبب مهما بدا ساميا . إن التسامح هو العنصر الأساسي لليبرالية ،و لكن مبدأ التسامح لا يعني منطقيا التسامح مع عدم التسامح ، حتى لو حظي عدم التسامح بقبول الأغلبية .
3- الليبرالية هي رفض التناول العقائدي للأفكار ، مع التحريض على التنوع الفكري و الثقافي ،ورفض التحيزات الأنانية و الأحكام المسبقة ، و هي حرية العقيدة و الفكر و التعبير ، و الحوار السلمي بالكلمة و ليس بالرصاصة ، بالرأي و ليس بالقهر ، بالحوار و ليس بالإرهاب ، باللين الواثق و ليس بالعنف الطائش . إن الحرية الثقافية هي أحد الحقوق الثابتة و الأساسية الإنسان ،و إن هذه الحرية بالأساس هي حق الإنسان أن يختار ما يشاء من الأفكار و الثقافات ،و أن يمتلك الحق في قبول ورفض ما يشاء منها ، خاصة تلك التي تتناقض مع أفكار سلطته الوطنية .
4- هي فصل الدين عن الممارسات السياسية ، فالدين لله و الأوطان لشعوبها ، والليبرالية لا تعترف بالحق الإلهي في ممارسة الحكم ،ولا تعترف بأي دور لرجال الدين خارج أماكن العبادة، ورفض أي وعاء للشرعية غير تلك التي تفرزها صناديق الانتخابات الشفافة ، في مناخ حر يتساوى فيه الجميع في ممارسة الحقوق السياسية بشكل آمن غير مقيد ولا موجه .
5- الليبرالية هي حكم المؤسسات و دولة القانون ، و فاعلية و ازدهار المجتمع المدني ، وهي أفضلية تأمين حقوق الإنسان الفردية على أي قيم أخرى تتعارض معها ، مهما كانت هذه القيمة مبررة و نافعة . و تقوم الحياة السياسية الليبرالية على آراء متعارضة تتصارع حتى يكتب الفوز لإحداها ، على هدي الجدل العقلي الحر النزيه ، و إن إخماد الرأي قد يخمد حقا ،كما أن الحقيقة لا تكتمل سوى بتكامل الآراء ، و تأكيد الثقة في الرأي الصواب ، كما أن إحياء الأفكار تكون بمناقشتها و منعها من التحول إلى نصوص جامدة جوفاء . لهذا لا يجوز الحجر على حرية المناقشة ولو تجاوزت حدود العرف و الآداب ، لصعوبة تعيين هذا الحد الفاصل .

6- الليبرالية تقوم على تقديس الحريات الفردية و رفض كل صور الاستبداد وما يفرزه من أنظمة شمولية مهما كانت مسمياتها و أهدافها ، سواء في ذلك الشموليات الدينية أو العلمانية ، و ذلك يشمل على سبيل الإيضاح الشموليات الدينية و الماركسية و القومية و السلطوية و العسكرية و الوطنية الشوفينية . إن لكل فرد أن يختار لحياته ما يرضيه وما يجعله متميزا عن غيره ، وما يتفق مع خصاله و سجاياه .ولا يميز الإنسان عن الحيوان سوى الذكاء و الفطنة ،وهما في حاجة إلى مران ،و الإنسان الذي يفتقدهما مجرد حيوان بهيم . إذا قهرنا الإنسان على التقليد ، فإنه يفقد ملكة النقد و التفكير و تبلد ذهنه ، أما الذي يختار لنفسه ، فإنه يلجأ إلى التفكير و التأمل و الاستفادة الواعية من تجارب الآخرين ، لذا فهو يختار أفضل المتاح أمامه عن بصيرة.
7- الليبرالية تؤمن بحق الشعب الحصري في صياغة الدساتير وسن القوانين ، مستلهما القيم الإنسانية و مصالحه العليا ،و بحثا عن الحرية و السعادة في مستقبل واعد و ليس استنساخا لماض مقبور .
8- الليبرالية هي النقيض من السلفية الدينية و الفكرية و الأصولية السياسية ، وهي الموقف الانتقائي من التراث احتضانا و تطويرا لما هو عقلاني و إنساني و مفارقة لما هو إقصائي و أسطوري و كهنوتي . و الليبرالية أيضا تعني الانفتاح على الفكر و الثقافة العالميين ،و التحرر من عقد التميز و الخصوصية و الخوف المرضي من الآخر و رفض بارانويا الاستهداف و الحروب الدينية .
9- رفض السياسات التوسعية و حل المشاكل بالقوة العسكرية أو الضغوط الاقتصادية أو الإكراه خارج إطار الشرعية الدولية ، و حتى في هذه الحالة يجب حصرها في أقصى حالات الضرورة ،والليبرالية أيضا ضد عسكرة المجتمعات و تكوين المليشيات و ممارسة السياسة خلال القوة .
10- هي أن يتسامى الإنسان فوق التعصب للانتماءات الأنانية و الغرائز البدائية ، وهي لا تلغي الانتماء للمجتمعات المحلية ، بل تعني تكامل الانتماءات من العائلة الصغيرة حتى الأسرة الإنسانية .
11- إن الليبرالي يرى أن المناقشات المذهبية التي تستند على المنقول ،و تستمد مادتها من الكتب المقدسة ،و ترتفع بها فوق كل جدل ، هي مجادلات عقيمة لا تكشف عن جديد . وقد يرى البعض أن المبادئ الثابتة المقررة خاصة المرتبطة بالعقائد الدينية تعبر عن الحق الكامل ، فإذا بشر الإنسان بغيرها كان ضالا مضلا ، ولكن هذا الرأي يناقض الحقيقة أن أروع ما في تراث الإنسانية من مبادئ الأخلاق بشر بها رهط عرفوا الأديان و أنكروها ،ورفضوا الإيمان بها .
12- إن الرأي العام هو العدو الأول للفردية ، فهو يكبت كل خروج عن المألوف يستوي في ذلك الاستهتار و العبقرية ، فبذلك تضعف العزائم و يميل المتميزون إلى إنكار تفوقهم ، و يسود نموذج وسطي جامد ينتهي بانحلال المجتمع و خموله .إن الإصلاح و الحرية كلاهما مخالف لسلطان العادة التي تتحكم في الرأي العام ،و لن تستطيع الحكومات الديمقراطية الارتفاع عن مستوى النموذج الوسطي في كل ما تقوم به من أعمال .لهذا يجب على المجتمع أن يترك الحرية الفردية للمواطنين ،و ألا يتدخل أكثر من الضروري في حياة أفراده .

تسجيل الدخول
اسم المستخدم:
كلمة المرور:	فقدت كلمة المرور؟
	تذكرني

المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع		الكاتب	الردود	المشاهدات	آخر رد
	الحل الثالث : الليبرالية الاجتماعية	الجواهري	0	479	09-10-2013, 02:45 PM آخر رد: الجواهري
	يوم الأرض "الخالد"	Dr.xXxXx	10	965	04-16-2013, 10:24 PM آخر رد: على نور الله
	إعلان السابع من مايو “يوم الليبرالية” الأول في السعودية ..	بسام الخوري	1	749	05-08-2012, 02:32 AM آخر رد: بسام الخوري
	رد الدكتور سليم العوا علي الشيخ حازم شومان بشأن أفكاره عن الليبرالية	فارس اللواء	5	2,839	08-03-2011, 09:05 PM آخر رد: فارس اللواء
	الأرض ذات الصدع	THE OCEAN	4	1,266	08-30-2010, 02:20 PM آخر رد: فلسطيني كنعاني