Grendizer
عضو متقدم
المشاركات: 413
الانضمام: Feb 2005
|
السيف الحاد في الرد على من أخذ بحديث الآحاد
بينما كنت ابحث في الانترنت في مسألة حديث الآحاد وجدت الموضوع التالي في منتدى عماني. فأحببت ان اطلعكم عليه لتعم الفائده. وليدرك من يتقيد بحديث الواحد ان ما يفعله هو شذوذ ومخالفة للعقل والمنطق. والطامة الكبرى هي عندما تجد من يحاول التوفيق بين حديث الواحد المشكوك في نسبته لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) ونص قرآني لاريب فيه.
---------
كتاب السيف الحاد في الرد على من أخذ بحديث الآحاد في مسائل الاعتقاد
و بعد ... فقد إختلف الناس في جواز الإحتجاج بالأحاديث الآحادية (1) في المسائل العقدية , على عدة مذاهب أشهرها المذهبان الآتيان :
المذهب الأول:
أن الأحاديث الآحادية لا يجوز الإحتجاج بها في المسائل العقدية , و ذلك لعدم القطع بثبوتها كما سيأتي تحقيقه بإذن الله تعالى .
و هذا هو مذهب جمهور الأمة كما حكاه النووي في مقدمة "شرح مسلم" و في "الإرشاد" و في "التقريب" , و إمام الحرمين في "البرهان" , و السعد في "التلويح" , و الغزالي في "المستصفى" , و ابن عبدالبر في "التمهيد" , وابن الأثير في مقدمة "جامع الأصول" , و صفي الدين البغدادي الحنبلي في "قواعد الأصول" , و ابن قدامة الحنبلي في "روضة الناظر" , و عبد العزيز البخاري في "كشف الأسرار" , وابن السبكي في "جمع الجوامع" , و المهدي في "شرح المعيار" , و الصنعاني في "إجابة السائل" , و ابن عبدالشكور في "مسلم الثبوت" , و الشنقيطي في "مراقي الصعود" , و آخرون سيأتي ذكر بعضهم بإذن الله تعالى .
__________________________________
(1) المراد بالآحاد ما عدا المتواتر كما هو رأي الجمهور .
--------------------------- 7 ----------------------------
وممن قال بهذا القول أصحابنا قاطبة ، والمعتزلة ، والزيدية ، وجمهور الحنفية ، والشافعية ، وجماعة من الظاهرية ، وهو مذهب مالك على الصحيح كما سيأتي –إن شاء الله تعالى- ، وعليه جمهور أصحابه ، وبه قال كثير من الحنابلة وهو المشهور عن الإمام أحمد كما سيأتي –إن شاء الله تعالى- ، وإليه ذهب ابن تيمية في (منهاج السنة) ج2 ص133 حيث قال ما نصه:
( الثاني أن هذا من أخبار الآحاد فكيف يثبت به أصل الدين الذي لا يصح الإيمان إلا به) اهـ. وكذلك نص على ذلك في (نقد مراتب الإجماع) لابن حزم.
المذهب الثاني:
أن أخبار الآحاد يحتج بها في المسائل العقدية ، وأنها تفيد القطع.
وهو مذهب طائفة من الظاهرية منهم ابن حزم ، وبه قالت طائفة من أهل الحديث ، وبعض الحنابلة ، واختاره ابن خويز منداد من المالكية ، وزعم (1) أنه الظاهر من مذهب مالك ، ونسبه بعضهم إلى الإمام أحمد بن حنبل وهذا ليس بصحيح عنهما بل الصحيح عنهما خلافه كما تقدم
__________________________________
(1) قوله: (وزعم ... ) فيه إشارة إلى أن هذا لم يثبت عن الإمام مالك وهو كذلك ، قال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان ج5 ص 291 في ترجمة ابن خويز منداد ما نصه:
(عنده شواذ عن مالك واختيارات وتأويلات لم يعرج عليها حذاق المذهب كقوله: .... وأن خبر الواحد مفيد للعلم ... وقد تكلم فيه أبو الوليد الباجي ، ولم يكن بالجيد النظر ، ولا بالقوي في الفقه ، وكان يزعم أن مذهب مالك أنه لا يشهد جنازة متكلم ولا يجوز شهادتهم ولا مناكحتهم ولا أماناتهم ، وطعن ابن عبدالبر فيه أيضا ) اهـ
--------------------------- 8 ----------------------------
رأي الإمامين مالك وأحمد في خبر الآحاد:
أما الإمام مالك فإن مذهبه تقديم عمل أهل المدينة على الحديث الآحادي كما هو مشهور عنه عند أهل مذهبه وغيرهم.
قال القاضي عياض في (ترتيب المدارك) ج1 ص66 باب ما جاء عن السلف والعلماء في وجوب الرجوع إلى عمل أهل المدينة:
( ... وكونه حجة عندهم وإن خالف الأكثر ) إلى أن قال: (قال ابن القاسم وابن وهب رأيت العمل عند مالك أقوى من الحديث) اهـ. أي حديث الآحاد.
فلو كان خبر الواحد يفيد عنده القطع كالمتواتر لما قدم عليه عملا ولا غيره ، إذ المقطوع به لا يعارض بالمظنون ، ولا يمكن أن يتعارض مع مقطوع به ، ولا يمكن الجمع بينهما كما هو مقرر في أصول الفقه ، وهذا ظاهر جلي.
بل ثبت عن الإمام مالك أنه كان يرد كثيرا من الأحاديث الآحادية بمجرد مخالفتها لبعض القواعد الكلية أو لبعض الأدلة العامة ، قال الإمام الشاطبي في (الموافقات) ج3 ص 21-23: ألا ترى إلى قوله في حديث غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا (جاء الحديث ولا أدري ما حقيقته ) وكان يضعفه ويقول: (يؤكل صيده فكيف يكره لعابه) ، وإلى هذا المعنى قد يرجع قوله في حديث خيار المجلس حيث قال بعد أن ذكره: ( وليس لهذا عندنا حد معروف ولا أمر معمول به) فيه >>>
--------------------------- 9 ----------------------------
إشارة إلى أن المجلس مجهول المدة ، ولو شرط أحد الخيار مدة مجهولة لبطل إجماعا ، فكيف يثبت بالشرع حكم لا يجوز شرطا بالشرع ، فقد رجع إلى أصل إجماعي ، وأيضا فإن قاعدة الغرر والجهالة قطعية وهي تعارض هذا الحديث الظني ، إلى أن قال: ( ومن ذلك أن مالكا أهمل اعتبار حديث (من مات وعليه صوم صام عنه وليه)) ، وقوله: ((أرأيت لو كان على أبيك دين ...الحديث)) لمنافاته للأصل القرآني الكلي نحو {{ ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان ما سعى }} (النجم 38-39) كما اعتبرته عائشة في حديث ابن عمر.
وأنكر مالك حديث إكفاء القدور التي طبخت من الإبل والغنم قبل القسم ، تعويلا على أصل الحرج الذي يعبر عنه بالمصالح المرسلة ، فأجاز أكل الطعام قبل القسم لمن احتاج إليه.
قال ابن العربي: (( ونهى عن صيام الست من شوال مع ثبوت الحديث فيه ، تعويلا على أصل سد الذرائع ، ولم يعتبر في الرضاع خمسا ولا عشرا للأصل القرآني في قوله {{ وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة }} (النساء: 23) وفي مذهبه من هذا كثير ) اهـ ، فكيف بعد هذا يقال: إن الإمام مالكا يرى أن أحاديث الآحاد تفيد القطع وأنه يستدل بها في مسائل الاعتقاد.
--------------------------- 10 ----------------------------
وأما الإمام أحمد فقد ثبت عنه ثبوتا أوضح من الشمس أنه كان يرى أن أحاديث الآحاد لا تفيد القطع ، والأدلة على ذلك كثيرة جداً ، أكتفي هنا بذكر اثنين منها:
1- روى أحمد ج2 ص301 حديث رقم 8011 ، والبخاري3604 ومسلم 74 (2917) من طريق أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( يهلك أمتي هذا الحي من قريش ، قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله ، قال: لو أن الناس اعتزلوهم )) ، قال عبدالله بن أحمد: ( وقال أبي في مرضه الذي مات فيه: اضرب على هذا الحديث فإنه خلاف الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم) ، فهذا دليل واضح وحجة نيرة ، على أنه يرى الحديث الآحادي ظني لا يفيد القطع وإلا لما ضرب عليه ، مع العلم بأن هذا الحديث موجود في الصحيحين كما رأيت من تخريجه (1).
____________________
الحاشية:
(1) وكذلك ضعف الإمام أحمد حديث ابن مسعود رضي الله عنه الذي رواه الإمام مسلم برقم (50) أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (( ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ، ويقتدون بأمره ، ثم إنه تخلف من بعدهم خلوف ، يقولون ما لا يفعلون ، ويفعلون ما لا يؤمرون ، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل )) اهـ.
قال الإمام أحمد كما في (شرح النووي على صحيح مسلم) ج2 ص28 وغيره: ( هذا الحديث غير محفوظ) قال: ( وهذا الكلام لا يشبه كلام ابن مسعود اهـ. وقال ابن الصلاح: هذا الحديث أنكره أحمد بن حنبل ) اهـ ، قلت: والحديثان صحيحان عندنا وما خالفهما –إن لم يكن الجمع بينهما وبينه- باطل مردود ، وليس هذا موضع بيان ذلك والله المستعان.
--------------------------- 11 ----------------------------
2- روى مسلم 266 (511) والأربعة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب .... إلخ))
قال الترمذي في سننه ج2 ص 163: قال أحمد: (الذي لا أشك فيه أن الكلب الأسود يقطع الصلاة ، وفي نفسي من الحمار والمرأة شيء) اهـ ، وانظر (الفتح) ج1 ص774-775 ، فهذا أيضا يدل دلالة واضحة على أن الإمام أحمد يرى أن الآحاد لا يفيد القطع ، وإلا لو كان يراه يفيد القطع لما توقف فيه ، وهذا الحديث كما رأيت موجود في صحيح مسلم.
--------------------------- 12 ----------------------------
المذهب الراجح وأدلته:
والمذهب الأول هو المذهب الحق الذي لا يجوز القول بخلافه ، والأدلة عليه –بحمد الله- كثيرة جداً ، أذكر بعضها هنا ، وأترك البعض الآخر لمناسبة أخرى.
وإليكم بعض هذه الأدلة:
(1) أنه لو أفاد خبر الواحد العلم لوجب تصديق كل خبر نسمعه ، لكنا لا نصدق كل خبر نسمعه ولو كان ناقله ثقة ، وهذا ظاهر لا يحتاج إلى بيان.
(2) أن الناس قد قسموا الأخبار إلى خمسة أقسام:
1- قسم مقطوع بصدقه.
2- قسم مقطوع بكذبه.
3- قسم يحتمل الصدق والكذب ، واحتمال الصدق أرجح من احتمال الكذب.
4- قسم يحتمل الصدق والكذب ، واحتمال الكذب أرجح من احتمال الصدق.
5- قسم يحتمل الصدق والكذب على سواء.
وجعلوا من القسم الثالث خبر الواحد العدل أو الخبر الذي لم يتواتر ، وذلك لاحتمال الذهول والسهو والغفلة والخطأ والنسيان ، إلى غير ذلك من الاحتمالات ، فإذا تبين ذلك ، فالقطع بالصدق مع ذلك محال ، ثم هذا في العدل في علم الله تعالى ، ونحن لا نقطع بعدالة واحد ، بل لا يجوز أن يضمر خلاف ما يظهر ، ولا يستثنى من ذلك إلا من استثني بقاطع كأنبياء الله ورسله –عليهم أفضل الصلاة والسلام-.
--------------------------- 13 ----------------------------
(3) أن الناس قد اتفقوا على أن التصحيح والتحسين والتضعيف ...إلخ أمور ظنية وأنه لا يمكن القطع بشيء من ذلك لاحتمال أن يكون الواقع بخلاف ذلك ، قال العراقي في ألفيته ج1 ص14 بشرح السخاوي:
وبالصحيح والضعيف قصدوا *** في ظاهر لا القطع ... إلخ
وإذا الحكم بتصحيح حديث ما ، أمرا مظنونا به ، وأنه يحتمل أن يكون بخلاف ذلك ، فلا يجوز القطع بدلالة ما دل عليه ، وهذا أمر ظاهر بين.
(4) أننا نرى العلماء كثيرا ما يحكمون على بعض الأحاديث بالصحة لتوافر شروط الصحة فيها عندهم ، ثم يجدون بعض العلل التي تقدح في صحة ذلك الحديث فيحكمون عليه بما تقتضيه تلك العلة القادحة ، وقد يضعفون بعض الأحاديث لعدم توافر شروط الصحة فيها ، ثم يجدون ما يقويها ، فيحكمون بصحتها وهكذا.
وهذا يدل دلالة قاطعة على أن الآحاد لا يفيد القطع ، وإلا لوجب على الإنسان أن يقطع اليوم بكذا ويقطع غدا بضده ، ويعتقد اليوم كذا ويعتقد غدا نقيضه ، وهذا لا يخفى فساده على أحد.
(5) أنه لو أفاد خبر الواحد العلم ، لما تعارض خبران ، لأن العلمين لا يتعارضان ، كما لا تتعارض أخبار التواتر ، لكنا رأينا التعارض كثيرا في أخبار الآحاد ، وذلك يدل على أنها لا تفيد القطع.
--------------------------- 14 ----------------------------
(6) أنه لو أفاد خبر الواحد العلم ، لاستوى العدل والفاسق في الإخبار ، لاستوائهما في حصول العلم بخبرهما ، كما استوى خبر التواتر (1) في كون عدد المخبرين به عدولا أو فساقا ، مسلمين أوكفارا ، إذ لا مطلوب بعد حصول العلم ، وإذا حصل بخبر الفاسق لم يكن بينه وبين العدل فرق من جهة الإخبار ، لكن الفاسق والعدل لا يستويان بالإجماع والضرورة ، وما ذاك إلا لأن المستفاد من خبر الواحد إنما هو الظن ، وهو حاصل من خبر الواحد العدل دون الفاسق.
(7) أنه لو أفاد خبر الواحد العلم ، لجاز الحكم بشاهد واحد ولم يحتج معه إلى شاهد ثان ، ولا يمين عند عدمه ، على مذهب من أجاز الحكم بشهادة الواحد مع اليمين ، ولا إلى زيادة على الواحد في الشهادة بالزنى واللواط ، لأن العلم بشهادة الواحد حاصل ، وليس بعد حصول العلم مطلوب ، لكن الحكم بشهادة الواحد بمجرده لا يجوز باتفاقهم. وذلك يدل على أنه لا يفيد العلم.
(8) أن كثيرا من المحدثين بل أكثرهم يرون الروايات بالمعنى ، كما هو معلوم لا يخفى على طالب علم ، وقد وردت أحاديث كثيرة جدا في كتب السنة مما لا يمكن أن يقال إلا أنها مروية بالمعنى ، كما لا يخفى على من له أدنى ممارسة لهذه الكتب ، والرواية بالمعنى لا يؤمن معها من الغلط ، ولاسيما إذا نظرنا إلى أن كثيرا من الرواة ليس عنده كبير فقه ، بل بعضهم من الأميين وأشباههم ، وبعضهم من الأعاجم الذين لا معرفة لهم بلغة العرب ، أضف إلى ذلك أن الخلاف في هذه المسائل قد وجد من أوائل القرن الثاني ، ومن اعتقد شيئا يمكن أن يعبر عن
____________________
الحاشية:
(1) في ذلك نظر عندي بالنسبة إلى الأحاديث النبوية والأخبار التي طال عهدها وتقادم زمنها كما بينته في غيره هذا الموضع والله تعالى أعلم.
--------------------------- 15 ----------------------------
بعض الألفاظ التي يتوهم أنها تدل على ما يعتقده بعبارة قد يفهم غيره الحديث بخلاف فهمه هو له ، وهذا موجود بكثرة كما يعلم بالاطلاع على كتب الحديث. والله أعلم.
(9) روى البخاري 1227 ، ومسلم 97 (573) ، وجمع من أئمة الحديث ، أن ذا اليدين قال لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما صلى الظهر أو العصر ركعتين: يا رسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة ؟ فقال له: (( لم أنس ولم تقصر ))) ..... ثم قال للناس: (( أكما يقول ذو اليدين )) فقالوا: نعلم ، فتقدم فصلى ما ترك ، ثم سجد سجدتين.
فهذا يدل دلالة واضحة على ان أخبار الآحاد لا تفيد القطع ، وإلا لاكتفى بخبر ذي اليدين ولم يحتج إلى سؤال غيره ، إذ ليس بعد القطع مطلوب ، وهذا ظاهر لا يخفى.
(10) روى البخاري 5191 ، ومسلم 34 (1479) وغيرهما من طريق ابن عباس رضي الله عنهما قال: (( لم أزل حريصا على أن أسأل عمر بن الخطاب عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله تعالى: (( إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما )) ، حتى حج وحججت معه ، وعدل وعدلت معه بإداوة فتبرز ، ثم جاء فسكبت على يديه منها فتوضأ ، فقلت له: يا أمير المؤمنين ، من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتان قال الله تعالى: (( إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما )) ، قال: واعجبا لك يا ابن عباس ، هما عائشة وحفصة ، ثم استقبل عمر الحديث يسوقه قال:
--------------------------- 16 ----------------------------
كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد وهم من عوالي المدينة ، وكنا نتناوب النزول على النبي صلى الله عليه وسلم فينزل يوما وأنزل يوما ، فإذا نزلت جئته بما حدث من خبر ذلك اليوم من الوحي أو غيره ، وإذا نزل فعل مثل ذلك ، وكنا معشر قريش نغلب النساء ، فلما قدمنا على الأنصار إذا قوم تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار ، فصخبت على امرأتي فراجعتني ، فأنكرت أن تراجعني قالت: ولم تنكر أن أراجعك ؟ فوالله أن أزواج ليراجعنه ، وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل. فأفزعني ذلك فقلت له: قد خاب من فعل ذلك منهن. ثم جمعت علي ثيابي فنزلت فدخلت على حفصة فقلت لها: أي حفصة أتغاضب إحداكن النبي اليوم حتى الليل ؟ قالت: نعم ، فقلت قد خبت وخسرت ، أفتأمنين أن يغضب الله لغضب رسول الله فتهلكي ؟ لا تستكثري النبي ولا تراجعيه في شيء ولا تهجريه ، وسليني ما بدا لك ولا يغرنك أن كانت جارتك أوضأ منك وأحب إلى النبي – يريد عائشة.
قال عمر: وكنا قد تحدثنا أن غسان تنعل الخيل لتغزونا ، فنزل صاحبي الأنصاري يوم نوبته ، فرجع إلينا عشاء فضرب بابي ضربا شديدا ، وقال: أثم هو ؟ ففزعت فخرجت إليه ، فقال: قد حدث اليوم أمر عظيم ، قلت: ما هو ؟ أجاء غسان قال: لا ، بل أعظم من ذلك وأهول ، طلق النبي نساءه ، وقال عبدالله ابن حنين: سمع ابن عباس عن عمر فقال: اعتزلني النبي أزواجه فقلت: خابت حفصة وخسرت ، وقد كنت أظن هذا يوشك أن يكون ، فجمعت علي ثيابي ، فصليت صلاة الفجر مع النبي ، فدخل النبي مشربة له فاعتزل فيها ، ودخلت على حفصة فإذا هي تبكي ، فقلت ما يبكيك ، ألم أكن حذرتك هذا ، أطلقكن النبي ؟ قالت: لا أدري ، ها هو معتزل في المشربة فخرجت فجئت إلى المنبر
--------------------------- 17 ----------------------------
فإذا حوله رهط يبكي بعضهم فجلست معهم قليلا ، ثم غلبني ما أجد فجئت المشربة التي فيها النبي فقلت لغلام أسود: استأذن لعمر ، فدخل الغلام فكلم النبي ثم رجع فقال: كلمت النبي وذكرتك له فصمت ، فانصرفت حتى جلست مع الرهط الذين عند المنبر. ثم غلبني ما أجد فقلت للغلام: استأذن لعمر ، فدخل ثم رجع فقال: قد ذكرتك له فصمت ، فرجعت فجلست مع الرهط الذين عند المنبر ثم غلبني ما أجد فجئت للغلام فقلت: استأذن لعمر ، فدخل ثم رجع فقال: قد ذكرتك له فصمت ، فلما وليت منصرفا – قال: إذا الغلام يدعوني –فقال: قد أذن لك النبي صلى الله عليه وسلم فدخلت على رسول الله فإذا هو مضطعجع على رمال حصير ليس بينه وبينه فراش قد أثر الرمال بجنبه متكئا على وسادة من أدم حشوها ليف ، فسلمت عليه ثم قلت وأنا قائم: يا رسول الله أطلقت نساءك ؟ فرفع إلي بصره فقال: لا ، فقلت: الله أكبر ......إلخ.
ووجه الدلالة منه ظاهر ، فإن عمر رضي الله عنه لم يجزم بخبر الأنصاري بل ذهب يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك بنفسه ولو كان خبر الآحاد يفيد القطع لجزم بخبره ، ثم إن الأمر كان بخلاف ما أخبر به الأنصاري وهذا دليل آخر على أن خبر الآحاد لا يفيد اليقين ، ثم إن هذا الحديث قد جاء بلفظ آخر وهو دليل آخر على أن الآحاد لا يمكن أن يجزم بمقتضاه كما لا يخفى ذلك على الفطن. والله أعلم.
(11) ثبت عن جماعة من صحابة رسول الله أنهم قد ردوا بعض الأحاديث الآحادية بمجرد معارضتها لبعض الظواهر القرآنية أو لبعض الروايات الأخرى ، فلو كانت أخبار الآحاد تفيد القطع لما ردوها.
وإليك بعض الأمثلة على ذلك:
--------------------------- 18 ----------------------------
أحاديث آحادية ردها الصحابة
(1) رد عمر رضي الله عنه خبر فاطمة بنت قيس عندما روت أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يجعل لها نفقة ولا سكنى ، فقال رضي الله عنه : ( لا نترك كتاب الله وسنة نبينا (1) صلى الله عليه وسلم لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت) والحديث رواه مسلم 46 (1480) وغيره .
(2) ردت السيدة عائشة رضي الله عنها خبر عمر رضي الله عنه في حديث (( تعذيب الميت ببكاء أهله عليه )) وقالت كما في صحيح البخاري 1288 وغيره : ( رحم الله عمر ، والله ما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه ) ، وقالت : حسبكم القرآن ( وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَ ) (الزمر:7) وكذا ردت خبر ابنه عبد الله في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه ، وقالت كما في صحيح مسلم 27 (932) وغيره : ( يغفر الله لأبي عبد الرحمن ، أما إنه لم يكن ليكذب ولكن نسى أو أخطأ ، إنما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهودية يبكى عليها ، فقال : إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قال الدار قطني كما في شرح مسلم للنووي ج 10 ص 95 : قوله : وسنة نبينا زيادة غير محفوظة لم يذكرها جماعة من الثقات اهـ يعني أن الثابت قوله : لا نترك كتاب ربنا لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت وهو بهذه الزيادة ـ وسنة نبينا ـ في صحيح مسلم .
--------------------------- 19 ----------------------------
(3) وردت رضي الله عنها خبر أبي ذر وأبي هريرة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : (يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب ويقي من ذلك مثل مؤخرة الرحل )) رواهما مسلم 265 (510) ، 266 (511) واللفظ لأبي هريرة .
فقد روى مسلم 269 (512) عنها ، أنها قالت عندما ذكر لها هذا الحديث : ( إن المرأة لدابة سوء لقد رأيتني بين يدي رسو الله صلى الله عليه وسلم معترضة كاعتراض الجنازة وهو يصلي ) وروى البخاري 514 ومسلم 270 و 271 (512) عنها رضي الله عنها أنها قالت : ( قد شبهتمونا بالحمير والكلاب والله لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وإني على السرير بينه وبين القبلة مضطجعة ... . إلخ ) .
(4) وردت رضي الله عنها خبر ابن عمر رضي الله عنهما الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم اعتمر في رجب .
فقد روى البخاري 1775 و 1776 ومسلم 219 (1255) وغيرهما من طريق مجاهد ، قال : ( دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد فإذا نحن بعبد الله بن عمر فجالسناه ، قال : فإذا رجال يصلون الضحى ، فقلنا : يا أبا عبد الرحمن ما هذه الصلاة ؟ فقال : بدعة . فقلنا له : كم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : أربعا إحداهن في رجب ) . قال : فاستحيينا أن نرد عليه . فسمعنا استنان أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، فقال لها عروة بن الزبير : يا أم المؤمنين ألا تسمعين ما يقول أبو عبد الرحمن ؟ يقول : اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعا إحداهن في رجب فقالت : ( رحم الله أبا عبد الرحمن أما إنه لم يعتمر عمرة إلا وهو شاهدها ، وما اعتمر شيئا في رجب ) اهـ .
(5) رد ابن عمر رضي الله عنهما حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : ... ولقيت عيسى فنعته النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ربعة أحمر (1) وحديث ابن عباس (2) رضي الله عنهما
--------------------------- 20 ----------------------------
(1) رواه البخاري (3437) .
(2) جاء في صحيح البخاري عن ابن عمر وهو غلط ــ وقد غير في بعض النسخ المطبوعة إلى ابن عباس ــ قال الحافظ في شرحه 6 (599 ــ 600 ) : قوله : ( عن ابن عمر كذا وقع في جميع الروايات التي وقعت لنا من نسخ البخاري ، وقد تعقبه أبو ذر في روايته فقال : كذا وقع في جميع الروايات المسموعة عن الفربري ( مجاهد عن ابن عمر ) . قال : ولا أدري أهكذا حدث به البخاري أو غلط فيه الفربري لأني رأيته في جميع الطرق عن محمد بن كثير وغيره عن مجاهد عن ابن عباس ، ثم ساقه بإسناده إلى حنبل بن إسحاق قال : حدثنا محمد بن كثير ، وقال فيه ابن عباس .
قال : وكذا رواه عثمان بن سعيد الدار مي عن محمد بن كثير قال : وتابعه نصر بن علي عن أبي أحمد الزبيري عن إسرائيل ، وكذا رواه يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن إسرائيل اهـ .
وأخرجه أبو نعيم في " المستخرج " عن الطبراني عن أحمد بن مسلم الخز اعي عن محمد بن كثير وقال : رواه البخاري عن محمد بن كثير فقال مجاهد عن ابن عمر ، ثم ساقه من طريق نصر بن علي عن أبي أحمد الزبير عن إسرائيل فقال ابن عباس اهـ .
وأخرجه ابن منده في " كتاب الأيمان " من طريق محمد بن أيوب بن الضريس وموسى بن سعيد الدنداني كلاهما عن محمد بن كثير فقال فيه ابن عباس ثم قال : قال البخاري عن محمد بن كثير عن ابن عمر والصواب عن ابن عباس ، وقال أبو مسعود في " الأطراف " إنما رواه الناس عن محمد بن كثير فقال مجاهد عن ابن عباس ، فوقع في البخاري في سائر النسخ مجاهد عن ابن عمر وهو غلط ، قال : وقد رواه أصحاب إسرائيل منهم يحيى بن أبي زائدة وإسحاق بن منصور والنضر بن شميل وآدم بن أبي إياس وغيرهم عن إسرائيل فقالوا ابن عباس قال : وكذلك رواه ابن عون عن مجاهد عن ابن عباس اهـ .
ورواية ابن عون تقدمت في ترجمة إبراهيم عليه السلام ، ولكن لا ذكر لعيسى عليه السلام فيها .
--------------------------- 21 ----------------------------
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( رأيت عيسى وموسى وإبراهيم فأما عيسى فأحمر جعد عريض الصدر ... )) الحديث (1)
فقد روى عنه ــ أعني ابن عمر ــ رضي الله عنهما البخاري ( برقم 3441 ) وغيره أنه قال : لا والله ما قال النبي صلى الله عليه وسلم أحمر ولكن قال : بينما أنا قائم أطوف الكعبة فإذا رجل قائم سبط الشعر يهادى بين رجلين ينطف رأسه ماء أو يهراق رأسه ماء فقلت : من هذا ؟ قالوا : ابن مريم ، فذهبت فإذا رجل أحمر جسيم جعد الرأس أعور عينه اليمنى كأن عينه عنبة طافية قلت : من هذا ؟ قالوا : هذا الدجال وأقرب الناس له شبها ابن قطن .
والروايات بذلك عنهم كثيرة ، وإذا كان ذلك في ذلك العصر الذهبي الزاهر القريب من عهد النبوة ، فهل يمكن أن نحتج الآن بحديث آحادي على إثبات مسألة عقدية ؟ وبيننا وبين ذلك العصر أربعة عشر قرنا ، هاجت فيها أعاصير الفتن، وماجت فيها تيارات الأحداث واشتعلت نيران البدع ، وعم التعصب ، فأخلق الدين بعد جدته،
__________________
= وأخرجها عن شيخ البخاري فيها وليس فيها لعيسى ذكر إنما فيها ذكر إبراهيم وموسى فحسب. وقال محمد بن إسماعيل التيمي : ويقع في خاطري أن الوهم فيه من غير البخاري فإن الإسماعيلي أخرجه من طريق نصر بن علي عن أبي احمد وقال فيه عن ابن عباس ولم ينبه على أن البخاري قال فيه عن ابن عمر ، فلو كان وقع كذلك لنبه عليه كعادته .
والذي يرجح أن الحديث لابن عباس لا لابن عمر ما سيأتي من إنكار ابن عمر على من قال إن عيسى أحمر وحلفه على ذلك ، وفي رواية مجاهد هذه ( فأما عيسى فأحمر جعد ) فهذا يؤيد أن الحديث لمجاهد عن ابن عباس لا عن ابن عمر ، والله أعلم .
(1) رواه البخاري (3438 ) .
--------------------------- 22 ----------------------------
وتكدرت النفوس بعد صفائها ! ألسنا الآن أحوج ما نكون إلى اتباع هذا المنهج المستقيم في الاحتراز وأخذ الحيطة ، والتمسك بالقواطع من كتاب الله والمتواتر من سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ورد المتشابه إلى المحكم ، والمختلف فيه إلى المتفق عليه ؟! .
هذا ومن المعلوم أن المطلوب في باب الاعتقاد .‘ عقد القلب على الثابت الذي لا يمكن أن يطرأ عليه في وقت من الأوقات خطأ ولا وهم ، وذلك لا يمكن حصوله إلا بنص الكتاب والمتواتر من سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم .‘ بشرط أن تكون دلالة كل منهما نصا صريحا لا يحتمل التأويل ، وما عدا ذلك لا يمكن الاعتماد عليه في باب الاعتقاد .
فالعجب كل العجب ! من أولئك الذين يثبتون بعض قضايا العقدية ، التي لها تعلق بأسماء الله وصفاته ، أو وعده ووعيده ، إلى غير ذلك مما له تعلق بباب الاعتقاد ، ويكفرون من خالفهم في ذلك ، ويفسقونه ، ويضللونه ، ويبدعونه ، ولا دليل لهم على ذلك ولا مستند ، إلا مجرد الاعتماد على بعض أحاديث الآحاد التي يجوزون على رواتها الخطأ والغلط والوهم والذهول والنسيان إلى غير ذلك مما لا يكاد يسلم منه إنسان ، ومن هنا تراهم يتخبطون في عقائدهم تخبط عشواء ، فتجدهم اليوم يصوبون من كانوا بالأمس يفسقونه ، وتراهم في الغد يحكمون بفساد ما اليوم يعتقدونه . والأمثلة على ذلك كثيرة جدا لا حاجة لذكرها هنا . (1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ومن العجائب أن أرباب هذه النحلة الخاسرة من أشد الناس تناقضا في هذا الباب ، وذلك لقلة علمهم بهذا الفن وغيره ولأسباب أخرى يعرفونها بأنفسهم ، ولولا خوف الإطالة لذكرت بعض الأحاديث التي تناقضوا فيها ولا سيما التي في العقيدة ولعلنا نفرد ذلك برسالة خاصة ــ
--------------------------- 23 ----------------------------
|
|
07-13-2006, 07:37 AM |
|