طالما كانت الذكريات الوجع الكبير الذي لم أجد له علاجا مهما حاولت؛ جرّبتُ اللهو هنا وهناك فما كانت الملهيات إلى كالزيت الذي تلقيه على النار حتى تزداد اشتعالا، وجربتُ تقدير الذكريات فازداد ندمي على تركها خلفي ... وهكذا دواليك، ألمٌ يتبعه ألم، وشوقٌ يحترق بشظايا شوقٍ من نوع آخر!!!

كان اليوم هو اليوم الموعود بالنسبة لي، منذ ساعة استلامي لتذكرة الطائرة حتى الآن وأنا لم أقتنع بعد أنني لا أعيش حلما جميلا جدا. أوصلني ابن عمي إلى المطار عند الساعة الثانية والنصف صباحا، فركبتُ الطائرة وأنا أترنّحُ من شدة النعاس بسبب جلوسي في بدلتي الجديدة خائفا عليها أن تفسد تقاسيمها إن أنا تحرّكتُ هنا أو هناك فكنتُ كالصّنم جالسا متابعا للأخبار على مدار الساعة حتى أنني أضحيتُ قادرا على وضع مؤلّفات حول الوضع في لبنان :D ، لكن المقعد الخشن والركاب والمتزاحمون من حولي أبو إلا أن يتركوني أحترق في شوقي وحماستي أكثر فأكثر ....

إنتهت رحلة دامت ثلاث ساعات من محاولات النوم والتقلب في مساحة لا تكفي حتى للجلوس المريح، فلملمتُ حاجياتي وانطلقتُ شاقا طريقي مرة أخرى للخروج من الطائرة التي صارت كالكابوس بالنسبة لي!! كانت الدهشة التي تملّكتني عند النزول من على ظهر الطائرة لا تُوصف، فهي المرة الأولى خلال الأشهر الثلاثة الأولى التي أتنشّقُ فيها هوائا خاليا من رذاذ الماء الخانق .... أسرعتُ خارجا لأنهي معاملاتي وأخلّص نفسي من إحساس السفر والترحال، حتى أنني تناسيتُ مسألة نسياني لهاتفي على ظهر الطائرة لدرجة أنني لم أناقش رجال الأمن حين منعوني من العودة إلى الطائرة للبحث عنه!!

كلّفتُ نفسي عناء الانتظار لساعة ونصف الساعة لعلّي أسمعُ خبراً عن هاتفي لكن دون فائدة فأدرتُ ظهري وانطلقتُ خارجا باحثا لعلّي أجدُ أحدا ينتظرني لكن الحظّ لم يكن حليفي هذه المرة ... عموما أنا مشتاق لركوب الحافلة فلم يهمّني من هذا شيء، فاشتريت كوبا من القهوة وجلستُ أناظر الناس ينتظرون أحبّتهم على أحرّ من الجمر.

كان ركوب الحافلة (وفي رواية أخرى "الباص") حافلا بالذكريات الراااااااائعة ... في الطريق توقّفت الحافلة لتُقل فتاة يبدو عليها أنها طالبة جامعية بسبب الكمّ الهائل من العطور التي عبق بها الجو وبسبب كومة الكتب التي كانت تصارع للاحتفاظ بها بين يديها!!! جلست الفتاةُ بجانبي وحصل أن لأول مرة تحاول فتاة أن تفتح معي حديثا! لماذا لستُ أدري لكنني مارست كعادتي الأسلوب "الغبي" في الحديث مع النساء، حيث أنني لبقٌ مع الكل إلا مع النساء "ألتخم" و"أرتبك" فأصبح كالحائط أو بالأحرى كالطفل الصغير لا يعرف إلا الإجابة على السؤال إن كان قد تعلم الإجابة من قبل، بادرتني لتسأل إن كنتُ من سكان الأردن فكان جوابي على قدر السؤال بالضبط "نعم" وحاولت مرّة أخرى "يعني أنت ساكن في الأردن" وبادرتها بنفس الجواب "الناشف" قائلا "نعم"!!!! المفروض أن أبادر بفتح حديث معين حتى تتوطّد المعرفة وعلى الأقل أكون قد جاملت لكنني كالعادة عقدتُ لساني وجلستُ أطالع المناظر من حولي خلال رحلة الحافلة قاطعة عمّان نزولا إلى منطقة "العبدلي" حيث تبدأ رحلة أخرى ذات نكهة أجمل.....

أروع ما يميّز "باصات" الزرقاء هو وجود شخص يسمّى "كونترول" ووظيفته هي جمع الأجرة وفتح الباب وإغلاقه للطالع والنازل ... طبعا هي نفسُ الكلمات المعهودة "نزّل"، "طلّعلي هالشّب"، "مين نازل على ......"، "مين ظايلّو باقي؟" وإلى آخره من تعابير هذه المهنة التي أنوي تأليف كتاب عنها بعنوان "كيف تصبح كونترولا ناجحا"...

سأتبعها قريبا لأن بطارية الجهاز شارفت على مفارقة الحياة :mad2:

:redrose: