دبرها...


لا يمكنك أن تعطي عبد الخالق المعروف "بدبرها" ستين عاما و لا حتى أقل من ذلك,وكأن هذا الرجل يعيش خارج الزمن و لا يعرف طعم السنين, وجهه مشرق خال تماما من أخاديد الستين جبهته مشدودة و مستويه تظهر فيها اثار الشقوق إذا عبس و قلما يعبس عبد الخالق دبرها, و كأنه على الدوام يرى فيلما كوميديا, فلا تلمح إلا ابتسامة معلقة على شفتية مرسومة بعناية تناسب محياه الودود,طويل القامة شديد الطول كالحور تماما مع أنحائة واضحة الى الأمام و لعلها حنية أحترام يابانية لكل من يلقاه مشكلة الطول تعدت الى أقدامة فاقدامة كبيرة جدا تجاوز قياسها 47 حسب التصنيف الفرنسي و لكنه أعتاد على لبس ما يسميه "زنوبة" و هي أرضية بلاستيكية مزودة بسير يشدها الى قدمة فتبدو كأحذية المحاربين الرومان.

عبد الخالق" دبرها" مرجع و حجة في صنع الشاي و القهوة و بقية المشروبات التي يستهلكها الموظفين يعرف معايير السكر و كمية القهوة و أفضل أوقات شرب الزهورات و المليسه وهو أول من أدخل الكركديه و أول من خلط البابونج بالزعتر فخرج شراب جديد بلون مميز و نكهة قريبة من نكهة العرق دون أن يسبب الدوخة و لا إنقلاب المعدة التي يسببها العرق لذلك حظي بوظيفة محترمة كمستخدم يقدم القهوة و الشاي و خلافة و يقوم بتنظيف المكاتب و الكراسي و المدخل الرئيسي في قيادة فرع الحزب في المدينة.

لا يستعصي على عبد الخالق أمر, فتح الأدراج الموصدة تصليح الموقد الغازي تصحيح وضع الفرامل في سيارات "الرفاق" أعضاء قيادة الفرع و حتى إصلاح الكهرباء و تصحيح وضع الدش في أسطح منازلهم و أحيانا كان يقوم بطباعة الرسائل و الكتب و البلاغات الحزبية و توزيعها على المهتمين و لكن عبد الخالق لم يكن يفعل ذلك كله مجانا كان يقبض ثمنه كلمة واحدة تخرج من فم طالب الخدمه هي "دبرها",يتمنع عبد الخالق في البداية و يصعب الأمر و يحيله الى مستحيل و لكن ما أن يقول له أحد أعضاء قيادة فرع الحزب "دبرها يا عبد الخالق" حتى يجيب بكل الحماس الثوري و الروح القتالية العالية "حاضرين رفيق أعتبر الشغله صارت" و ينفذ عبد الخالق دبرها ما يطلب منه بجدية و أتقان الجندي المتفان.و من هنا أكتسب عبد الخالق لقب "دبرها" لم يكن ينزعج أذا نودي بدبرها بل كان أحيانا هو نفسه يقول بعد أن ينفذ أمرا ما "و لك أنا دبرها أنا ..مو حيالله"

المهمة التي كانت تروق "لدبرها" قيادة المسيرات "العفوية" الحاشدة المؤيدة للسلطة أو المنددة بالإستعمار و المخططات المعادية التي كان فرع الحزب يدعو إليها في المناسبات الوطنية و عند أشتداد الهجمات الإمبرياليه, كان دبرها يتطوع و بدون عبارة "دبرها" ليعتلي أعرض الأكتاف و يتقدم الصفوف و يهتف بصوت عال جهوري بموت الإستعمار و الرجعية و يطرب عندما تردد الحشود خلفة ما يقول و يعلو صوته حتى تحمر أذناه و رقبته و تنتفخ أوداجه من الصراخ فلا يحس بألم و لا وجع و قد يتبدل تحته أكثر من عدة أشخاص و هو صامد كصخرة ينظر الى الخلف بحبور فيرى خلفه الآلاف التي تردد ما يقول فيجتاحه فرح غامر و يتابع هتافه المدوي و رجلاه الطويلتان تجلدان خواصر من يحمله بشدة "و شحاطته" الفريدة تتدلى من قدمية و تهتز تحت إيقاعات هتافاته المدوية.

كان "دبرها" يتلقى مكافئة مالية مجزية بعد كل مسيرة يقودها و يتلقى كلمات تشجيع من السادة أعضاء قيادة الفرع كل ذلك لم يكن يوازي فرحه برؤية الجموع الغفيرة التي تتبعه و تردد ما يقوله بجنون,كانت لحظات فريدة تلك التي يعود بها الى نفسه و يتخيل جسدة الطويل محمولا فوق الأكتاف و صراخ يشق السماء يحف به كان يظن أن رقبته طالت و هامته أرتفعت و أرتقت الى الأعالي وقد شقت الغيوم و لا مست ابواب السماء.

سقط "دبرها" على أرضية مطبخ الفرع مثل كيس الأسمنت حمل جسده الطويل الى اقرب مستشفى و بعد أن دخل بربع ساعة اصدرت المستشفى شهادة وفاة كتب فيها أن سبب الوفاة سكته قلبية أو ذبحة صدرية أو جلطة دماغية .في مساء ذات اليوم وضعت جثة دبرها الطويلة في صندوق خشبي و حملت الى المقبرة المجاورة كان يسير خلف نعش دبرها عدة أشخاص صمتوا قليلا ثم بدأو بالحديث عن طول دبرها الفارع ثم عن صوته القوي ثم بدأو يتذمرون من نسائهم و متطلبات أولادهم,حول الحفرة العميقة التي وضع فيها دبرها تحلق أربعة أو خمسة رجال بالكاد استطاعوا وضع دبرها في وضعية "مريحة",و في ذات الوقت كانت قيادة فرع الحزب تعقد أجتماعا تسائل أمين الفرع باسما في بدايته عمن سيدبرها بعد أن مات "دبرها" جلجلت ضحكة قوية من الجميع.