الأخلاق هي مجمل التصرفات الإنسانية (فعل وامتناع) التي ينشد الإنسان من خلالها تحقيق "سعادته".

الأخلاق إذاً، تبحث فيما يجب عمله، وما ينبغي الامتناع عنه والصفات التي على الإنسان أن يتحلى بها كي يصبح يومه أجمل وغده أفضل.

لا علاقة للأخلاق "بما قبل هذه الدنيا" ولا ترتبط – هدفاً - بأي عروة "بعالم ما بعد الموت". فليس مطلوب من الانسان – مثلاً – أن يكون "كريماً" قبل ولادته ولا أن يكف عن "الكذب" بعد موته.

مجال الأخلاق (الصدق والشجاعة والحلم والصبر ...إلخ) إذاً هذه الدنيا، ولا علاقة لها "بحياة أخرى". لذلك، "فالدين"، بشقه الذي يتعرض لعلاقة الانسان بربه وبالماورائيات، لا رابط بينه وبين الأخلاق ولا عرى ولا علاقات.

ولكن ما هو "الدين" (ما دمنا قد تعرضنا إلى هذا المصطلح)؟
الدين (ولنهتم هنا بما يسمى "بالديانات السماوية") هو عبارة عن القواعد والأحكام الصادرة – أساساً - عن "قوى ما ورائية"، والتي تُعنى – أكثر ما تُعنى- "بالحياة الأخرى".
صحيح، الدين يعنى ايضاً "بالحياة على الأرض"، ولكن هدفه الاساسي هو "الآخرة". إذ لا معنى "لسعادة وشقاء الإنسان" على هذه الأرض. فدنيانا هذه هي "فانية" ولا يهم إن عانينا بها أو قاسينا كثيراً، فما يهم هو أن نصل إلى هناك "حيث الصديقون يستريحون" (حسب التعبير المسيحي) أو إلى "جوار الله" (حسب التعبير الإسلامي) حيث أنهار اللبن والعسل والحور العين والغلمان المخلدين. فالهدف الأسمى للدين هو أن يحقق للإنسان "ملكوت السماوات" (عند المسيحيين) و"دخول الجنات التي تجري من تحتها الأنهار" (عند المسلمين)، لذلك فهذه الأرض في الفكر الديني هي "الفانية" وهي "الدنيا" بينما الآخرة هي "الباقية" وهي "العليا".

الحياة على الأرض في المفهوم الديني هي حياة "دنيا"، عذابها له أجر عند الله لو صبر عليه الانسان. أما سعادة الإنسان فيها فهي "تفصيل من التفاصيل الهامشية"، فالمهم أصلاً ليس سعادة الإنسان ولكن تنفيذ أوامر الله على الأرض حتى تكون "الأرض كلها لله".
طبعاً، يجعجع رجال الدين كثيراً بالنسبة لقيمة الحياة والانسان في الديانات، ولكن أي محاولة بسيطة للتفكير تدفعنا إلى القول بأن "الدين" (الإسلامي والمسيحي على وجه الخصوص) يحتفر هذه الحياة ويحتقر الانسان فيها. فالانسان في الأدبيات الدينية "أوله نطفة وآخره جيفة" والدنيا إن هي إلا "متاع الغرور". ولعل احتقار الانسان والحياة الانسانية والأرض وطلب جوار الله والآخرة هو ما دفع أيضاً إلى تعظيم شأن "الروح" (الباقية) واحتقار الجسد (الفاني). بل والغض من شأن كل المتع الحسية الجسدية واعتبارها موبقات وذنوب تؤدي إلى غضب الله، وتجعل مرتكبيها وقوداً لنار جهنم.

**********


الأخلاق – كما نوهنا فوق - تهتم بفعاليات الإنسان وتصرفاته وصفاته في المجتمع (التي يكتسبها من هذه الفعاليات) وتضع نصب عينيها "السعادة الدنيوية". بينما الدين يهتم بتنفيذ أوامر الله (فتصرفات الانسان نفسها ليست مهمة ما زالت أوامر الله تنص عليها) ويضع نصب عينيه "السعادة الأخروية".

"السعادة الدنيوية" (هدف الأخلاق) هي أن يكون الإنسان سعيداً مع نفسه وسعيداً مع الآخرين. إذ لا يمكننا أن نكون سعيدين مع النفس في مجتمع تعيس؛ فالانسان لا يشعر بالراحة والهدوء والأمن والآمان عندما تكون النار على وشك التهام بيوت جيرانه.

هذه السعادة مع النفس ومع الآخرين حتمت على الانسان إيجاد القاعدة الأساسية للاجتماع الإنساني، أعني بها:" لا تفعل لغيرك ما لا تريد أن يفعله بدوره لك". ولعل هذا الأساس الاجتماعي "العالمي" هو الذي جعل العرب تقول: "من قارنك بنفسه ما ظلمك".

إن تفاعل العقل الانساني والتجربة مع هذه القاعدة البسيطة البديهية للاجتماع الانساني ووضع نصب العين "سعادة الإنسان"، جعل البشر تستخلص عدة "قيم سامية" (تعزز الاجتماع الانساني) وتنافح وتدافع عنها. هذه "القيم السامية" عرفت باسم "الفضائل" أو "مكارم الأخلاق". وهي تكاد موجودة، بشكل أو بآخر مع اختلاف في بعض التفاصيل، عند مختلف الأمم والشعوب. ولعلنا نضرب مثلين واضحين على الحث على هذه "الفضائل" عند الشعوب القديمة، فندعوا القاريء إلى قراءة "الأخلاق في نيقوماخوس" لأرسطو طاليس، ثم ندعوه ثانية إلى الانتباه إلى "المنظومة الأخلاقية" عند عرب الجزيرة العربية في الجاهلية.

نظرة عجلى إلى هذا التراث القديم، تجعلنا نرى بأن ارسطو جعل الفضيلة صنواً للسعادة، والسعادة مرهونة بتتميم مكارم الأخلاق. بل نرى بأن أرسطو لم يكن بحاجة "لرب أو نبي أو ولي أو تقي" كي يعضد مزاعمه ونظراته بالكثير من الشواهد والحجج النافذة، فالعقل والمنطق وحدهما (سبحانهما!!) كفيلان بالقيام بالمهمة خير قيام.
من ناحية أخرى نرى عرب الجزيرة العربية يتفاضلون "بالكرم والشجاعة والحلم والعفاف والعدل والصدق والصبر على الشدائد والكثير من هذه المآثر والفضائل" التي ما زلنا نرى آثارها ماثلة أمامنا في شعر الجاهليين وأدبياتهم، ولعل خطب "سحبان وائل وقس بن ساعدة" ووصية "ذو الإصبع العدواني" وأشعار "زهير والنابغة ولبيد" تُبرز لنا الحرص العام على ما اعتدنا تسميته "بمكارم الأخلاق".

******

"مكارم الأخلاق" - كما يتضح - ليست جزءاً من الدين. فالرجل منا يستطيع أن يكون "على خلق عظيم" دون جميع ما نزل من السماء من "منظومات إبراهيمية" في "التوراة والإنجيل والقرآن". مع هذا، فالكتب السماوية تبنت الكثير من هذه "الفضائل" وجعلتها جزءاً لا يتجزأ من تعاليمها، حتى ترى الناس اليوم تخلط بين "الدين" و"الأخلاق" مع أن كلاً من الاصطلاحين قائم بنفسه ولا علاقة له، ضرورة، بالآخر.

مكارم الأخلاق إذاً، نستطيع إدراكها والعمل بها "بالعقل وحده" دون هادِ أو دليل سماوي، حتى لو أقحمتها الرسالات السماوية في صلب نصوصها فيما بعد.
"بالعقل وحده" يستطيع الانسان أن يصل إلى "الأخلاق" وإلى جميع هذه المنظومة الخلقية التي نجدها في الديانات. وعندنا – وهذا رأي شخصي – أن الأنبياء "سطوا" على "الإرث الأخلاقي الانساني" وأسسوا رابطاً بين السماء والأرض عبره.

"الرسالات السماوية" التي نعرفها (وعلى رأسها المسيحية والاسلام) هي رسالات "متأخرة" على "المنظومة الخلقية السائدة". "فالأخلاق" موجودة قبل هذه جميعها، وهي صادرة – كما أسلفنا – عن "العقل" بالتفاعل مع التجربة و"الاجتماع الانساني" و"أحلام البشر وطموحاتهم" منذ أو وجدوا على هذه الأرض.

*****

"الملحد" هو شخص لا يؤمن بوجود إله للكون، و"منظومته الخلقية" هي منظومة أصيلة، تعضدها مئات آلاف السنين من "تفاعل" بين "العقل والحاجات الانسانية والاجتماع والتجرية والطموحات". أما الفريد في هذه "المنظومة" فهو "ليونتها ومعاودة تشكيلها" حسب "القفزات الحضارية للانسان"، بحيث يبقى "الجوهر" ثابتاً وتتغير "الأعراض". فإذا ما وصل الانسان إلى قناعة بأن "العفاف" مهم "للاجتماع الانساني" ولتحسين عيش البشر في يومهم وفي غدهم، فإن "العفاف" يصبح "فضيلة" يتمسك بها "الملحد" ويضعها في أسس تصرفاته.

من ناحية أخرى فإن "المنظومة الخلقية" "للمؤمن" هي منظومة "هجينة متأخرة غير أصيلة" معرضة دائماً – بالضرورة - "للتكلس والتحجر والصدأ". فالمؤمن عندما يبحث أمر "العفاف" لا يعود إلى "عقله ومنطقه ومجتمعه وروح عصره وحاجياته"، بل تراه يذهب كي يفتش في "نصوص قديمة" تحمل "غبار الأجيال" عن "الحلال والحرام".

"المتدين" رجل "يفرغ عقله من محتواه" أمام نص قديم ذو معنى ظاهر واضح. هو لا يبحث بضرورة "خلق ما" وأحقيته بأن يبقى معدوداً "كفضيلة" في عصر قد يكون تجاوزه. فكل ما لدى "المؤمن" هو الذي قاله "الله والأنبياء" في العصور الغابرة. وهذا الموقف "المتحجر المتكلس" من "القيم النبيلة ومكارم الأخلاق" هو بحد ذاته "موقف غير أخلاقي" ... كيف؟

الأخلاق في "مفهومها الأول والأصيل" هي "قواعد وأسس تحافظ على المجتمع البشري من الفساد من خلال تنظيم وترتيب علاقات أفراده ببعضهم البعض وعلاقة كل فرد منهم بالكيان الاجتماعي ككل".
والأخلاق مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بسعادة هذا "الكيان الاجتماعي" المتطور دائماً، والمستعر بديناميكية متواصلة نحو النشوء والارتقاء والأخذ والعطاء.

المنظومة الخلقية "اللينة" عند الملحدين هي نتاج طبيعي متناسق ومتناغم مع مجتمع متحرك تتغير به المفاهيم وتتعدل وتتطور. بينما "المنظومة الخلقية المتحجرة" (والمتوقفة على عصر نزور الرسالة عادة) عند "المتدينين" هي عبارة عن حجر عثرة في وجه آلية التحرك التي تسود المجتمع.

أخلاق الملحد، بما فيها من براغماتية وليونة ومرونة تتناسب مع سعي الانسان الحثيث لبلوغ أعلى مراتب السعادة على هذه الأرض. بينما أخلاق المتدين بتحجرها وتكلسها إن هي إلا عقبات مختلفة تنمو وتكبر مع الوقت كي تشكل ورماً سرطانياً في الجسم الانساني كلما غير المجتمع وعدل وبدل في موقفه تجاه قيمة من القيم.
على هذا الأساس فإن "المنظومة الخلقية الدينية" ليست إلا عبوات ناسفة موقوتة تنفجر في وجه كل حركة دفع وتطور في المجتمع الانساني. وهي، بهذا المفهوم، "لا أخلاقية بالقوة"؛ لأن الأخلاق موجودة كي تحفظ للمجتمع الانساني الهدوء والسلام والاطمئنان في مسيرة تحركه نحو "السعادة".

المنظومة الخلقية الدينية إذاً "لا أخلاقية" بالقوة، قد تتحول في مرحلة ما – حسب الظروف – إلى "لا أخلاقية بالفعل". والمؤمن، لو استطردنا، هو في المحصلة "إنسان لا أخلاقي" بالقوة قد يتحول دائماً إلى "لا أخلاقي بالفعل" مثلما حصل في التاريخ ومثلما يحصل اليوم في صراعنا مع الحركات الدينية ... وفي هذا حديث كثير.

واسلموا لي
العلماني