محمد بن علي المحمود
الأصولي المتطرف ليس دائماً واضحاً؛ فقد يمارس التقية في تعاطيه مع هذا الإرهاب الصارخ، إلا أنه يبدو أكثر وضوحاً في تعاطيه مع المسائل الاجتماعية التي تتقاطع مع اهتماماته الايديولوجية الخاصة، والتي كثيراً ما تكون ميادين للصراع الفكري المعلن ؛
يقع التسامح - كمفهوم وكممارسة - على الحدود الفاصلة بين القيم المتفق عليها إنسانيا والقيم محل النزاع. ليس هو مشتركا انسانيا، فليس على كل حال، وفي كل سياق، يكون الاتفاق على أن التسامح قيمة مثلى، بحيث تتضافر الفواعل الاجتماعية لتعزيزها. بل ربما كان اللاتسامح، هو القيمة المصرح بها في بعض المجتمعات، والمعلن عنها بكل فخر واعتزاز.
لاشك أننا - كعرب - نحمل إرثا ليس رضيع تسامح. ولهذا، فليس غريبا أن تتشرذم الهموم العربية قبل الواقع العربي. الواقع العربي/ الإسلامي مفهوم في ظل سياق الثقافة الموروثة. لقد قال جدنا العربي منذ القدم: «ولكنا سنبدأ ظالمينا»، و«من لا يظلم الناس يظلم»، وكما قال الآخر عن قومه يعيرهم بالسلام؛ بأنهم «ليسوا من الشر في شيء وإن هانا»، وكما قالت العرب جمعاء، في زمنها العروبي المتوحش: «رهبوت خير من رحموت»، أي المرهوب خير من المرحوم.
إذن، فالتسامح في سياق التوحش، ليس قيمة اجتماعية؛ لها من المكانة الاعتبارية مالها في سياق التأنسن، كما في الحضارة المعاصرة. التسامح في سياق التوحش يتم تفسيره - وربما إنتاجه إلى حد بعيد - على أنه ضعف ووهن وخنوع واستسلام؛ لأن القيمة مرتبطة بأنساق السياق العام (التوحش). ولهذا لم يقبل العربي القديم السلام - كتعبير عملي عن التسامح - إلا في الاستثناء النادر، الذي تمليه حالة الضعف غالبا؛ لأن السياق كان سياق حرب وتظالم!، وليس مجرد ظلم. وربما لازال السلام العربي المعلن، مقرونا بهذا الاستثناء، أي أنه ليس سلاما نابعا من كون السلام والتسامح قيمة في وعي الإنسان العربي.
لكن، ليس هذا التأزم المشكل هو المهم الآن، وإنما المهم - هنا - طريقة التعاطي مع مفهوم التسامح، خاصة بعد ان اصبح هذا المفهوم في هذا السياق المدني المعاصر قيمة عليا؛ تفرضها ثقافة العصر (الغريبة)، أو قوانين العصر الأممية (وهي غربية أيضا). لا يهم هنا، هل هذا التنافس في استحضار قيمة التسامح، نابع من قناعة، أم هو مجرد تكتيك مرحلي، تمارس كافة الخطابات، والخطاب الأصولي خاصة. وإنما المهم: كيف يفهم التسامح لدينا، وما هي التصورات التطبيقية له، عند من يدعو إليه؟.
يتموضع التسامح - مفهوما وممارسة - في سياقات ثلاثة، تختلف قيمته في كل منها باختلاف السياق، أو على نحو أدق - يصبح التسامح (من حيث هو مصطلح عام، يطلق على التجاوز والصفح والقبول بالآخر المختلف) تسامحا؛ باعتبار السياق، وليس باعتبار مجرد الممارسة الواقعية معزولة عن علائقها في الاجتماعي المتعين. هذه السياقات المؤثرة في المفهوم هي ما يلي:
1 - التسامح في القوانين والأنظمة، سواء من حيث صياغتها التشريعية كنص قانوني معلن، أو من حيث آليات التنفيذ بمختلف مستوياتها. وواضح أن القانون المتسامح مع الانحراف، والذي يطال المجتمع الذي يحتكم إلى هذا القانون؛ ليحميه من العدوان (الانحراف) ليس قانونا متسامحا بحال، حتى وإن تراءى للبعض أن خفض سقف العقوبات الجنائية تسامحا.
المنحرف (المجرم) الخارج على القانون، هو محارب للسلام الاجتماعي الذي يتغياه المجتمع. هذا المجتمع الذي يثبت إيمانه بالتسامح من خلال خضوعه للقيود القانونية، وتضحيته بجزء من حريته - وهي أغلى القيم - في سبيل الحصول على الضمانة الأمنية للتسامح. وبهذا ندرك أن التسامح مع أعداء التسامح ليس من التسامح، بل هو من قبيل العجز والوهن، أو من قبيل الجهل بديناميكية الحراك الاجتماعي وشروطها.
ومع أننا ندرك أن كثيرا من الأنظمة التشريعية في الغرب لم يقد إليها المنطق العلمي وحده، بل كان للسياق الثقافي (وبتأثير من الديني - المسيحي) المتلبس بالعاطفي، والآتي بدوره من التموجات الحادة للتجربة التاريخية الغربية، دوره العميق في بلورة هذا التشريع، فإن حيز التسامح الذي تحظى به الضحية (ضحية الخروج على القانون أو المتوقع أن تكون كذلك) لازال حيزا محدودا؛ مقارنة بالتسامح الفج (مع أن ليس تسامحا إلا من خلال تعينه معزولا عن علائقه) الذي تتعاطى به تلك القوانين مع الجاني، والذي أصبح في كثير من تشريعاتها هو الضحية محل العناية!.
تسامح القانون ليس بترهله، وإنما يكون بقدرته على حفظ أكبر قدر ممكن من السلام الاجتماعي الذي يتغياه الأبرياء جميعا، والذي يمكن أن يفسده عليهم أعداء التسامح وأعداء البراءة في كل مكان وزمان. ومن هنا، فليس من حق من لا يؤمن بالتسامح والسلام الاجتماعي، ولا يخضع لشروط تموضعهما في الواقع، ان يتمتع بمظلتهما؛ بدعوى أن التسامح سياق عام يستوعب الجميع!.
إن فهم التسامح على أنه الصفح لمجرد الصفح؛ بعيدا عن حسابات العوائد السوسيو - ثقافية، والتي تتفاعل جدليا مع هذا الصفح، هو فهم مغلوط على أحسن الأحوال، وطرح غير بريء - للأسف - في أكثر الأحيان، واستثمار لتناقضات الاجتماعي - إبان تأزمه - في أسوأ الأحوال.
من هنا ندرك تهافت الطرح السلفي الذي كان ينادي بالتسامح مع المتطرف، والقبول به كجزء من بنية المجتمع المتسامح، مع أن هذا المتطرف يصرح بأنه يسعى لإخضاع المجتمع لمنطقه الخاص (اللامتسامح) ولو بحد السلاح. ولاشك أن هذا الطرح طرح غير برئ، خاصة عندما يأتي من قبل أحد المنتمين إلى الجذر السلفي (المتعصب)، والذي يتفق معهم في أصول المقالات؛ لأنه ليس إلا جزءا من التكتيك العام، الذي يمارسه التطرف في مراوحته بين الإقدام والإحجام.
وتختلط الأوراق كثيرا في هذه المسألة؛ لغياب التفكير المنطقي على المستوى الجماهيري؛ إذ تسعى فصائل الأصوليات المتطرفة؛ لاستغلال التقدير الاجتماعي الراهن لمفهوم التسامح، وذلك بطرح لا منطقي، مفضوح علميا، إلا أن ضحاياه كثير، خاصة في الأوساط التي لا تزال تحسن الظن بالأخطبوط الأصولي السلفي. هذه الأصوليات المتطرفة، تنادي - في سياق هذه المرحلة الراهنة خاصة - بأن التسامح لابد أن يشملها؛ بوصفها تنوعا، وإلا فهو ليس تسامحا، بل هو - بمنطقها - ظلم وكيل بمكيالين.. إلخ.
بل إن هذه الأصوليات المتطرفة، وجماهيرها الغوغانية المخدوعة، لا تستنكف أن تجعل من مظاهر التسامح، ومن الدلائل عليه قانونيا، أن يكون التسامح مع الإرهابي الخارجي (الزرقاوي) ومع شيطان الإرهاب (ابن لادن). إنها تعلن - دعائيا - أن المتسامح الحق لابد أن يرضى بال(زرقاوية) وال(بن لادنية)؛ ليصبح حقيقا بوصف المتسامح، مع أنها بالمقابل، لا يمكن أن ترضى - مثلا - بالتسامح مع ال(صهيونية الشارونية)، مع أنهما ظاهرتا عنف وإرهاب، ولا فرق.
الأصولي المتطرف ليس دائما واضحا؛ فقد يمارس التقية في تعاطيه مع هذا الإرهاب الصارخ، إلا أنه يبدو أكثر وضوحا في تعاطيه مع المسائل الاجتماعية التي تتقاطع مع اهتماماته الايديولوجية الخاصة، والتي كثيرا ما تكون ميادين للصراع الفكري المعلن؛ لأنها من مساحات التسامح الفكري اجتماعيا، أي من قبل المجتمع المتسامح!، لا من قبل المتطرف الأصولي.
ولأن كثيرا من المسائل التي تقع في صلب الخطاب الأصولي، من حيث الاهتمام العام، ليست من الأصول، بل هي من فروع الفروع، ومن تفاصيل التفاصيل، فإنها - تبعا لذلك - تبقى رهينة الانزياحات السوسيو - ثقافية. ومن ثم، فهي ذات مرونة عالية، في خضوعها لمنطق التطور والتغير والتحول. وهذا ما يجعل الأصولي يراهن عليها في كثير من حراكه، لأنها تقع تحت طائلة التغيير من جهة، كما أنها - في الغالب - محاور المفاصلة الإيديولوجية من جهة أخرى.
ولعل من أبرز الأمثلة - وهي هنا أمثلة فحسب - على هذه المسائل، ما يضعه السلفي في دوائر البدع والمحدثات. فالبدعة - كما يراها ويفهمها؛ من حيث المفهوم العام؛ ومن حيث توصيف الحالة المتعينة - يجب أن تكون في دائرة الممنوع قانونيا والمحرم ثقافيا. أما أن يتم تركها للتوصيف الخاص - من حيث التصور العام للبدعة، ومن حيث كونها بدعة من عدمه - فهذا مالا يقبل به السلفي التقليدي أبدا. أي أنه يدعو لقسر الجميع على تصوره الخاص، ثم يدعو للتسامح مع هذه الدعوة للقسر والإجبار!.
فمثلا - وهو مجرد مثال واقعي - لو قال المتسامح للسلفي التقليدي: أنت لك تصور خاص عن البدعة، وأنت ترى هذا الشيء بدعة، إذن فلا تفعله، وأنت حر في هذا (وهذا موقف متسامح) لكن لا تحاول أن تجعل هذه الرؤية الخاصة بك ملزمة لي. طبعا؛ لن يقبل السلفي - أبدا - بهذا المنطق المتسامح، إذ لابد من قسر الآخر على رؤيته طوعا أو كرها. ومن المفارقات الغريبة، أنه - بعد ذلك - يريد أن يشمله مفهوم التسامح، بل ويرى من الظلم له ولمنظومته أن يوصف - مجرد وصف - بعدم التسامح.
ومثال آخر: موضوع الحجاب. وهو الموضوع الذي سبقت الإشارة إليه، وأن في الجزئية المتعلقة ب(تغطية الوجه) - وجوباً - قولان. وقد دعوت إلى التسامح مع كلا القولين؛ من حيث التطبيق السلوكي. أي أن المرأة تأخذ بأي قول من القولين شاءت، ولا تثريب عليها في ذلك. لكن، أحدهم - من إحدى تيارات التطرف والغلو - قال لي: أنت تدعو إلى التسامح والقبول بالآخر المختلف، فلماذا تحاول تفنيد الرأي الذي يرى وجوب تغطية الوجه، ويسعى لفرضه على الناس؟ لماذا لا تكون متسامحا؛ فتقبل هذا التيار؟.
منطقيا، لا يمكن أن أكون متسامحا وأقبل الرأي الذي لا يقبل الرأي الآخر، ويحاول محوه من خارطة التشريع والتطبيق. نحن - في هذه المسألة - لسنا أمام اتجاهين فحسب؛ كما يظن الكثير، بل نحن أمام ثلاثة اتجاهات: فالأول: يرى جواز التغطية وجواز الكشف. وهذا واضح في تسامحه، سواء كان فكرا أو كان ممارسة. والثاني: يرى وجوب تغطية الوجه، وأن الكشف حرام. ولكنه - مع ذلك - يرى أن من يتبع الفتوى الأخرى (التي تجيز الكشف) فهو في دائرة الالتزام الشرعي؛ ما دام مقتنعا بفتوى الجواز. وهذا أيضا - داخل في مفهوم التسامح.
أما الاتجاه الثالث: فهو الاتجاه الذي يرى وجوب تغطية الوجه، ويمارسه رأياً وسلوكا. لكنه - ولاحظ الفرق بينه وبين الثاني مع اتفاقهما في أصل الفتوى - يرى وجوب قسر الجميع على هذه الفتوى ولو بقانون عام؛ لأنها - في رأيه - هي الفتوى المعتبرة شرعا، وأن الفتوى التي تجيز كشف الوجه لا قيمة لها ولاحظ لها من الصحة الاستدلالية؛ حتى وإن قال بها جماهير العلماء!، وأن من يصرح بهذه الفتوى، فهو من دعاة الانحلال والرذيلة و...إلخ.
واضح هنا أن هذا الاتجاه الثالث لا يقبل أن يتبع كل فريق (مذهب فقهي) فتواه، بل يرى حرمة اتباع الفتوى الأخرى المخالفة لفتواه؛ حتى وإن قال بها جماهير العلماء من القدماء والمعاصرين. وهذا موقف متعصب غير متسامح، يجب أن يفضح تعصبه وتطرفه المقيت دون مجاملة من أي نوع. والتسامح - لأي مبرر كان - مع هذا الاتجاه اللامتسامح، هو الطريق الممهد إلى التطرف والإرهاب.
أصحاب الاتجاه الأول (أكثر الاتجاهات تسامحا) يقبلون - بوحي من تسامحهم الشرعي - الاتجاه الثاني؛ شرط أن يبقى في دائرة الثاني، ولا ينتقل منها إلى دائرة الثالث الرافض للأول. الثاني - مع أنه يأخذ بالرأي المتشدد - يقبل أن يكون الفكر والسلوك محل اجتهاد. أما الثالث، فلا يرى إلا نفسه، ويسعى لإجبار الجميع على ما يرى من سبيل الرشاد المدعى؛ لأنه فرعوني الرؤية!. وهذا ما يعلنه صراحة في كل مناسبة.
إن مفهوم التسامح لديه المرونة الكافية لقبول التشدد في إطاره؛ شرط أن لا يكون في إيديولوجية هذا المتشدد أن يعمم - بالقوة - هذا التشدد، أي أن يلغي التسامح. وفي سياق هذا التسامح؛ من حقه أن يدعو إلى هذا التشدد الخاص كخيار فردي، ولكن ليس من حقه أن يدعو إليه كمشروع قانوني لإلزام الآخرين؛ لأن الآخرين - بكل بساطة - لا يرون ما يراه المتشدد المتعنت.
الخيارات الفردية من حق كل إنسان؛ ما دام لا يرى إلزام الآخرين بها. ولو أن أحدا - كمثال، وهو مثال له وقائع! - اختار العيش في الأرياف النائية، أو الصحاري القاحلة، واعتزال الظاهرة المدنية جزئيا أو كليا، فلا يمكن أن يدرج هذا في أعداء التسامح؛ مهما كان إيغاله في التشدد، إلا إذا كان يفرض هذا التشدد في محيطه الأسري، حتى ولو كانت أسرته الخاصة؛ لأن أفراد المجتمع مسؤولية مؤسسات المجتمع بالدرجة الأولى، وليس العائل الأسري إلا نائبا عنهم في ذلك، فحقهم الفردي لا يسقطه اختيار العائل ولو كان أبا.
إن هذه الأمثلة التي ذكرناها لا يمكن حمايتها إلا بقانون متسامح، قانون يمايز بين الاختيار الفردي المخصص، والاختيار الفردي المعمم. والأنظمة القانونية تكون متسامحة بقدر ما تحفظ لكل فرد خياراته الخاصة، تلك الخيارات التي لا تتعارض مع خيارات الآخرين. وما مناداة البعض بأن يكون التسامح مع المتطرف كما التسامح مع المتسامح، إلا محاولة (نفاقية) لإجهاض مظاهر الحرية النسبية التي يمثلها التسامح القانوني، بالتغلغل من نوافذ هذه الحرية ذاتها.
http://www.alriyadh.com/2005/11/03/article105165.html
- يتبع -