مساء الفل

ليسمح لي الزملاء المتعمقون في الشؤون السياسيّة كمواطن عادي بسيط لا خبرة له بما وراء الكواليس بأن أقول مجرد رأي شخصي يحمل في طياته مشاعر ذاتيّة ومخاوف وآمال ، مثلي مثل الأغلبيّة الساحقة من هذا الشعب المسحوق، ولا تعتبروا أن ما سأقوله يعبر عن موقف نهائي لا رجعة فيه، فالتصلّب في السياسة تحديدا وتنشيف الرأس دليل فشل في فهم الواقع والتكيف معه في أحسن الأحوال ، و دليل إفلاس فكري وإبداعي في أسوأ الأحوال، كما أنّني لم أكن أود أن أبدأ موضوعا عن الانتخابات في مصر تحديداً ولا عن الإخوان ، وذلك لضعفي من الناحية السياسيّة كما أشرت، ولافتقاري إلى الخلفية الفكرية والبحثيّة التي تؤهلني لأن أفتح موضوعاً عن الإخوان بتاريخهم الطويل، وأخيرا لأنّني لم أشارك في تلك الانتخابات ولم أهتم بكيفيّة سيرها أو ألق لها بالاً ، وهذا بسبب عدم ثقتي - كغالبيّة الشعب المصري - بنزاهتها ، وبسبب أنّني لم ألق مرشحا يستحق منّي عناء الجهاد في سبيل الإدلاء بصوتي من أجله، فالمرشح الذي أريده لا زال حلما غائبا وسط انعدام - وليس ضعف فقط - أحزاب معارضة حقيقيّة تطرح رؤية علمانيّة ديمقراطيّة حقيقيّة وتتمتع بثقل فكري يستطيع تجاوز مهاترات صحف الأرصفة وتصيّد فضائح الوزراء والمسؤولين ونشر الصور الدراماتيكيّة الحصريّة. فإنّ المعارضة التي تستطيع تجاوز تلك الرؤية السلبيّة السطحيّة لم تولد بعد.

فحزب الوفد لا يتمتّع بأي جاذبيّة ، خاصة مع قيادته العجوزة المتمثلة بالدكتور نعمان جمعة ، والذي لا نرى وجهه إلا وقت الانتخابات ، ولا يستطيع أن يقول سوى بضع كلمات مملة للغاية تشبه كثيرا كلمات رئيس الجمهورية الذي يضاهيه في التقدم العمري ، وينافسه بشدة في الفتور والرؤية الجديّة للتغيير، ومع أنّ الدكتور نعمان جمعة قد بدأ يتحدث بشيء من الجرأة المتزايدة مدفوعا بالغيرة من أيمن نور وخطاباته الناريّة ، أو مستقبلا ضوءاً أخضر في ظل هامش الحريّة السياسيّة في السنوات الأخيرة...إلا أنّ ذلك لا يغيّر من حقيقة الأمر شيئا، وهو أنّه رجل ضعيف ، وأنّه يرأس حزباً لا لزوم لوجوده.

أما حزب الغد الذي بهر الأنظار في بداية ظهوره ، واستطاع كسب تعاطف شديد عندما اعتقل أيمن نور ، والجميع يعرف القصّة فلا داعي لتكرارها .... ، فقد أصبح أيضاً حزبا ميتاً بعد انشقاق بعضه على بعض ، وأصبح المواطنون أخيرا يشاهدون جريدتين ، تحمل كلتيهما اسم " الغد " وكلاهما يتراشقان الشتائم بينهما، وبعد أن تم قتل أيمن نور نهائيّا ، حتى أن عدد "الغد" الأخير كتب في الصفحة الأولى ( نهاية أسطورة أيمن نور ) ، وهي مفارقة مضحكة أن يكتب هذا العنوان في جريدة الحزب عن مؤسسه ، ولكنّني طبعا أتحدث عن العدد التابع للمنشقين على أيمن نور. وإن كان أيمن نور قد قتل ، فقد دفن بالفعل في الانتخابات الأخيرة، ودفن الحزب كله من قبله عندما بدأ يطرح مرشحين لا يصلحون لأكثر من تمثيل بعض أغاني الفيديو كليب ، والذي شاهد مثلا بوسترات بعض مرشحي الغد سوف يعرف عمّ أتحدث هنا ، فالطريقة التي أعدت بها كانت غاية في الكوميديّة ، ولا تزيد عن أفيشات أحد الأفلام أو الكليبات التي تعتمد الموضة والنظرات السكسيّة أساساً لها ، ولكن من هو هذا الشاب الروش في النّهاية؟ لا أحد يعرف، والمصيبة أنّهم يحسبون أن مصر كلها تعرفهم.

بقي طبعا الإخوان..
إن سألني أحدكم في دردشة بسيطة ونحن نتسامر بصراحة وانفتاحيّة دون حاجة إلى أدلة وتوثيقات من مصادر المعلومات ، فسوف أقول له ببساطة أنّني لست من مؤيدي الإخوان ، وأعتبر نفسي الأكثر قلقا من الشعار الذي يرفعونه ، ونعم أنا أريد دولة علمانيّة بحكم الحريّة التي أحلم بها وأتمناها، ولا أريد دولة طالبانيّة أخرى، ولا أريد رؤية مظاهر النظافة والتديّن والأخلاق من الخارج ، بينا يقبع التخلف والقذارة والإرهاب من الداخل، وأنا لا اتّهم الإخوان بهذه التهم على الإطلاق ، ولكنّي أخشى أن تكون هذه المصائب هي القابعة خلف ما أراه من وجه سمح وتأكيد على خيار الديمقراطيّة الذي لا بديل له وعلى ضرورة مشاركة جميع الألوان في العمليّة السياسيّة،
أنا مدرك جدا أن الحديث عن الإخوان لا ينتهي ، وأنّه يعد من أكثر المواضيع في العالم العربي إن لم يكن في العالم كله اختلافا عليه وتعددا في الآراء ، ولكنّني أريد أن أقول ببساطة ، لقد كسب الإخوان الآن عددا لا بأس به من المقاعد وأعتقد أنّهم سوف يكسبون المزيد ، مما يجعل منهم القوة الأساسيّة التي تستطيع أن تفعل شيئا في وجه سرطان النظام الحاكم الآن، وقد كسبوا 34 مقعدا أمام 70 للحزب الحاكم ، وأصبح بإمكانهم التحرك ، وقد قال لي أحد أصدقائي منذ قليل أنّهم لا يستطيعون فعل شيء ، فقلت له بل يستطيعون ، فعدد هذه المقاعد وما سيحصلون عليه من مقاعد لاحقا يكفي لأن يبدأوا في تغيير البلد من داخل مجلس الشعب تغييرا يستطيع أن يلمسه الشعب المصري ويحسّونه جيدا ، إن امتلكوا الإرادة .
وهذا هو ما أنتظره حاليا، فقد أثبت الإخوان أنّهم القوة الوحيدة التي تستطيع أن تضع رأسها برأس النظام في مصر الآن، وتستطيع أن ترميه من فوق الكرسي فيما بعد.
وقدموا شعارات كثيرة جميعنا نوافق عليها ، ومنها التداول السلمي ، والحرية للجميع ، والديمقراطيّة. وإن كان الكثيرون من غيرهم يتحفظون على الشعار الإسلامي الذي طرحوه ولكنّه أمر لا يهمني كثيرا، أمّا الذي يهمّني هو أن يقوم الإخوان بواجبهم ، ويتحمّلوا مسئولية الشعب الذي طالما ادعوا أنّهم يمثلونه بحق ، وأن لا يكونوا نيرا آخر على كاهله ، لأنّهم إن قصروا في وعودهم ، فسوف يكونون سببا رئيسيّا في انهيار تام لثقة المصري بأيّ مرشح فيما بعد حتى لو كان بوذا أو المسيح أو محمد نفسه ، ولن يكون هناك أمل في التغيير إلا بثورة داخلية عنيفة أو ثورة خارجيّة أمريكيّة ، لهذا أتمنى أن يعي الإخوان طبيعة الدور الخطير الواقع عليهم الآن وأنّهم يملكون زمام المستقبل ، وأنّهم إن قصّروا في استغلال هذه الفرصة التي حصلوا عليها ، فهذا يعني لا غضب الحكومة وحدها عليهم ، بل غضب الشعب كذلك ، وغضب السماء التي يتحدثون باسمها أيضاً ، إن كان هناك فيها من يغضب .

مبروك للإخوان هذا الحصاد وأتمنى أن يكونوا مستأهلين له

أراكم بعد حين (f)