كم كنت أتخيل ذلك الزوج الذي يحوم حول نقطة وهمية في غرفة الانتظار منتظرا ذلك القدوم، متأهبا لاستقبال تلك المعجزة الإنسانية، ومتلهفا لسماع بكاء من نوع آخر، بكاء يعلن عقد قران جديد، قران الإنسان والحياة...
و ها هي تعابير وجهه تطاردني حين سماع خبر اللقيا الذي انتظره طوال شهور تسعة! أراه رافعا يديه نحو السماء شاكرا والدموع تنضح من محياه معلنة بدأ حياة جديدة، ثم أجده حاضنا أمي يمسح عرق الروح عن محياها المنهك، ثم يقبل ذلك المخلوق الصغير الباكي لفراق تلك المساحة الهادئة الصغيرة لتشتعل بحضوره ابتسامات الأمل وإشراقات المستقبل، تضحك تلك الأم ابتسامة منهكة تنساب على جانبيها دمعة فرح نضرة برّاقة ثم تأخذ ذلك الصغير لترضعه أولى رشفات الأمومة العذبة....

تمر السنين وتتسارع الذكريات لحين الخطوة الأولى لذلك الصغير، تصحبها الابتسامات من جديد، ودموع فرحة جديدة عبقة برائحة الطفولة المزهرة.... ثم تمر السنون متلاحقة تلاحق الأحداث لأجد ذلك الطفل وقد أصبح شابا فتيا مليئا بالحيوية والطموح، وأجد ذات الابتسامات والدموع تلفه من والدين كهلين أعياهما الشيب وأتعبهما قصر النظر وضعفه!!! .... ثم تأتي لحظة الخيانة العظمى في تاريخ الإنسانية الطويل...

تأتي لحظة يجب أن يُقال فيها "وداعا"، تأتي تلك اللحظة التي ترغمك فيها الحياة أن تقول كلمة طالما كنت خائفا منها رغم أنفك وأنف من أحببت، لتشعر حينها بأنك أنت الخائن لا الحياة، تأتي تلك اللحظة لتشعرك بأنك أنت الذي سرق كل تلك اللحظات الرائعة بعيدا لا نسمات النسيان البائسة، تأتي تلك اللحظة لتشعرك بأنك عدت طفلا صغيرا محتاجا لنهدٍ دافءٍ تضمه، تأتي تلك اللحظة لتشعرك بتفاهة الطموح مقابل كلمتين بسيطتين هما "أمّي" و "أبي"!!!

"ما هذه الخيانة القذرة؟" أسأل نفسي ألف مرة مع كل نفس ألفظه بحرقة وشوق، ثم تتسارع الأسئلة كالمطارق لتمعن في تمزيق جرح الحياة....

"كيف هانت عليك دموع الولادة وتعبها؟ .... كيف تترك أمك لتحضن وسادتها باكية بدل أن تحضنك وتضحك؟ ... كيف هانت عليك القروش البسيطة التي كان أبوك يمنحك إياها لتشتري العصير والبوظة؟ .... وكيف هان عليك تقوّسُ ظهره واعوجاج مشيته؟ ... بل كيف هانت عليك تلك التجعدات الرائعة التي تملأ محياه كلما فاتحته بطرفة جديدة من طرائف العمل؟ .......... كيف وكيف وكيف وكيف؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟"

أجد نفسي من جديد تخرج لتدافع عن ذلك الشاب المكمّم بالدموع والآهات:
"كيف هان ابتسامة الطفل الرضيع عليها أمي؟ .... وكيف هانت وردة عيد الأم عليها أمي؟ .... لا بل كيف هان عليها أن تعلم أنني قد أمرض في الغربة بدونها تداويني بمسحة مباركة من يدها الحنونة؟ .... وكيف هانت عليه أبي جلسات الشاي والقهوة؟ .... لا بل كيف هان عليه ولده الذي لن يجد من يوصله إلى العمل كل صباح؟ ...................... كيف وكيف وكيف وكيف وكيف؟؟؟؟ ........... وأخيرا: كيف هنت عليكم يا أمي وأبي أن أقول لكما أني راحل ولا تقولا لي كلمة "لا"؟؟؟؟؟؟"

تقطّعت أوصال الكلام في متاهات عقلي الكئيب الحزين، وتفرّقت الذكريات من رأسي لتحتل مكانها توجّعات الحاضر وتخوّفات المستقبل، تأبى الدموع أن تنهال إلا تحت المطر، لتُحَمّلَ الندى آلام شاب بات فراقه عن أهله حتما مقضيّا!!! ولماذا؟ من أجل بضع دراهم!!!!! تبا لها الحياة كم طعنتني في الظهر ولم أتب يوما!!!!

يتبع .... وأرجو ألا يتبع
:brock: :rose: