لم يعد مستغرباً، ونحن نعيش في عهد الأنظمة الرأسمالية، أن نرى كل ما حولنا قد تحول إلى سلعة. فالإنسان سلعة، والهواء سلعة، و الأفكار والمبادئ والقيم أصبحت سلعاً.

فالتسليع أصبح هوس العصر وهو الأساس الذي تقوم عليه النظريات الرأسمالية لجني الثروة وكسب الأرباح. ونحن نرى الآن كيف أصبحت كل الأشياء عاهرها ومقدسها سلعاً يزايد عليها الكل في بازار كبير بالدولار واليورو وغيره من العملات العالمية الصعبة.

ولقد اصاب التسليع الفكر وعلّبه وجهّزه ووضبه جاهزا للإستهلاك العام عبر التطوّر الرهيب في وسائل الإعلام والنشر. ولقد انتشرت شركات عالمية ووطنية كثيرة تتخصص في الترويج للأفكار وتحسينها لدى العامة، ووظفت لذلك مفكرين محترفين قادرين على الكتابة المقنعة لأي فكر كان. ويبدو أن الحسابات المالية لدور تسويق البضائع الفكرية هذه لم تكن خاسرة، فتكاثرت هذه المؤسسات الحكوجية على الشبكة العنكبوتية وتكاثر معها موظفيها من دكاترة الفتل واللف والدوران، واصبغوا على أنفسهم القابا كبيرة فخمة برنينها وطنينها، فهذا مبدع، وذاك مفكر، وآخر فيلسوف... وكل أولئك حاضرون وجاهزون ومجهزون بأحدث الوسائل والأساليب ليتكبوا بإقناع عن السلعة التي يسوقون لها لصالح زبون اليوم والحساب الجديد.

ولا يخرج الدين –أفيون الشعوب- عن إطار بضائع التسليع التي يتم تداولها في بازارات العالم العربي ، فهناك الآيات القرآنية التي تروّج لها شركات الاتصالات ليتبادلها الناس فيما بينهم في مناسباتهم عبر الرسائل الصوتية، بينما تحصد هذه الشركات المليارات عبر تسليع آيات القرآن ليتمكنوا من ضمان أموال تلك الشريحة من المسلمين التي لا تتعامل بالأغاني والنغمات.

آيات لكلّ المناسبات، هذا هو الشعار الذي رفعته شركات التسويق لتسلعن بواسطته آيات الذكر؛ فهناك آيات من سورة مريم بمناسبة عيد الميلاد، وآيات عن برّ الوالدين بمناسبة عيد الأم، وأيات من سورة النساء بمناسبة أعياد الزواج. ولن أتعجّب أبدا إذا ما قام أحدهم بتسويق آيات من سورة محمد بمناسبة عيد السكارى ﴿مثل الجنه التي وعد المتقون فيها انهار من ماء غير اسن وانهار من لبن لم يتغير طعمه وانهار من خمر لذه للشاربين وانهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفره من ربهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع امعاءهم﴾.

وهنا لا أريد أن اتحدث عن تسويق السلع الإسلامية بقد ما أريد الكلام عن تسليع الفكر الإسلامي. الفكر والآراء الشرعية الإسلامية (الفتاوي) كغيرها من الأفكار احبحت سلعا معروضة في بازارات السلع الفكرية العربية. ولقد وظفت شركات التسليع هنا أيضا حرفيين متخصصين في صياغة الفتاوي وتسويقها يحملون شهادات عالية في التجارة الدينية من خريجي الإزهر والمؤسسات الدينية السعودية والإيرانية وغيرها. والحقيقة أن الناظر الى أصحاب الفخامة والسماحة والحجج الإلهية لا يسعه سوى أن ينبهر من عظمة عمامات هؤلاء العظماء العظيمة. أما مهارة هؤلاء في إصدار الفتاوي المناسبة فحدّث ولا حرج، فهناك من هو قادر على الإفتاء بوجوب والجهاد وحرامه في يوم واحد، وهناك من هو يقدر على اللإفتاء بضرورة الحجاب وعدمه في جملة واحدة .. وعلى ذلك قس.

ولأنني احمل درجة ماجيستير في إدارة الأعمال من أحد أعرق الجامعات الرأسمالية، ولأن لي خبرة عريضة في تسليع ما يصعب تسليعه، فلسوف أخوض مع الخائضين وأسلّع حديث أخرجه الترمذي عن أبي هريرة وابن عمر قالا: «قال رسول الله يكون في آخر الزمان رجال يختلون الدنيا بالدين، ويلبسون الناس جلود الضأن، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم قلوب الذئاب، يقول الله تعالى: أبي تغترون أم علي تجترئون؟ فبي حلفت لأبعثنَّ على أولئك منهم فتنة تذر الحليم فيهم حيراناً»

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن وبعد أن جعل علماء السلاطين من آيات الله وكتابه سلعةً تباع و تشترى، كيف يمكن للأمة العربية ذات الروح الإسلامية التصدي للهجمات الشرسة التي تمارسها الصهيونية العالمية على ارضها وعلى مفاهيمها وعلى حضارتها؟ الضربات تتوالى عسكريا وفكريا وثقافيا وحضاريا، ولم يذر المعتدون سلاحا وفروه لضرب الشعب العربي قيما وأنظمة واقتصادا ومجتمعات مدنية، حتى فقد العرب القدرة على الإبتكار واصبحوا مجموعات هلامية تردد ببلاهة كل ما يسوق لها من بضائع ليبرالية كانت أو ثورية، سلفية كانت أو صوفية.

المطلوب طبعا هو أن يرضخ العرب لقدرهم .. واللإيمان بالقضاء والقدر خيره وشرّه من الله تعالى هو أحد اركان إسلام الطلقاء الذي رسّخ قواعده معاوية بن أبي سفيان. المطلوب من دكاترة الفتل الدينيين هو تكييف الزبون المسلم لكلّ ما يراه مناسبا أولي الأمر من أصحاب السموّ والفخامة.

ذكر احد الأشخاص في هذا السياق مقابلة تلفزيونة مع إحدى المحاميات القبطيات في برنامج يناقش تحليل الطلاق لدى المسيحيين الذي وافق عليه البابا شنودة في مصر. هذه المحامية المسيحية رفضت رفضاً قاطعاً أي تحليل للطلاق لأنها تعتبر أن ديانتها قد جاءت بنصوص قطعية تحرم الطلاق. وقد قالت لمذيعة البرنامج المسلمة: «نحن لا نعبد البابا شنودة، نحن نعبد الرب، وأنا أعتقد بأن الإنجيل هو من عند الرب، وقد جاءت فيه نصوص قطعية تحرم الطلاق، ولا يجوز للبابا شنودة أو من هو أعلى منه رتبةً أن يحلل شيئاً حرمه علينا ربنا...». ثم استرسلت المحامية القبطية تخاطب المذيعة المسلمة قائلةً لها: «أنتم المسلمون مثلاً لو قام شيخ الأزهر بتغيير أمر في الإسلام عندكم فيه نص قطعي بالقرآن فلن تسمحوا بذلك أيضاً». عند ذلك لم تعقب المذيعة المسلمة لأنها تعلم تماماً أن كثيراً من العلماء لبمسلمين قد تجرؤوا على كتابهم المنزّل فأحلوا الحرام وحرموا الحلال، فالربا حلال ثلثه، ونصح الأمير حرام كله. وقال هذا الشخص أنه تمنى وهو يسمع كلام تلك المرأة التي تتمسك بعقيدتها أن يرى أو يسمع رجلاً من العلماء المسلمين الرسميين يتمسك بنص قطعيّ فلا يؤوّله ولا يُحرّفه ليُرضي به أسياده السلاطين

علماء السلاطين هؤلاء عليهم أن يشتروا بضعة أيات طيبات وأن يعضوا عليها بالنواجذ حتى يكفوا عن بيع دينهم بدنيا غيرهم. ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾

وحريّ بهم أن يتذكروا قول نبي الإسلام «إن الناس إذا رأو الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه» (رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، بأسانيد صحيحة)

--
مصروف بتنقـّل (أي منقول بتصرف واسع حتى كاد يفارق أصله)