إذا ما توجهّنا بهذا السؤال لأيِّ مسيحي، فإنّ الجواب التلقائي سيكون: يهوذا مات شنقاً حيث علَّق نفسه بحبل على شجرة. وهذا كلام صحيح إذا ما اعتمدنا رواية القديس متّى في إنجيله حيث جاء فيه:
«فلمّا رأى يَهوذا الَّذي أَسْلَمَهُ أنْ قَدْ حُكِمَ عَلَيْهِ، نَدِمَ وَرَدَّ الثَّلاثينَ مِنَ الْفِضَّةِ إلى عُظَماءِ الْكَهَنَةِ وَالشُّيوخِ وقالَ: «خَطِئْتُ إذْ أَسْلَمْتُ دَماً بَريئاً». فقالوا لَهُ: «ما لَنا ولِهذا الأَمْر؟ أَنْتَ وَشَأنُكَ فيه». فَأَلْقى الْفِضَّةَ عِنْدَ الْمَقْدِسِ وانْصَرَف، ثُمَّ ذَهَبَ فَشَنَقَ نَفْسَهُ» (متى 27: ?-?).
لكنَّ حادثة موتَ يهوذا ورَدَتْ باختصار في سِفرٍ آخر من أسفار العهد الجديد، بقيتْ لدى غالبية المسيحيين مجهولة لا يكاد يتنبّه لوجودها أحد. وهذه القصّة الأخرى، التي وردَتْ في سفر أعمال الرّسل الذي وضعه القديس لوقا صاحب الإنجيل الثالث،تبدو وكأنّها تناقض في تفاصيلها ما جاء على لسان متّى. لنقرأ ما يقوله لوقا في سفر أعمال الرسل:
«أَيُّها الإخْوَة، كانَ لا بُدَّ أنْ تَتِمَّ آيَةُ الْكِتابِ الَّتي قالَها الرّوحُ الْقُدُسُ مِنْ قَبْلُ بِلَسانٍ داود، عَلى يهوذا الَّذي أمْسى دليلاً للَّذينَ قَبَضوا عَلى يَسوع. فَقَدْ كانَ واحِداً مِنّا ونالَ نَصيبَهُ في هَذِهِ الخِدْمَة. وَقَدْ تَمَلَّكَ حَقْلاً بِالأجْرَةِ الْحَرامِ، فَوَقَعَ عَلى رأْسِهِ مُنَكَّساً وَانْشَقَّ مِنْ وَسَطِهِ، وَانْدَلَقَتْ أمْعاؤُهُ كُلُّها» (أعمال الرسل ?: ??-??).

لماذا نزرع الشكّ في النّفوس؟!
السؤال الأوّل الذي يجب أن نجيب عليه قبل الدخول في تفاصيل هاتين الروايتين المختلفتين، هو: لماذا نضع هذا النصّ تحت الضوء وننشره، معرّضين الإخوة المؤمنين للشكّ، فيما يبدو أنّه محاولة لإثارة الشبهات حول قدسيّة الكتاب المقدّس، وبثّ الشكّ في النفوس ؟! أفلا نقع بعملنا هذا تحت وطأة تحذير المسيح يسوع الذي قال: «الويل، الويل لمن يشكّك أحد إخوتي هؤلاء الصغار»؟
الحقيقة أنني أنا أيضاً لم أكنْ أدرك أنَّ هناك رواية أخرى في سفر أعمال الرسل مغايرة لرواية القديس متى. ولربّما يتفاجأ البعض إنْ قلتُ لهم أنَّ أوَّل مَنْ لفَتَ نظري لهذه المسألة كان أحد الإخوة المسلمين وذلك في معرض حوار متبادل حول بعض الأمور الدينيّة. ذلك أنَّ الكثير من المسلمين استغلّوا الشبهات التي يثيرها أعداء الكنيسة واستخدموها بدورهم في محاولة للتشكيك بالرسالة المسيحيّة والكتب المقدّسة. لذلك، بات من الضروري جدّاً التعرّض لهذه المسألة، وغيرها من المسائل التي يطرحها محاورينا، لمعالجتها بشكلٍ كامل ومن زاوية مسيحيّة إيمانيّة صحيحة ودقيقة، حتّى لا يقع أحد المسيحيين فريسة الشكّ في الكتاب المقدّس أو في الإيمان المسيحي-لا قدَّر الله- إذا ما جوبِهَ بهذا التساؤل مِنْ قِبَل أحدهم فلا يملك له جواباً ويستحيي أنْ يسأل عنه.

بين التنزيل والوحي
أوّل نقطة يجب أنْ نعمل دائماً على توضيحها عند حديثنا عن الكتاب المقدَّس ومحاولة تفسير بعض ما ورد فيه من نبوءات و تعاليم، أو أحداث و تفاصيل، هو طبيعة الوحي في المسيحيّة. فمفهوم الوحي بحسب الديانة المسيحيّة يختلف تماماً عن مفهوم الوحي بحسب الديانة الإسلاميّة والقرآن. عند الإخوة المسلمين، القرآن هو كتاب منزَّل من الله بالحرف والكلمة على محمد بن عبدالله بواسطة الملاك جبرائيل. والتنزيل يعني أنّ المتلقّي هو مجرّد ناقل للرسالة لا تأثير له على مضمون الرسالة بتاتاً.
أمّا في المسيحيّة فلا وجود للتنزيل. ذلك أنَّ الروح ألهَمَ الأنبياء والرّسل والتلاميذ، لكنّه لم يستخدمهم لتسجيل أقواله أو أقوال المسيح وكأنّي بهم آلات طابعة تنفّذ بالحرف والكلمة أمْرَ خالِقها. فالأناجيل وكتابات العهد الجديد عموماً لا تروي لنا تفاصيل حياة يسوع المسيح وأقواله وكأنّها تدوّن لنا تاريخاً رسميّاً وسيرة ذاتيّة لتلك الشخصيّة المميّزة -شخصيّة ابن الله- بل هي تقدّم لنا خبرتها الحيّة المُعَاشة مع تلك الشخصيّة العظيمة. وبذلك فكتبة العهد الجديد لم يكتفوا بتسجيل أقوال وأفعال عظيمة وتعاليم ورائعة، بل تركوا لنا أيضاً خبرتهم الشخصيّة إزاء هذه التعاليم والأعمال. يقوم النبيّ تحت إلهام الروح القدس وإرشاده، بنقل هذا الوحي الإلهي مستخدماً ثقافته الخاصّة ولغته وعقليته. الوحي في المسيحيّة هو إلهام إلهي مطروح في ثوب من الكلمات البشريّة التي ينتخبها النبي. فالنبي هنا هو شخص فاعل، يتلقّى رسالة ويدوّنها بعقليّته وأسلوبه ومفاهيم زمانه. لذلك نجد في سفر التكوين مثلاً أسلوباً مختلفاً تماماً عن أسلوب سفر تثنية الاشتراع، ونجد لدى صاحب سفر إرميا أسلوباً وعقليّة تختلف كثيراً عن أسلوب حزقيال النبي وعقليّته، ونجد أسلوب متى يختلف كثيراً عن أسلوب يوحنّا. لذلك يمكننا أنْ نقول أنّ الوحي في المسيحيّة هو عبارة عن مشروع مشترك يقوم به الله والنبي معاً، فالله يلقي الإلهام والوحي والنبيّ يصوغه بلغته وعقليّته ويبثّه للناس في صورة كلام بشريّ يفهمه الناس ويعقلون الرسالة التي ينقلها لهم. وهو أمرٌ قد نستفيض في الحديث عنه في مقال آخر.
وهناك أمرٌ آخر من الضروري أنْ نعرفه عندما نقرأ الكتاب المقدّس وندرسه وهو حقيقة أنّ الكتاب المقدّس، رغم تضمّنه الكثير من الأحداث التاريخيّة، لكنّه ليس كتاب تاريخ ولا هو كتاب جغرافيا في المقام الأوّل، بل هو أوّلاً وأخيراً "كتاب إيمان". حتّى إنَّ الكثير من الأحداث التاريخيّة المذكورة فيه تكتسب بُعداً مغايراً في كثير من الأحيان لمفهوم التاريخ الذي نعرفه اليوم وندرسه في المدارس، وذلك لأنَّ الهدف الأساسي كما أسلفنا ليس هو الأحداث التاريخيّة في تسلسلها المنطقي والزمني، بل الرسالة الإيمانيّة من وراء الحدث التاريخي.


محاولات لتفسير التناقض
ونعود الآن إلى التناقض الوارد في حادثة موت يهوذا بين إنجيل متى وسفر أعمال الرسل. لدى استشارة هوامش الترجمة الكاثوليكيّة الصادرة عن الآباء اليسوعيين بحثاً عن تفسير لهذا الأمر، لا نجد لديهم سوى اعتراف صريح بوجود هذا التناقض دون أي تفسير له أو توضيح حيث نقرأ في الصفحة (114) من العهد الجديد: «رواية موت يهوذا هذه لا تطابق رواية رسل 1: ??-??».
أمّا القس "منيس عبد النور" في كتابه: «شبهات وهميّة حول الكتاب المقدّس»، والذي وَضَعَه خصّيصاً للردّ على التساؤلات المختلفة التي يثيرها المسلمون وغيرهم حول التناقضات الظاهرة في الكتاب المقدس،فقد جاء فيه حول هذه النقطة، ما يلي:
«ذَكَر البشير متّى خبر انتحار يهوذا دون أنْ يخوض في تفاصيل، فقال إنّه شنق نفسه. أمّا كاتب أعمال الرسل فذكر تفصيلات الانتحار، وقال إنّه علَّق نفسه وشنقها على طرف هوّة في وادي هنّوم، فانقطع الحبل به وسقط».
رغم أنَّ تفسير القس منيس يذكر تفاصيل لا مجال للتحقّق من صحّتها بحسب روايات العهد الجديد، لكن يبدو أنَّ أغلب الَّذين حاولوا التوفيق بين النصّين المختلفين قد ذهبوا في ذلك مذهب الأب "عبد النور" حيث قالوا:
ليس هناك تناقض بين متّى ولوقا في حادثة موت يهوذا، وذلك لأنّ متّى اكتفى بذكر أنّ يهوذا «ذَهَبَ وَشَنَقَ نَفْسَه»، لكنّه لا يؤكّد أنّه مات شنقاً. إذنْ، هناك إمكانيّة أنَّ يهوذا شنق نفسه لكنّه لم يمتْ شنقاً. أمّا كيف مات يهوذا حقيقةً فيذكرها لوقا حيث قال أنّه: «وَقَعَ عَلى رأْسِهِ مُنَكَّساً وَانْشَقَّ مِنْ وَسَطِهِ، وَانْدَلَقَتْ أمْعاؤُهُ كُلُّها»، وعليه فليس هناك ما يمنع أنْ يكون يهوذا قد علَّق نفسه بحبل على شجرة، لكن يبدو أنّ العقدة انحلَّتْ، أو أنَّ الغصن انكسر، فسقط يهوذا على الأرض وانشقَّ بطنه واندلقتْ أمعاؤه.

تفاصيل بسيطة لكن مهمّة
هل كان لوقا معنيّاً بترك ذكرى لحدث تاريخي ماضٍ حدث وانتهى، أمّ أنّه ترك لنا تعليماً دينيّاً غنيّاً بالمعاني الروحيّة المهمّة لنا هنا واليوم في عالمنا المعاصر؟
هناك تفصيل بسيط في رواية لوقا، يحملنا على التفكير بعمق أكبر في روايته هو لموت يهوذا. فقد جاء في سفر أعمال الرسل قوله: «وَانْشَقَّ مِنْ وَسَطِهِ» وأيضاً «َانْدَلَقَتْ أمْعاؤُهُ كُلُّها». وكأني بالقديس لوقا يقول لنا أنّ يهوذا انقسم نصفين أو انكسر إلى قطعتين. وهذه الصّوَر التعبيريّة، تحمل في طيّاتها أكثر من مجرّد أنَّ بطن يهوذا قد انشقّت وخرجتْ أمعاؤه من بطنه.
متى ولوقا يتّفقان على أنَّ يهوذا مات ميتة شنيعة. لكن يبدو أنَّ لوقا لم يكتب روايته ليحفظ لنا "تاريخيّاً واقعيّاً"، بل ليلقي "عبرة إيمانيّة".فهو لم يكن معنيّاً بذكر تفاصيل موت يهوذا لجماعة الرسل والمسيحيين، بل قصد، خاصّة من خلال الألفاظ التي استخدمها، إلى تبيان أنّ يهوذا في موته كان مثالاً حيّاً وعمليّاً تحقَّقتْ فيه كلمات يسوع التي ألقاها في مثال "الزِّقاق العتيقة والخمرة الجديدة".
يكمن المفتاح إذن في المفردات التي استخدمها لوقا وخاصّة الفعل "انشقّ" والفعل "اندلق". لنقرأ معاً مثال الزِّقاق والخمرة بحسب إنجيل لوقا:
«وما مِنْ أحَدٍ يَجْعَلُ الخَمْرَةَ الْجَديدةَ في زِقاقٍ عتيقةٍ، لِئلاّ تَشُقُّ الخَمْرةُ الجَديدَةُ الزِّقاقَ، فَتُراقَ هِيَ، وَتَتْلَفُ الزِّقاق. بَلْ يَجِبُ أنْ تَجْعَلَ اِلْخَمْرَةُ الْجَديدةُ في زِقاقٍ جَديدَة» (لوقا ?: 37 ويمكن أيضا مراجعة متى ?: ?? ومرقس ?: ??)
الكلمة اليونانيّة التي يستخدمها يسوع في المثال أعلاه لتعني "تُرَاق" والتي يستخدمها لوقا في حديثه عن أمعاء يهوذا بمعنى "تَنْدَلِق" هي عين الكلمة اليونانية: ?????. ولوقا يقول عن يهوذا أنّه انشقَّ من وسطه، وكأنّي به يقول أنّه انكسر كما تنكسر الزِّقاق أو تنفجر. فالخمر الجديدة تُصدِر غازات قويّة لا تحتملها الزِّقاق القديمة فتُشَقّ وتنكسر. وهذا ما يريد لوقا أن يقوله لنا. يهوذا تمسَّكَ بأفكاره القديمة عن المخلّص الآتي ولم يتمكّن من استيعاب تعاليم يسوع الجديدة فأدّى به الأمر إلى التشقّق كما تنشقُّ الزِّقاق القديمة، وأمعاؤه تندلق كما تندلق الخمر الجديدة.
ويؤكّد على هذا الأمر ما يقوله لنا معلّمو الكتاب المقدّس من أنَّ يهوذا الإسخريوطي كان قبل دعوته ينتمي إلى جماعة "الحماسيين Zealots". كانتْ هذه الجماعة تنتظر مجيء المخلِّص لكن ليس بمعنى المحرّر الفادي الذي بيّنه يسوع، بل بالمعنى الذي اعتاد عليه اليهود أي قائد عسكري يحمل السّيف ويعلن الثورة على الرومان ويحرّر البلاد ويعيد إلى إسرائيل مجدها الغابر. وعليه فقد كان ينتظر من يسوع، عندما واجهه الجنود القادمين للقبض عليه، أنْ يطلب من أتباعه أنْ يستلوا سيوفهم ويبدأ انتفاضة التحرير. فلمّا لم يتمّ الأمر كما توقّع، ندم ندماً شديداً ومضى وشنق نفسه. لكنّ "نَدَم يهوذا" يبعثْ على الحيرة لو أنَّ يهوذا قصَدَ فعلاً خيانة يسوع وتسليمه لليهود ليُقتلْ. نّه لمْ يفعلْ ذلك في لحظة ضعف، بل عن سابق قصد وتخطيط. بينما لو صحّ أنّه كان يستعجل الزمن لكي يكشف يسوع عن حقيقته كقائد للشعب ومحرر عسكري، عندها يمكننا أن نفهم تماماً مقدار الندامة التي اعتصزتْ قلبه وأدَّتْ به إلى اليأس والانتحار.
يهوذا، بقي أسير الأفكار اليهوديّة، مثله مثل الزِّقاق العتيقة، ولم يتمكّن من استيعاب تعاليم يسوع الجديدة (الخمر الجديدة ) المغايرة تماماً لأفكار اليهود وأحبارهم. فأدّى به الأمر إلى أن "ينشقّ من وسطه وتندلق أمعاؤه"، تماماً كما سبق يسوع وأعلن في مثال الزِّقاق والخمر. فبات مثال يسوع بمثابة نبوءة تحقَّقتْ في يهوذا. وتكتسب تعاليم يسوع بذلك، فائدة كبيرة لنا جميعاً نحن المسيحيين على مرّ العصور، علينا أنْ نخلي ذاتنا من أفكارنا العتيقة لنتحمّل التعاليم الجديدة ونحملها إلى العالم المحيط بنا.
إذنْ، لوقا لا يقدِّمُ لنا "سَبَقاً صحفيّاً" بل يقدّم لنا تعليماً لاهوتيّا تأمّلَ مليّاً قبل تدوينه، ليكون فيه عبرةً لا بحدثٍ ماضٍ لا ينفع أحداً في المستقبل، بل بتعليم سامٍ فيه عبرة لكلّ مسيحي يقرأ الحادثة في كلّ زمان ومكان.

تحياتي القلبية

ابن العرب