{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 0 صوت - 0 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
لحظة معاوية: كرة ثلج تاريخية
الكندي غير متصل
ليس التلاسن مع الرعاع فكر ولا حرية
*****

المشاركات: 1,739
الانضمام: Jul 2002
مشاركة: #1
لحظة معاوية: كرة ثلج تاريخية
الحلقة الأولى

من فصل " الامس المستمر" - كتاب البوصلة القرآنية للدكتور أحمد خيري العمري دار الفكر دمشق

في تاريخنا لحظات لم تنته ، عبر السنوات والقرون واختلاف العصور ظلت مستمرة. لحظات حاسمة شكلت منعطفاً تاريخياً اجتماعياً ونفسياً على مستوى المجتمعات والأفراد. هذه اللحظات جاءت بمتغيرات نفسية واجتماعية وسياسية شكلت، عبر استمراريتها، البنية التحتية الأساسية للفرد والمجتمع المسلم وهي البنية التي ظلت ثابتة ومكرسة عبر قرون طويلة بالرغم من تغير ظروف كثيرة ومجيء متغيرات متعددة .

هذه اللحظات المستمرة ليست أمرا غريبا في تجارب الشعوب الحضارية. إن لحظة الماغناكارتا في التجربة الغربية لإنزال مستمرة مع تراكمات كمية ونوعية مختلفة. ولحظة الصراع بين الكنيسة والعلم وما نتج عن ذلك من مفاهيم مثل العلمانية لا تزال مستمرة مع تطورات متنوعة عبر التفاعل مع الظروف والمستجدات. بل إن حتى لحظة الحروب الصليبية والخوف من الآخر المسلم لا تزال مستمرة وعميقة الجذور في النفسية والذهنية الغربية وتحتاج إلى القليل من الاستفزاز لتظهر جلية واضحة من أعماق اللاوعي إلى السطح الواعي المستفز .

كيف يمكن للحظة تاريخية واحدة أو فترة تاريخية معينة -إن شئنا القول- إن تستمر وتهيمن على مراحل تاريخية بل عصور تاريخية لاحقة ؟ يحدث ذلك ببساطة و دون ما تعقيدات عندما لا تعارضها لحظات أخرى تلغي تأثيراتها وتنفيها عن الوجود. لا يمكن تصور حدث تاريخي معين لم تعارضه وتحاربه عوامل سواء من داخل بيئته و واقعه أو من خارجها…

لكن المهم في المسالة هو هل ستستطيع هذه العوامل إن تلغي من تأثير تلك اللحظة ؟ إن تعكسها وتنفي سلبياتها ] أو إيجابياتها [ بمستجدات جديدة مختلفة عن تلك التي حاربتها وألغتها ؟ المهم في المسالة هو اللحظة التي ستنتصر . فالرابح في النهاية يأخذ كل شئ حتى التاريخ .

قد تكون اللحظات المنتصرة تمتلك البعض أو الكثير من الإيجابيات التي يمكن ترسيخها عبر التفاعل المستمر مع المتغيرات فلحظة الماغناكارتا كانت أساسا عميقا لليبرالية غربية ]مفيدة للغرب على الأقل [ كما إن لحظة الصراع بين الكنيسة والعلم أنهت الاستبداد الكنسي بالمجتمع والحكومة و أنقذت أوربا من ظلمات عصر الانحطاط وفتحت أبواب عصر التنوير وذلك كله كان مفيدا ( لأوربا على الأقل )
وفي الوقت نفسه فان لحظة إبادة الهنود الحمر العميقة في لاوعي النهضة الأمريكية لا تزال موجودة وتسيطر على نزعة الهيمنة والفوقية الأمريكية والتي تظهر أحيانا بشكل إبادة مشابهة بالمضمون ومتطورة بالأساليب على شعوب أخرى: هيروشيما، فيتنام ، فلسطين ، والعراق .

هذه اللحظات استمرت لان العوامل المضادة لم تستطع إن تلغيها وتعكس تأثيراتها بل زادتها تكرسا وتثبيتا.

بينما نلاحظ إن لحظة سقوط الرايخ الثالث في ألمانيا ولحظة إعلان الإمبراطور الياباني -الذي كان حتى لحظتها من نسل الشمس- استسلام اليابان لم تستمران رغم ضخامة حجم الانكسار والهزيمة التي لحقت بالبلدين آنذاك. كان يمكن إن تستمر لحظة الانكسار لكن عوامل مختلفة ومتنوعة استطاعت إن تدفع بالمستوى الاقتصادي الإنتاجي للبلدين إلى مديات مرتفعة حققت لحظات انتصار بمعنى آخر وألغت لحظات الهزيمة والانكسار التي لحقت بالبلدين لدرجة إن نسبة مهمة من أفراد الجيل الجديد من اليابانيين في إحصاء حديث لا يعرفون بالضبط من ألقى القنبلة الذرية على هيروشيما وناغازاكي، وليس ذلك تميعا وخروجا عن الهوية المحلية بقدر ما هو أمر واقع فرضته حقيقة إن الفرد الياباني لم يتجمد عند لحظة هزيمته أمام أمريكا بل لعله يشعر في أحيان كثيرة وفي ميادين كثيرة تشكل عصب الحياة اليوم بتفوقه عليها .

ورغم وجود لحظات مجيدة ومليئة بالإيجابيات في تاريخنا إلا أننا وياللاسف لم نتجمد عليها عندما تجمدنا .

لم نتجمد على بدر. ولا اليرموك. ولا القادسية. ولا حطين . لم نتجمد على ( متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ) ولا على عمر يقيم الحد على ابنه حتى الموت ولا عليه يحاسب عماله بشدة حتى آخر درهم ولا على أبى بكر يخطب في الناس ( إني وليتكم ولست بخيركم ) ولا على عمر يطلب منهم ( قوموني ) . بل وقفنا عند لحظات أخرى مختلفة تماما. تجمدنا عندها. ووقفت ساعاتنا عندها. ازماننا كلها وقفت عند لحظة أخرى زادها تكرسا وتثبيتا تفاعلها مع الظروف المختلفة التي استثمرت حتى هذه اللحظة كأبشع ما يكون الاستثمار.
من موقعها البعيد في أعماق التاريخ تمارس هذه اللحظات تحكما من بعيد بالفرد المسلم والمجتمع المسلم . لقد ركبت هذه اللحظات في جيناته الموروثة وصارت طبعا شعبيا اجتماعيا لصيقا بالفرد والمجتمع ، صارت جزءً من مفاهيم حضارة وثقافة استمرت قرونا دون إن تعكسها مفاهيم حضارية وثقافية مخالفة. دون إن تلغيها لحظات معاكسة تأتى بمستجدات وظروف وعوامل تاريخية مختلفة .
وكلما مر الوقت تكرست تلك اللحظات إلى إن صارت مقدسة فعلا لا يجوز مناقشتها أو مراجعتها ولو بشكل علمي بحت ولكن من أين لنا القبول بالشكل العلمي البحت وقد ألغت هذه اللحظات ضمن ما ألغت كل جذور التفكير العلمي وإرهاصاته؟

كيف استمرت هذه اللحظات كل هذه القرون؟ كيف صارت مقدسة؟ كيف استقرت بعمق في الوعي واللاوعي الفردي والاجتماعي عبر اختلاف العصور ؟ كيف تتحكم إلى الآن في الكثير من مفردات وآليات التفكير والسلوك والتصرف التي تشكل طباعا حضارية مميزة للمسلمين على اختلاف بلدانهم؟

لقد استطاعت هذه اللحظات التجذر عبر 3 اتجاهات .

الاتجاه الأول : سياسي ناتج بشكل مباشر عن الطبيعة السياسية لهذه اللحظات والتي كانت على الأقل في شكل من أشكال تجلياتها صراعا مباشرا على السلطة .

والاتجاه الثاني : فقهي ديني ناتج بشكل ما عن الاتجاه الأول ، ففي ذلك الوقت ، وبسبب من الطبيعة الدينية للدولة الناشئة ، لم يكن سهلاً تحديد الفواصل بين ما هو ديني وما هو سياسي -هذا إذا كانت هذه الفواصل موجودة أصلا في دين يكون منهاجا للحياة بكل تفصيلاتها وعمومياتها- و لان بعض الاتجاهات حاولت توظيف بعض النصوص الدينية ( القرآنية والنبوية ) لصالح موقفها السياسي فقد اكتسب الصراع ومنذ البداية طابعا دينيا أو على الأقل طابع التأويل المعين لبعض النصوص الدينية.

وكنتيجة نهائية كان على أهل الفقه والعلماء بصورة عامة إن يتعاملوا مع هذه التأويلات ، سلباً أو ايجاباً . كما كان عليهم التعامل مع أمر واقع فرضته السياسة مباشرا وكان عليهم على الأقل الموازنة بين هذا الواقع وبين قدسية النصوص.

وسيكون من الظلم القول بان كل فقهاء تلك الفترة سايروا السلطات السياسية بل على العكس كان هناك الكثيرين ممن كانوا ضد تلك السلطات.

لكن مكانة هؤلاء وإضافاتهم للفكر الإسلامي لم تكن بسبب موقفهم من السلطات بل كانت عبر إفتائهم في أمور متعددة ومختلفة وكان التيار العام للفقهاء والوعاظ هو مساندة السلطات السياسية التي استطاعت فعلا المزاوجة بين الأمر الواقع الذي فرضته فرضاً وبين التأويل المعين للنصوص الدينية الذي استطاعت تمريره عبر كادر فقهاء ورواة ووعاظ .

الاتجاه الثالث : كان المحصلة النهائية للاتجاهين السابقين . فالفرد المسلم الذي حكمه ملوك وحكام وصلوا إلى سدة الحكم عبر الاتجاه الأول ، وشرح له دينه ووعظه وأفتى له فقهاء وصلوا إلى مكانتهم عبر الاتجاه الثاني ، كان لا بد إن يتشكل فكره ووعيه أتوعيه عبر التقاء هذين الاتجاهين . وشيئاً فشيئاً تعوّد هذا الفرد ومن ثم المجتمع ككل على نمط من الحياة يتعايش مع تقاطعات السياسة والدين وتوازياتهما . تعوّد على نمط من الخضوع والخنوع للسيف ولصاحب الشوكة كأمر واقع وتصّبر بما وعظه الفقهاء أفتوا له ونصحوه بالصبر والطاعة ما دامت شعائر الدين قائمة.

وكانت هذه هي اللبنة الأساسية التي نتجت من لحظة المنعطف التاريخي التي تراكمت فوقها وعبر العصور تراكمات عديدة وإضافات وتفاعلات مختلفة ومتنوعة دون إن تهدم تلك اللبنة . بل ظلت هي الحجر الأساس الذي ارتكزت عليه البنية التحتية نفسيا واجتماعيا لشعوب كاملة . صرخ عبر هذه العصور دعاة ومثقفون وخطباء حاولوا فرض ظروف جديدة معاكسة واستثارة دوافع أخرى عند الجماهير لكن وياللاسف كان رجع الصدى في الغالب هو الجواب الوحيد .

إن هذا الفرد الذي لا تزال تسيطر عليه تلك اللحظة النائية، لا يشترط أبدا إن يكون متدينا أو ملتزما بشعائر الدين ، بل قد يكون عاصيا وتاركا لأوامره تعالى. وقد يكون متعلما حائزا على أرقى الشهادات من السوربون واكسفورد. أو يكون امياً لا يفك حتى الخط وقد يكون غنياً مترفاً أو عاطلاً عن العمل بجيب فارغ و أمال محبطة.

وسيكون على الأكثر غير واعٍ بالمسالة . لكن تلك اللحظة لاتزال تسبح في عروقه في دمائه في أفكاره وجيناته . لاتزال تسيطر عليه . لاتزال تكون مجموعة الأعراض التي تشكل مجمل أمراضه الحضارية.
أمراضه التي قد يبدء علاجها كما كل الأمراض ، بالتشخيص.

****

بدأت تلك اللحظة بلحظة أخرى مجيدة وكان يمكن لو استمرت إن تختلف الأمور تماما . ففي الفتح المكي العظيم كان لا بد لسماحة الدين إن تتغلب على سطوة الدولة كان ذلك الأمر نابعا وبشكل مباشر من شخصية النبي الرسول ، الشخصية التي رفضت إن تحول الفتح إلى مناسبة لتصفية الحسابات وإسالة الدماء وما كان اسهل ذلك ، إن يبطش بالخصوم الألداء الذين عادوا الرسول والدعوة والدولة ثم يأسوا وحوصروا تماما فاسقط في أيديهم وبدلا من إن تشهر السيوف وتراق الدماء ويمثل بالجثث كما كان سيحدث مع أي قائد آخر في أي زمان ومكان _ وحتى في عهد الليبرالية الغربية _ بدلاً من ذلك كله كانت هناك جملة عظيمة ودرس اعظم ( ما تظنون إني فاعل بكم ) ( أخ كريم وابن أخ كريم ) ( اذهبوا فانتم الطلقاء ) (سنن البيهقي الكبرى 18055 )

بقيت الجملة العظيمة في بطون الكتب والصفحات وحتى في الصدور والنفوس .

أما الدرس الأعظم فقد تبخر وطار ، أول من اثبت انه لم يتعلم هذا الدرس الطلقاء أنفسهم .

احتفظ مسلمة الفتح لفترة من الزمن بمرتبة معينة ومحددة هي مرتبة الطلقاء وهي المرتبة التي اختلطت عمليا بمرتبة المؤلفة قلوبهم . فقد ثبت إن بعض وجوه الطلقاء كانوا يحصلون على سهم المؤلفة قلوبهم من اسهم الزكاة لتأليف قلوبهم وتشجيعهم على الانضمام للمجتمع الإسلامي . ومن البداهة القول إن هذه المرتبة تأتي في ذيل السلم التراتبي الإسلامي الذي كان له بعض الوجود فعلا رغم عدم الانفصال الواضح لكل مرتبة عن الأخرى ، كان هناك -كمراتب مثلا- مرتبة آل البيت والمهاجرين الأوائل والأنصار وكانت هناك مرتبة البدريين واصحاب البيعة وبعد كل هؤلاء ( وغيرهم مثل مرتبة المحالفة والوفود ) كانت تأتي مرتبة الطلقاء.

إن كون هؤلاء الطلقاء صحابة بالتعريف السائد حاليا لكلمة صحابة ] اي بمعنى كل من شاهد الرسول [ لم يكن له أي مغزى أو ميزة -في تلك الفترة على الأقل- ففي مجتمع كل افراده ينطبق عليهم هذا الوصف أي ميزة ستكون للطلقاء على بقية أفراد المجتمع فيما لو انطبق عليهم هذا التعريف؟

إن هذا التعريف المعتمد حاليا يمنح اضافة موجبة للمجتمع ككل فتظل مرتبة الطلقاء في ذيل السلم في كافة الاحوال.

ورغم انه ينبغي عدم التسليم ببعض الاخبار الواردة بخصوص منح بعض هؤلاء الطلقاء بعض الوظائف الادارية من قبله عليه الصلاة والسلام قبل اجراء تحقيق حديثي-اسنادي حولها إلا إن هذه الاخبار، لو صحت ، يجب ان تؤخذ ضمن ما يلي:

اولا- حاجة الدولة الناشئة والمتوسعة بسرعة شديدة إلى المزيد من الكوادر الادارية التي تنظم امورها. وبسبب كون معظم الطلقاء من وجوه الملأ القريشي صاحب الايلاف والقوافل التجارية إلى الحواضر المدنية المهمة فقد كانوا اقدر ولو نسبياً على تبوء الوظائف الادارية الجديدة.

ثانياً- معظم القبائل العربية التي دخلت الاسلام كانت لاتزال حديثة عهد به ويعني ذلك ان احترامها لقريش كان لايزال يحتل مكانة مهمة في سلوكها وانضباطها . لذلك كانت اناطة هذه المهام الادارية لطلقاء الملأ القريشي اولاً حفظاً لماء وجه شخوصه و ثانياً اكتساباً لاحترام العرب وطاعتهم.

ثالثاً- وهو الاهم ، توفر الرقابة الصارمة على هذه الشخصيات . لقد كان المجتمع الاسلامي يترصد ويتصيد الاخطاء لهؤلاء. كانت الذاكرة لا تزال تنبض بالحياة تجاه كل ماجرى وكانوا لا يزالون رغم اسلامهم طلقاء ومؤلفة قلوبهم ومقطعي اكباد …الخ. لذلك كانوا يتحركون وظيفياً ضمن هذه الرقابة وما كان يمكن ان تصدر منهم مخالفات مهمة دون ان يردعوا فوراً ودونما تهاون.

ضمن هذه الاطر يمكن فهم مرتبة الطلقاء المحددة بقيود وظوابط . وفي كل الاحوال فقد انسجم الطلقاء مع المجتمع الاسلامي ، لم يكونوا يتوقعون حقيقةً ما حصل معهم . فبدلاً من الذبح اذا بهم يأخذون الاموال والعطايا بل ويمسك بعضهم الوظائف . كان ذلك افضل من المتوقع بكل تأكيد خاصةً لو اخذنا بنظر الاعتبار الاختناق الاقتصادي الذي اصاب المجتمع المكي في السنتين الاخيرتين قبل الفتح جراء الحصار الذي ضربه المسلمون حولهم.

.. ومع توسع الدولة بفضل الفتوحات خاصة في عهد عمر بن الخطاب جاءت الغنائم باموال هائلة ما كان احد من العرب يتوقعها وكان للطلقاء نصيبهم حتماً منها كما لكل فرد في المجتمع الجديد، ولقد تحركت ولا بد حواسهم التجارية القديمة. هناك ارباح كبيرة في الانخراط بالمجتمع الاسلامي الجديد بل وفي تبوء المناصب فيه. لقد اسلموا يوم الفتح خاضعين لكنهم اليوم مستفيدون من الفتوحات والغنائم والاموال ولا يعني هذا قطعاً انهم لم يكونوا مؤمنين حقاً. في الحقيقة، هذا امر لا يعلمه الا ذاك الذي يعلم مافي الصدور ولا فائدة من اصدار الاحكام سواء سلباً او ايجاباً، لكن المؤكد انه كان لهم فهمهم الخاص للايمان.

واستمرت هذه الفترة طيلة خلافة عمر التي دامت حوالي 9 سنوات وكانت صرامة عمر ورقابته الشديدة عليهم بالذات تمنعهم كما تمنع أي احد اخر من القيام بأي مخالفة.

لكن عمر اغتيل.

• وفي لحظة تاريخية بالغة الصعوبة وبناءً على توصيات مجلس الشورى الذي عقده عمر قبيل وفاته كان على المسلمين ان يختاروا بين اثنين من الستة الذين رشحهم عمر وكانت الناس ، عموم الناس، قد ملّت من صرامة عمر و من نزاهته الشديدة التي فرضت على الناس التقشف في عهد الغنائم الوفيرة وفرضت عليهم الزهد في عصر الاموال الكثيرة بل وفرضت عليهم -على بعضهم على الاقل- البقاء في المدينة في عهد الامصار الساحرة والاجواء الجيدة مقارنة بالمدينة.

و لأسباب مختلفة صعد إلى سدة الترشيح النهائي اثنان: الاول علي الذي كان قد بلغ في تلك الفترة بالذات ذروة نضجه وخبرته حيث كان قد بلغ حوالي الثالثة والاربعين من العمرو له ما له من القرابة والسبق والمصاهرة، مما لا حاجة الى التذكير به.

وكان الثاني عثمان الذي كان أسن واكبر من علي بلا شك وكانت له مكانته الطيبة بين المهاجرين وبين قريش. كان واحداً من العشرة المبشرة وكان دمث الاخلاق شديد االحياء حسن السمعة وصاحب ايادي بيضاء على المسلمين في اوقات عصيبة.

ولأسباب كثيرة كان علي يمثل امتداداً فتياً وشاباً لفهم عمر وسيرته. لقد كان عمر بالذات يكثر من مشورة علي وكان علي زاهداً متقشفاً هو الاخر وكانت الناس في تلك اللحظة تريد قليلاً من التمتع بجني السنوات الصعبة.

.. فكان الاختيار على عثمان.

.. وبالتاكيد كان عثمان ولا يزال يستحق كل ثناء وتقدير لكن الاخلاق الطيبة مثل الحياء والسخاء والكرم قد تكون صفات جيدة لمؤمن مثالي يستحق دخول الجنة اما الخليفة فيحتاج إلى صفات اخرى مختلفة حتماً.
وكانت هناك مشكلتان في عهد عثمان:

لاولى : ان مجلس الشورى الذي اوصى به عمر لم يتحول إلى مؤسسة شورى. لقد ادى مهمة واحدة وانتهى الامر وكان الافضل والافقه ان يظل هؤلاء الخمسة- بقية الستة- يمارسون دوراً استشارياً لمساعدة عثمان في تولية الامور خاصة مع كبر حجم الدولة وكبر سن عثمان.

الثانية : ان عثمان كان بعد كل شيء ينتمي إلى بني امية طبقة الملأ القريشي سابقاً الطلقاء لاحقاً وقد استغل هؤلاء كل صفات عثمان الايجابية لصالحهم : حياءه ، سخاءه، وكرمه.

.. وكان من هؤلاء بالذات من كان سيئاً جداً وبكل المقاييس مثل عبد الله بن سعد بن ابي سرح والذي كان اخاً لعثمان بالرضاعة.
وفي السنوات الست الاولى والتي توصف عادة بالهدوء، كانت بذور الازمة تنمو يساعد على نموها نشوء اجيال جديدة لعلها لم تصحب الرسول بمعنى الوعي لكنها مع ذلك كانت واعية لدورها الاسلامي، حافظة لدينها ، متمسكة بالقرآن وقد وجدت هذه الاجيال نفسها بلا دور في دولة واسعة يزداد توسعها مع استمرار الفتوحات. وزاد من نمو الازمة اكثر ان جيلاً مهماً من الصحابة وجد نفسه مركوناً على الرف مما حدا به بالتأكيد إلى اخذ دور المعارضة ولو الرمزية والكلامية بدل ان تتكون هناك هيئة للشورى. ثم انفجرت الازمة، الفتنة التي كانت حرباً اهلية حقيقية عصفت بالمجتمع الاسلامي بشدة وصدمته بنهايتها المفجعة صدمة اطاحت بوعيه وتركته مشدوهاً يفرك عينيه وهو لا يكاد يصدق حقيقة مايرى : الشيخ الشهيد مقتولاً بشكل شنيع ودماءه متفرقة بين مجموعة فتية من شباب المسلمين كانت مطالبها الأولى عادلة نسبياً وكانت مظالم البطانة الاموية لها حقيقية ايضاً.

كان مفترق الطرق محيراً لم يكن احد يرضى ان يقتل الخليفة وفي الوقت نفسه كان الشرط معه عند البيعة ان يستن بسيرة ابي بكر وعمر وهو شرط لم تدعه قرابته الاموية بممارسته.

كانت العيون لا تصدق ما ترى وكان اكثر الامور ايلاماً ان كل ما يدور كان حقيقة وفي لحظة الازمة العاتية تلك تعقدت الامور اكثر فأكثر وعصفت حرب اهلية حقيقية بعموم المجتمع الاسلامي من المدينة إلى البصرة بينما تأهبت امصار اخرى للمشاركة في الحرب.

ثم جاءت لحظة فاصلة هي لحظتنا التاريخية التي امتلكت فيما بعد ظروف السيطرة والهيمنة وشروطها الصعبة.

• ففي وسط تلك الظروف والتعقيدات البالغة صعد إلى المواجهة الحاسمة اثنان ما كان ابعدهما عن بعض: الاول هو علي وهو لايحتاج إلى اطالة شرح وتعريف، والثاني هو واحد من الطلقاء وابناء الطلقاء بل هو ابن ابي سفيان الخصم السابق اللدود لدعوة الرسول وقائد الاحزاب يوم الخندق وابن هند بنت عتبة -ما غيرها- المتورطة لا بقتل حمزة عم الرسول فحسب بل حتى بالتمثيل بجثته وبأكل كبده.

وكانت المواجهة في شكل من اشكالها رمزية إلى حد بعيد فما كان يمكن للاسلام في وقتها ان يتمثل بشخص اكثر من علي. وما كان يمكن لطبقة الملأ الجاهلية ان تتجسد في شخص اكثر من معاوية .

.. ولايعني ذلك قطعاً اصدار احكام بتكفير طرف او نفاقه ولكن يعني بالتاكيد ان المواجهة كانت بين فهم اصيل للاسلام وللخطاب القراني . فهم تربى في حضن الرسول نفسه ونشأ على مقاصده ومعانيه وفهم اخر- متأخر إلى حد بعيد- للاسلام.

كانت المواجهة بين النسخة الاصلية وبين نسخة اخرى مقلدة.
ورغم ان المواجهة العسكرية في صفين لم تكن حاسمة بسبب تعقيدات الوضع الا ان مجرد بقاء معاوية كخصم عقب المواجهة كان انتصاراً نسبياً له واثباتاً لوجوده ولكل ما يمثله من مفاهيم وقيم لقد كان الطلقاء يعودون من جديد عبره.

واغتيل علي غدراً . وزاد الوضع تعقيداً وتفككاً وسالت الدماء انهاراً وفي لحظة معينة ، صالحَ الحسن معاوية بشروط.

وبدأت عندها لحظة معاوية. لحظة استمرت عشرين عاماً. لكن استمرارها الحقيقي ابعد واعمق من ذلك بكثير.

من كتاب البوصلة القرآنيةد.أحمد خيري العمري akomari70@yahoo.com

.. يتبع الحلقة الثانية
08-30-2006, 05:55 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


الردود في هذا الموضوع
لحظة معاوية: كرة ثلج تاريخية - بواسطة الكندي - 08-30-2006, 05:55 PM
لحظة معاوية: كرة ثلج تاريخية - بواسطة الحر - 08-30-2006, 08:46 PM,
لحظة معاوية: كرة ثلج تاريخية - بواسطة آمون - 08-31-2006, 09:45 AM,
لحظة معاوية: كرة ثلج تاريخية - بواسطة خالد - 08-31-2006, 07:20 PM,
لحظة معاوية: كرة ثلج تاريخية - بواسطة ريفي - 08-31-2006, 07:37 PM,
لحظة معاوية: كرة ثلج تاريخية - بواسطة الحر - 09-01-2006, 04:48 PM,
لحظة معاوية: كرة ثلج تاريخية - بواسطة Truth - 09-02-2006, 06:03 PM,

المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع الكاتب الردود المشاهدات آخر رد
  فقه الثورة وفقه العنف والجريمة ..لحظة داروينية في ربيع العرب بقلم: نارام سرجون فارس اللواء 0 680 09-06-2012, 12:41 PM
آخر رد: فارس اللواء
  فرصة تاريخية للمصريين والعرب ... الأهرام الرقمى نظام الملك 22 5,024 02-24-2012, 04:37 AM
آخر رد: The Holy Man
Video معاوية بن ابي سفيان، صحابي جليل ام زنديق تملك المسلمين؟ (خطبة مثيرة للاهتمام) المفكر شمعون 11 3,853 05-14-2011, 09:40 PM
آخر رد: على نور الله
  جمهورية اليهود ...حقيقة تاريخية والحل بيد الليدي ميشيل نسمه عطرة 1 1,969 01-10-2011, 10:43 PM
آخر رد: أسامة مطر
  نصارىالعرب وقبر أبو أيوب و بزيد ابن معاوية عزيز عزير 12 3,611 09-16-2010, 01:29 PM
آخر رد: المضطهد Le persécuté

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 4 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS