لن نضع جميع البيض في سلة واحدة، ولن نتصدى لجميع التيارات الاشتراكية التي عرفتها وتعرفها مصر. لذلك، لنقصر حديثنا هنا على موقع "اشتراكيون" الذي يتعاون على إغنائه ثلة من نخبة شباب اليسار المصري (اشتراكيون ثوريون).
ولن نضيع في متاهات جميع التيارات الاشتراكية وفلاسفتها المتأخرين، فهي كثيرة متشعبة لا يتسع لها هذا المقال، لذلك فلنعد فقط إلى "فكر كارل ماركس" باعتباره الرافد الأساسي للفكر الاشتراكي خلال القرن العشرين، والملهم الأول لثورة أكتوبر البلشفية (1917) التي "يتغنى بها" موقع "اشتراكيون"، ويعتبرها نقطة ملهمة رئيسية في نضاله من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروات وإحقاق الحق والقضاء على الظلم والاستبداد.

*****

إن المطالع لموقع "اشتراكيون" سوف يجد، منذ الكلمات الأولى، موقعاً مكرساً "لمعارضة النظام المصري" وما يجري في "المحروسة" من ظلم واستبداد واعتصامات ومظاهرات وحراك سياسي.
المسؤولون عن الموقع وكتابه لا يتخفون كثيراً ولا "يعلكون" الكلام عندما يصبون على "نظام مبارك" نقمتهم، بل انهم صريحون أيضاً في مشروعهم السياسي. فهم "اشتراكيون ثوريون"، نفضوا أيديهم من "الرأسمالية" ويريدون تغييرها عبر "ثورة جماهيرية شعبية" لأن "الثورة الجماهيرية من أسفل" هي وحدها من يستطيع إعادة الأرض لمن يكدحون فيها وتحقيق آمال المظلومين" (راجع فقرة "من نحن" في الموقع).
"الثورة الجماهيرية" هذه تقودها "الطبقة" العاملة، وهدفها إقامة "دولة العمال والكادحين" على غرار "الثورة البلشفية الروسية"(1917)، محكومة بديمقراطية عمالية تحقق المباديء الاشتراكية في ضمان نصيب الناس من الثروة بحسب الحاجة والكفاءة. (تبقى هناك "جزئية" الثورة العالمية التي يؤكد عليها "اشتراكيون"، والتي لا تعنينا هنا).

هذا الخطاب الاشتراكي معروف للجميع منذ دهر طويل، وموقف "اشتراكيون" تجاه "النظام الرأسمالي المصري" لا غبار عليه. ولكن المتصفح للموقع سوف يلاحظ تمركز "خطاب الاشتراكيين" حول النظام ومثالبه والنشاطات المناهضة له، في حين أنه يهمل إهمالاً تاماً ما يدور في الشارع المصري من تغييب عقل الناس "واستلابهم" بخطاب "ديني غيبي ماورائي" يعد عدواً أولاً لكل "تحول شعبي مستقبلي" ولكل تغيير ممكن نحو "المثال الاشتراكي" الذي يحلم به الساعون نحو الاشتراكية.

"موقع اشتراكيون" يريد تغييراً "من أسفل" ويريد "ثورة جماهيرية"، ولكنه لا يحفل مطلقاً "بالتركيبة الذهنية" للإنسان المصري الكادح الذي باعته وتبيعه مدارس "الإخوان وشركائهم ليمتد" "جنات الخلد" و"الحور العين" و"العبودية لله".

"موقع اشتراكيون" يريد "ثورة اشتراكية" ولكنه لا يفعل شيئاً من أجل "التمهيد لها" إلا تكرير نفس الخطاب الخشبي للأحزاب الشيوعية في القرن العشرين.

"موقع اشتراكيون" يحاذر التعرض لمشكلة حقيقية في الشارع المصري هي "العقلية الإسلاموية" التي تجتاح هذا الشارع منذ فترة غير وجيزة. فهل نستطيع أن نعتبر موقع "اشتراكيون" مؤتمناً على "رسالته" التي يبشر بها حقاً؟ وهل نستطيع أن نصف مواقفه "بالمبدئية" و"الأصيلة" عندما يتحدث عن "الاشتراكية" ويغمض عينيه عن "استلاب الشارع المصري" ورهنه بيد الله وملائكته واليوم الآخر والشيوخ والفقهاء والمشعوذين؟

هل يحسب "اشتراكيون" بأن التصدي "للتيار الإسلاموي" في مصر هو مسألة ثانوية ليست بذات بال؟ أم تراهم ماذا يحسبون عندما يتضامنون مع "الإخوان المسلمين" ويفردون صفحات الموقع "أحياناً" لبعض منظري "الراجعين إلى الخلف وفاشيي القرن العشرين"؟

*******

هنا قد يقول قائل بأن كل "حركة سياسية تختار أولوياتها"، وهنا نقول بأن الأولويات في "الحركات السياسية" عليها التقيد "بالأولويات الفكرية" لهذه الحركات، فليس بالإمكان بناء سطح المبنى قبل "حفر الأساسات وبناء الأعمدة والجدران".

ليس ممكناً أن نبدأ الرحلة من "منتصف الطريق"، ولا يستطيع أحد طحن القمح قبل حصاده. وهذا – للأسف – ما يفعله "الاشتراكيون الثوريون" بنكوصهم عن التصدي "للخطاب الفاشي الديني الإسلاموي" والتفرغ لمناجزة النظام المصري الفاسد فقط.

ولكن لماذا نقول هذا؟

نقول هذا استناداً إلى "الاشتراكية" نفسها، و"فكر كارل ماركس" الذي نجده في جميع "أسس المشروع الاشتراكي" الذي يفصح عن نفسه في زاوية "من نحن" من الموقع. هنا لا بد من التوضيح قليلاً:
عندما أراد "كارل ماركس" تغيير العالم وليس التفلسف بشأنه فقط (الفلسفة عند ماركس انتهت مع "هيجل")، فإنه ربط هذا التغيير برد "الانسانية إلى الإنسان". لقد أراد ماركس أن يزيل العوامل التي تصادر "انسانية الانسان" "وتسلبه نفسه" فيصبح "عبداً مقيداً" لا يستطيع أن يصنع مصيره ولا أن يقود قافلته بنفسه.
وعندما نظر "فيلسوف الاشتراكية" إلى تلك العوامل التي "تستلب" الإنسان، وجد "الخطاب الديني الغيبي" يقع في صلبها. فالانسان عند "ماركس"، ليس "مُستلباً" فقط من الناحية المادية ولكنه مستلب أيضاً من الناحية الروحية. لذلك فمن الواجب أن يتم تحريره "أولاً" من هذا "الاستلاب الديني" قبل أن يدرك، هو نفسه، مدى "استلابه الاقتصادي" ويقوم، من خلال هذا الإدراك، بتحرير نفسه من ربقة "العبودية الاقتصادية". فالخطاب الديني الغيبي – عند ماركس – يعطي لحياة الإنسان معنى وهمياً معداً سلفاً يقعده عن الحركة والتفتيش عن تحقيق ذاته "وتخليق نفسه" من جديد. فالدين عند "ماركس" هو "ظاهرة اجتماعية" أعطى بها الإنسان "خصاله الحميدة وإنسانيته" "لكائن أسمى" دفعه نحو المطلق. مما أدى إلى "استلاب الذات الانسانية" عبر هذا "الكائن الأسمى" (الله) ودفعه إلى مركز الكون والقعود على رجليه "خاطئاً، عبداً" يستجدي رحمته وفضله ومنته".
إن اجتثاث الخطاب الغيبي ورد "الانسانية إلى الانسان من هذا الكائن"، إذاً، هو "الخطوة الأولى" نحو المستقبل والحرية و"التغيير الاشتراكي"، ودون هذا "الاجتثاث" سوف يبقى الإنسان مقيداً إلى أنظمة تستعبده وتحكمه وتسوقه سوق النعاج. دونه تبقى "إنسانية الانسان" مسلوبة منه.

****


"ماركس" إذاً يقرر بأن "الخطوة الأولى" للتغيير الاشتراكي تكون في محاربة هذا "الخطاب الغيبي". ومع هذا فموقع "اشتراكيون" يروّج لمقالات بعض طويلي اللحى في صفحته كي تتحدث وتقول وتسوّق لبضاعتها الفاسدة النتنة.
موقع "اشتراكيون" يضع الحصان أمام العربة ولا يدرك بأنه لا يمكن زراعة الأرض قبل "حرثها".
موقع "اشتراكيون" ينافق "الإخوان المسلمين والفاشيين الإسلامويين" ويتستر على نظريته ومبادئه أو يخفيها ... لماذا؟
لا أعلم الجواب بالتأكيد، ولكني أخمن بأن "جذور الاشتراكية في مصر" ضعيفة بعد فشل التجربة السوفياتية، مثلما هي في جميع أنحاء العالم اليوم. لذلك فلم يكن من مناص عند "الاشتراكيين المصريين" إلا إعادة ترتيب الأولويات عبر طريقة "انتهازية" كي يعيدوا تكوين ذاتهم. هذه "الانتهازية" تكمن اليوم في "مسايرة الشارع" والتعريف بصوتهم عن طريق "معارضة السلطة فقط". وعندما يتمكنون يأتي دور التمهيد للاشتراكية عن طريق محاربة الخطابات "المستلِبة" (بكسر اللام).

هنا أعتقد بأن ما يفعله "الاشتراكيون الثوريون" اليوم من تجاهل "للخطاب الغيبي الذي يحكم الشارع المصري" ليس إلا خوفاً وضعفاً ونفاقاً في مرحلة "ضعف الوسائل" التي تتيح لهم أن يسمعوا أصواتهم بقوة.
"اشتراكيون" يتملق "القوى الراجعة إلى الخلف" إذاً كي يزداد قوة ومنعة، وهو لا يفعل هذا إلا لبعض الأسباب التكتيكية أو ما نستطيع تسميته "بالانتهازية" (فليس في مبادئه ما يجعله يلتقي مع الخطاب الديني الرجعي). لذلك تراه "يزاود ويكابر" في المواقف ويعلي صوته في المعركة مع النظام، انطلاقاً من مبدأ "تأكيد الذات" والتعريف بالنفس. ولعل "المزاودة والمكابرة" من أجل "إشهار الذات" بلغت بالموقع أن يصبح ملكياً أكثر من الملك، فتراه، عوض أن يلتفت إلى معركته الحقيقية (الاشتراكية وتحقيقها)، يرفع صوته في كل معركة أخرى ويتغنى بمواقف "رجعية" ويمارس خطاباً حاداً من باب "شوفوني يا ناس".

*********


من هذه المواقف، هذا البيان الذي أصدره "مركز الدراسات الاشتراكية" عن الصراع في فلسطين اليوم، والذي يخوّن "فتح" (بطريقة مضمرة) و"يطبطب لحماس". فهذا البيان يقول، ضمن ما يقوله،بأن الشعب الفلسطيني رفض الرضوخ "عندما اختار أن ينتخب من يقاومون ويرفض من يروجون للاستسلام، وكان على هذا التحالف أيضا أن يرد بقوة على عملية المقاومة الباسلة الأخيرة في غزة التي أذهلت إسرائيل والعالم كله وأعلنت فشل مشروع التركيع".

في عرفنا أن الشعب الفلسطيني لم ينتخب "حماس" لأنها تقاوم وترك "فتح" لأنها تستسلم. بل لم تكن هذه المواقف المبدئية على أجندة الشعب الفلسطيني، ولكن الذي كان على أجندته هو "تنظيف أجهزة السلطة الفلسطينية" من الفساد والرشوة والمحسوبيات التي ارتكبتها "فتح" ورجالاتها. لماذا نقول هذا؟
نقول هذا لأن "وثيقة السجناء الفلسطينية" تعترف "باسرائيل"، ولأن "حماس" اقامت الدنيا ولم تقعدها خوفاً من "الاستفتاء" الذي أراد طرحه الرئيس الفلسطيني محمود عباس.
في عرفنا أيضاً بأن هذه "العملية الباسلة" (عملية محمد فروانة الذي قتل جنديين وخطف واحداً) ليست إلا "عملية فردية تبتغي خلاصاً فردياً"، تضرب أسسها في التركيبية السيكولوجية الدينية للمنفّذ ولا علاقة لها "بالمقاومة" ولا "بالتركيع" ولا "بفلسطين" حتى (وفي هذا قلنا الكثير في موضوع آخر).

**********

أخيراً، ما الذي نأخذه على هذا النهج "للاشتراكيين الثوريين" أصحاب موقع "اشتراكيون"؟
نأخذ عليهم "تخاذلهم في إعلان طريقهم" و"مخاتلتهم في نهجهم" من أجل تسويقه، و"النفاق" غير المجدي مع الخطاب الغيبي الإسلاموي الفاشي الرجعي الذي أصبح هو الخطاب السائد في الشارع المصري – للأسف -.

نأخذ عليهم "وضع الحصان أمام العربة" وعدم العمل على حل المشكلة الأولى الحقيقية في محاولة التغيير الاشتراكي التي تجابههم في الشارع المصري، أعني بها مشكلة "تغييب العقل بخطاب ميتافيزيقي ماورائي مجدب" يبيع المواطن الشعير مكان القمح والخل مكان النبيذ.

نأخذ عليهم "جعجعتهم" في "اللي يسوى وما يسواش" والتحالف مع "القوى الرجعية" بدعوى أنها قوى كادحة، مع أنها هي العدوة الأولى في التمهيد للاشتراكية التي تبدأ "برد الانسانية إلى الانسان عن طريق تحريره من الاستلاب الديني".

واسلموا لي
العلماني