مساء الفل.
موضوع خفيف، من نوعية "السهل الممتنع"..
أي أنّه يبدو خفيفاً ، ولكنّه ثقيل جدا من الطراز الشديد الكثافة.
فاحترسوا من التسرع في القول أو التصويت.
أعرف شخصاً سوف أسميه "شوقي عادل" .
اخترت له هذا الإسم لأنّ شقه الأول يشير إلى "العاطفة" وشقه الثاني يشير إلى "التجريد". نصفه الأول يوحي بالذاتيّة الحميمة والثاني بالموضوعية الباردة.

قضية شائكة، واستطلاع ليس سهلاً كما يبدو من النظرة الأولى والفكرة الأولى التي قد تبرق في المخ.

"شوقي عادل" هو شخص مثلنا جميعاً، لا يتميز بشيء إلا بأنّه إنسان يتكون من عاطفة وعقل، جسد وروح، أي أنّه يتميز بما يتميز به الإنسان.

ولد شوقي عادل مثلما ولدنا جميعاً ، في حضن أسرة تعتنق ديناً سماويّا، وتشرب كتابه المقدس وآمن به لسنين طويلة.
وجاء عليه يوم فتح فيه ذلك الكتاب، كما كان يفتحه كل يوم، ولكنّه هذه المرة رأى شيئاً بين السطور لم يكن يراه من قبل. كان شيئاً قبيحاً يمشي كصرصار وقع بين خيوط طويلة من طبق شهي للمكرونة الاسباجيتي. حاول أن يمسك بهذا الشيء الأسود الذي يتخلل بين السطور ويطلع وينزل بينها كقزم شيطاني رخيص. ولكنّه لم يشأ أن يمسك بحذائه ويسحق الشيء لئلاً يهين تلك الخيوط المقدسة المسطورة في الكتاب الذي طالما آمن به واعتقد أنّه أسمى ما كتب في الوجود..
مع مرور الوقت ، وبعد محاولات يائسة كثيرة للإمساك بالصرصار المتغلغل بين السطور والذي يرتع خلال الصفحات بكل حرية، أدرك شوقي عادل بأن الصرصار جزء من الكتاب، أنّه يسكن بين السطور منذ اليوم الذي خطّت فيه.
يئس شوقي عادل ، وتقزز وأمسك بالكتاب ورمى به على امتداد ذراعه، ولم يعد يمسك به مرة أخرى، طبعاً ذهب وغسل يديه كثيراً بالمطهرات والصابون.

ذهب شوقي بعدها وجلس على الأريكة التي في غرفة معيشته ، وبدأ يفكر فيما عساه أن يكون معنى حياته، وما عساه أن يكون هدفه هذا في الحياة؟
بقي شوقي جالساً على الأريكة سنوات لا يتحرك من مكانه، وبدأت أطرافه تتحجر. ولكنّه في أحد الأيّام تناول مفكرة كانت مستلقية إلى جواره، وبدأ يكتب عليها ما توصل له من حلول عن " المعنى". وقد توصل إلى عدة نقاط بعد سنوات طويلة، قرر أن يضعها تحت عنوان واحد سمّاه " الحل: فلسفتي في الحياة ".وأخذ يسطر تلك النقاط ويشرح فيها بإسهاب. وما لم يتوصل بعد إلى بحثه بشكل جيد ، كتب ملاحظات تحته "تحتاج هذه النقطة إلى التوسع في دراسة كذا وكذا" من المجالات.

لكن شوقي عادل، بدأ يدرك بعد كل هذه السنوات ، أن الوحدة قاسية للغاية ، ربما تكون أقسى ما في الوجود والاختيار.
لم يكن شوقي يستطيع أن يرتبط بإنسانة طوال تلك السنوات لأنّه لم يكن يريد أن يتحرك من على الأريكة بسبب انشغاله بالبحث عن معنى. كان يدرك الألم يعتصره ، ولكنّه كان يتحمله حتى يتوصل إلى تسوية مع الحياة. وكان قد أجل الارتباط إلى أجل غير مسمى.
أيضاً لم يكن شوقي يريد الارتباط لأنّه كان من قبل قد حاول عدة محاولات يائسة للبحث عن إنسانة تقبله كما هو، ولكنّه لم يجد سوى أفكار إقصائيّة تتخذ شكل أجساد آدميّة ، فمنها المتديّن ومنها اللاديني، ولكن كل تلك الأفكار المتجسدة كانت إقصائية على أية حال.
أي أنّها لم تكن تقبله ما لم يتطابق مع كل ما تقوله، ولهذا رفض شوقي عادل أن يتنازل عن حريته وعدله ويرتبط بتلك الأفكار المتجسدة في شكل آدمي.

في يوم من الأيام ، تقابل شوقي مع فكرة أخرى، كانت متجسدة في شكل آدمي. بدأ يتعامل معها ببرود كعادته مع مثيلاتها.
إلا أنّه مع الوقت بدأ لسبب ما، يدرك أن تلك لم تكن فكرة باردة كما تخيلها ، وكما رأى من قبل في الآخرين. بدأ يرى أنّ هذه الفكرة الإقصائية كانت تحوي خلفها إنسانة دافئة جداً ، مليئة بالعواطف وتفيض بالإنسانيّة . والأهم من هذا كله أنّه استطاع أن يرى تطابقاً غير عادي بينه وبينها من حيث المشاعر والعاطفة والوجدان، أما من حيث الأفكار، فقد كانا على طرفي نقيض.
وأهم اختلاف بينهما ، هو أن شوقي عادل لم يكن إقصائياً في فكره. كان على استعداد لقبولها مهما كانت "ديانتها" أو "لاديانتها"، ومهما كانت ميولها وتوجهاتها. أي أن شوقي عادل كان إنساناً له أفكار.

أما هي فكانت فكرة في قالب إنساني، أي أنّها كانت إقصائيّة، ترى أن الحق معها فقط في عقيدتها الدينية أو اللادينية ، حاول مرة أن يلمح لها عمّا تعتقده فيمن يفكر فكره هو، ففزعت وقالت له أنّها لا تطيق أولئك الذين يفكرون بهذه الطريقة. فضحك وسكت، واستمرت الامور بينهما على خير ما يرام.
بدأ يكتشف أنّها لم تكن فكرة في قالب إنساني، بل إنسانة تم قولبتها في أفكار ضيقة. وجعله ذلك يشفق عليها كثيراً. ولكنّ هذه الشفقة لم تكن سبباً في حبه لها. لقد أحبها لأجل إنسانيّتها لا لأجل شفقته لأنّها حبست في نطاق فكري ما..

الشيء الهام هو أنّ شوقي عادل، كان قد توصل من خلال فلسفته تلك التي دونها، أن الحياة أصلاً لا معنى لها في ذاتها، وأنّ الإنسان يحب السعادة والهناء. وفكر في أنّه لا معنى أيضاً أن يعتنق فلانٌ هذا الدين أو ذلك أو أن يكون ملحداً أو لا دينيًا، ولكن المعنى هو في السعادة، والسعادة هي في الحب، أي في : الإتصال الإنساني بينه وبين إنسان آخر يقدره ويحبه ويفهمه، ويتبادلان هذا الشعور. والسعادة هي أيضاً في الإرتباط بالطبيعة التي سيعود إلى حضنها فيما بعد ليساهم من خلالها في دورة الحياة التي لا تنتهي..

وهنا بدأ يسأل نفسه سؤالاً: هل من السعادة ان يمضي وقته على الأريكة في الغرفة الكئيبة، ويمسك بدفاتره ويكمل تسطير خيوط فلسفته في صمت وهدوء وبرود ، مع علمه أنّه لن يجد الوقت ولا اليوم الذي تسنح له فيه فرصة تطبيق هذه الفلسفة نهائياً ، وبالتالي ستبقى حبراً على ورق فقط ؟

أم أن الأفضل له - وفقاً لما تقول به هذه الفلسفة ذاتها - أن يرتبط بتلك الإنسانة التي يعتقد أنّها لن تتكرر مرة أخرى، ولو اضطره ذلك إلى التظاهر بأنّه يعتنق أفكارها؟، والتي يرى أصلاً انّه لا معنى من اعتناقها أو اعتناق سواها من الأفكار وحتى أفكاره هو نفسه..لا معنى لها. ولكن المعنى هو في أن يكون مع هذه الإنسانة خلال الفترة التي تبقت له من حياته على ظهر الأرض، وقبل أن يدخل بسلام إلى بطنها..أن يحقق السعادة بالتطبيق، بدلاً من أن يمضي وقته بالكتابة عنها في دفاتره.

إذن ترى هل يمضي شوقي في حياة يوميّة زائفة وفارغة، ولكنها مصبوغة بفكر مخلص وحقيقي ؟
أم يمضي في حياة إنسانيّة حقيقيّة ، ولكنّها مغلفة في أفكار زائفة؟

هل يختار شوقي عادل "شوقه" أم "عدله".

أرجو أن تقرأوا جيداً قبل الإفتاء أو الإدلاء بصوتكم في هذا الاستطلاع.

أراكم بعد حين