من أكثر الأفلام التي قد تصدمك ، وتفاجئك ، وفي نفس الوقت تمتعك هو فيلم دويغفيل .

هذا الفيلم لا يصدمك ، ويفاجئك من ناحية الشكل فقط ! ، بل هو يؤدي إلى صدمة اشد ، ومفاجأة اكبر من ناحية المضمون أيضا .

يُخرج الفيلم المخرج الدنماركي المثير للجدل لارس فون ترير ، وهذا المخرج هو مفجر حركة الدوغما في الفن السينمائي ، هذه الحركة هي حركة ثائرة على كل الأساليب التقليدية في صناعة السينما .. يقوم ببطولة الفيلم الممثلة الاسترالية الجميلة ، والحائزة على جائزة الأوسكار نيكول كيدمان ، مع الممثل بول بتاني الذي يؤدي دور فيلسوف .
لا يمكن إن تأخذ انطباعا عن الحركة الثائرة ( الدوغما ) التي قد تكون قرأت عنها إلا عندما تشاهد هذا الفيلم كنموذج ومثال لهذه الثورة الغريبة ! ..

عندما أعلن المذيع في شبكة شوتايم – المشترك بها – عن الفيلم التالي انه من بطولة الممثلة نيكول كيدمان جهزت مقعدي خلف الشاشة بدون حراك !.. لأني موقن بهذه الممثلة الجميلة التي جمعت مع جمالها الآسر رقي أفلامها ذات المواصفات الفنية العالية ، وخاصة بعد طلاقها من الممثل توم كروز في عام 2001 ، ولأن اغلب أفلام الشو تايم جديدة فقد توقعت ان الفيلم القادم لنيكول كيدمان سوف يكون بعد ذلك العام .. لكن ذلك الترقب كاد إن ينقلب لصدمة ، وندم على الانتظار من خلال المشاهد الأولى للفيلم ، وكدت إن أنظف مقعدي مغادرا الشاشة إلا إن الفضول في رؤية كيفية ظهور نيكول كيدمان ، وطبيعة دورها جعلني استمر في المشاهدة .

ذلك الندم على الانتظار كان له ما يبرره من عاشق سينمائي تعود على نوعية معينة من الأفلام الأمريكية ، تعتمد على الإبهار البصري ، والبذخ في استخدام المال للصرف على الفيلم ، والتنقل المستمر بين الأماكن لاختيار مواقع التصوير ، او بناء مواقع تصوير خاصة تستنفذ اغلب ميزانية الفيلم ، لكن الذي حصل أمر مختلف ، فللوهلة الأولى يحسب من يشاهد الفيلم انه يشاهد مسرحية ! فالمكان الذي تجري به الأحداث مكان واحد لا يتغير ، فهو عبارة عن ساحة كبيرة فيها بعض الكراسي ، والطاولات ، والاسرة ، لا يوجد في هذه الساحة أي حائط ، أو جدار ، تلك الكراسي والطاولات المتباعدة تشير لبيت فلان ، وفلان من سكان القرية - الخمسة عشر - .. وحتى الأشجار المراد تواجدها في القرية استعيض عنها برسومات على الأرض تشير لها !.. وفُعل نفس الفعل مع التل المتواجد في القرية إلا انه كان مكانا مرتفعا قليلا .. حتى منجم الفحم الذي في القرية كان متواجدا في نفس الساحة المفتوحة وهو عبارة عن دولاب اسود مفتوح الضرفتين .. وهكذا الحال بالنسبة لكنيسة القرية !.. هذا الديكور المشابه لديكور مسرحية لا يمكن إن يغريك بمتابعة الفيلم ، وهو يعني فيما بعد - أي عندما تنتهي من مشاهدة الفيلم - إن القوة الرئيسية لأي فيلم هو في نجاح المخرج لشدك لقصة الفيلم المبهرة .

الصدمة الأخرى التي تواجهك في الفيلم هي صوت الراوي ! من النادر إن تجد فيلما أمريكيا يعتمد على صوت راوي يقص الفيلم ..

الراوي كان يتحدث عن ذلك الرجل الجالس فوق المقعد الخشبي ، انه فيلسوف القرية ( إديسون ) ... إديسون كان ضجورا في ذلك الليل ، لذلك خرج للخارج ليشم نسمة هواء ، اديسون رجل كاتب وفيلسوف ، ومفكر القرية الشاب .. كاد ذلك الوضع المأساوي الذي يسير عليه الفيلم من خلال ذلك الديكور المضحك ، وقصص الراوي غير المستحبة لي إن تعينني على ترك الفيلم يمضي بدون إن أشاهده ، لكن الفضول انتظارا لظهور نيكول هو الذي جعلني أصبر قليلا على الفيلم ..

يسمع إديسون صوت إطلاق نار صادر من الغابة ، الغابة يشار لها بالفيلم بذلك الظلام الذي يغطي بعض جوانب الاستديو .. يقف إديسون منقبا عن مصدر صوت إطلاق النار ، بعد لحظات تظهر نيكول واقفة على المكان المرتفع - الذي يعبر عن التل - ، ينتبه لها إديسون فيحدثها ، وتحدثه ، ومن هنا تبدأ القصة .

الفيلم طويل نسبيا ، فمدته ساعتان ونصف ، لكن أنصحك بان تتخلى عن الشعور بالصدمة ، والملل الذي قد ينتابك في بداية الفيلم ، واستمر في مشاهدته فلن تندم أبدا ! فهذا الفيلم فلسفي ، وتأملي بامتياز !..

القصة تقع في الثلاثينيات من القرن الماضي ، تلك الفتاة ( نيكول ) الواقفة على التل هاربة من عصابة تطاردها ، تعرض على إديسون حمايته فيقبل ، بعد قليل تمر سيارة بالقرب من إديسون تسأله هل رأى فتاة هاربة فيجيب بالنفي ، زعيم العصابة - الذي لا يُكشف وجهه - يمد يده لإديسون بكرت عليه رقمه لكي يتصل به عندما يحصل على معلومات عن تلك الفتاة ، يأخذ إديسون الفتاة لمنجم القرية ، يقول لها إن حمايتها في القرية لن تكتمل إلا من خلال قبول أهالي القرية - الخمسة عشر - بها ، واتفاقهم معه على وجوب حمايتهم لها ، تسأل نيكول عن السبيل لذلك فيقول لها انه سوف يجتمع بأهالي القرية في الكنيسة عند الصباح ليعرض عليهم الامر ، ولابد من إن تواجهيهم ، وان تعرضي حمايتهم لك ، وفي الصباح تعرض على أهالي القرية إن يحموها فيترددوا ، لكن يعرض إديسون اقتراحا بان توضع السيدة في فترة اختبار تستمر لأسبوعين ، وبعدها يقرروا ما اذ يقبلوا بحمايتها أم لا ، يقبل أهالي القرية بالاقتراح ، وتقبل الفتاة أيضا ، لتكون خاضعة لذلك الاختبار في حسن السيرة والسلوك .

في مكان إقامة الفتاة يعرض عليها إديسون عرضا بان تحاول كسب ود أهالي القرية - خلال هذين الأسبوعين - بعرض الخدمات لهم ، للوهلة الأولى لا يقبل أهالي القرية بهذه الخدمات التي تريد إن تقدمها لهم ، لكن بعد إلحاح من الفتاة يقبل الاهالي بذلك .. وتتنوع هذه الخدمات بحسب حاجة كل أسرة في هذه القرية ، فهناك رجل أعمى لا يعترف بضرره تساهم الفتاة في مساعدته ، وكذلك تلك فتاة سوداء مقعدة تساهم في إدخالها للمرحاض للقيام بحاجتها ، وكذلك الحال للأسرة غير المتآلفة المكونة من امرأة أم ست بنات وصبي واحد يحضى بكل الدلال والرعاية والزوج المزارع الذي يجني محصول التفاح في كل سنة ، وغيرهم من سكان بسطاء في قرية هادئة ..

بعد مضي اسبوعين يصوت اهالي القرية على القبول بحمايتهم للفتاة او ان يرفضوها ، فيصوت الجميع في صف حمايتها ! ..
وتستمر الحياة في القرية مع تخصيص جدول زمني للفتاة حتى تمر على كل سكان القرية يوميا مقدمة لهم خدماتها المجانية .. لكن الوضع ينقلب بعد مجئ دورية بوليس للقرية تبحث عن فتاة هاربة ، تلصق هذه الدورية ملصقا رسميا لتلك الفتاة كمطلوبة امنيا ، فيزداد حذر ، وخوف أهل القرية من وضع الفتاة ، فيكون اجتماع بعد مغادرة دورية البوليس ، ويكون الثمن لهذا الخوف والحذر والرعب هو تخصيص ساعات أكثر تخدم فيها الفتاة أهل القرية ، تقبل الفتاة بذلك بدون أدنى تردد ... تلك الساعات تعني انه لم يعد هناك وقت ترتاح فيه الفتاة ، ولم يعد لديها وقت كذلك لتلتقي بحبيبها إديسون الذي يعترف بحبه لها ، وتعترف بحبها له ..

أصبحت الفتاة في مقام الرقيق والعبد ، فنتيجة لحاجتها للامان ، والحماية يتم استغلالها ، لتقوم بأعمال كثيرة فوق طاقتها ، وفوق وقتها المحدود ، وعلى حساب راحتها ، وتتعرض هذه الفتاة للاغتصاب ، وللاستغلال الجنسي ، وتصبح حياتها بائسة ومؤلمة خاصة كلما أتى البوليس باحثا عنها ، يتعذر أهالي القرية بالخوف للطلب من الفتاة خدمات أكثر وأشق .. تصبح حياة الفتاة جحيما لا يطاق فيعرض عليها إديسون الهرب ، فتخبره أنها لا تملك مالا أجرة الركوب للشاحنة - السيارة الوحيدة في القرية - التي تنقل حصاد التفاح للمدينة ، فيقوم هو بمساعدتها بالمال .. تعرض الفتاة على سائق الشاحنة - الشخص الضعيف والطيب- إن ينقلها ، ويهربها للمدينة ، فيقبل ، ويخبئها مستلقية في الشاحنة بين صناديق التفاح مغطاة بقماش - اعلى صندوق السيارة - بحيث لا ترى شيئا ، فجأة تتوقف الشاحنة فتتوقع أنها قد وصلت ونجت ، يُخرج السائق صندوقين بجوار الفتاة ويستلقي بجانبها ، ويخاطبها بان هناك نقطة تفتيش أمامنا ، وان المال الذي أعطته إياه لا يلبي تكاليف تهريبها تقول له : أنها لا تملك غيره ، ولا تجد شيئا لكي تقدمه ، ينبئها بل يوجد ! ، وهو جسدك ! ، فيغتصبها - بعذر سداد تكاليف تهريبها - بعد إن ينتهي ينطلق بالشاحنة من جديد ، وتتوقف الشاحنة مرة اخرى ، فيكشف غطاء الشاحنة لتسمع الفتاة صوت سائق الشاحنة يخاطب أهالي القرية الملتفين حول الشاحنة قائلا : لقد وجدتها في الصباح هنا حيث حاولت الهرب ، وها أنا أبلغ عنها ! ..

مأساة الفتاة لا تتوقف عند هذا الحد ! بل المال الذي حاولت الهرب به كان مسروق !، قد سرقه إديسون من أبيه ، وأُتهمت هي به ، والدليل محاولتها الهرب ! لم يعترف اديسون بجريمته ليُسقط التهمة عن الفتاة حتى يبقى في وضع الشريف والنظيف ، ليستطيع حمايتها ! .. لذلك تعاقب الفتاة بتقييد قدمها بمادة صلبة من الحديد كبيرة الحجم ، وسلسلة طويلة بحيث تتحرك في مساحة محدودة ، لتجرها كلما أرادت التحرك ، خوفا من هربها من جديد .. ويتم استغلال واستخدام الفتاة كما كانت في السابق للقيام بالأعمال ، بل بطريقة أكثر قسوة ، وتفقد الفتاة كل ممانعاتها ، بل تصبح هدفا لجميع رجال القرية الذين يأتون لمكان إقامتها ليلا ، ويفرغوا شحناتهم بها ! .. المزايد على هؤلاء هو الفيلسوف إديسون فهو يحاول إن يتقرب من الفتاة بحجة الحب والغرام فترفض ممارسة الجنس معه رغم حبها له ، لأنها متعبة ، فيغضب وينفجر قائلا : لماذا أنا لا دونا عن رجال القرية أجمعين ؟! .. تجيبه : خذ ما تريد مثلما يأخذه رجال القرية الآخرين .

يستخدم إديسون في الصباح الكرت الذي أعطاه إياه زعيم العصابة - والذي لم يتخلص منه حسب ادعاءه السابق لحبيبته - ، ويتصل مرشدا عن الفتاة ، تأتي سيارات كثيرة تُعبر عن قوة العصابة التي هربت منها هذه الفتاة .. وهنا تحدث المفاجأة ! ..

زعيم العصابة ذاك ما هو إلا والد الفتاة ! وسبب هروب الفتاة منه أنها لا تريد إن تصبح مثل أباها ، وريثة للإجرام ، وهي وإياه دائمي الجدال في كون الناس جميعا بسطاء ، وضعفاء ، ولا يستحقوا هذا الإجرام والقسوة ! .. كان رأي الوالد يقول : يجب إن تكون لديك القوة ، والقسوة لتحمي نفسك في هذا العالم الذي لا يعترف بالضعيف ، ويجب إن تتحلي بأكبر قدر من الصلابة ، وعدم اللين ! .. يناقش الأب ابنته ، ويطلب منها ماذا تريد إن يُفعل بأبناء القرية ؟ .. فتطلب منه - بعد فترة تفكير - إن يقتلهم جميعا ، وان يبدأ بتلك الأم القاسية ، وابنها الوحيد ، وبناتها الأربع ، وان يترك إديسون لها ، فهي التي تقتله .

هذه القصة باختصار شديد ! ..

فيلم مؤثر بحق ، وفلسفي بعمق ! .

هذا الفيلم - للمفاجأة - التقى مع فكرة لا تفارقني ! ..
يصرح الكثير بالقول والحكمة السائدة : انك لا يمكن إن تعدم الخير من أي شرير ، وكل مجرم تجد فيه جانب مضي وخيّر ، لكن في المقابل - أيضا - فان كل طيب ، وخيّر فيه جانب شر وسوء ، ولا يمكن ان تعدم الشر فيه ، فالشر كذلك لا يمكن إن تعدمه من أي إنسان ، ففي كل إنسان جانب من الشر ، والقسوة ، وعدم الرحمة !.. الإنسان الضعيف في هذه الحياة لن يُرحم ، ما لم يتحلى الإنسان بالقسوة وعدم اللين فسوف يكون هشا ، مستذلا لرحمة الآخرين !.. والإنسان عندما يكشف ضعفه للناس فعليه إن يتحمل استغلالهم ، وابتزازهم له !.. وعندما يقدم على أمر يفقده بعض بريقه ، وعنفوانه عليه إن يتحمل كل الإشارات التي تغمز عليه ، وتبتزه من تلك الجهة ..

انه فيلم فلسفي مؤثر ، زاد في يقيني إن السينما ليست أبهارا بصريا فقط ، ولا صرفا باذخا للمال ، بل هي في الأساس قيمة عقلية ، ومتعة روحية ، تخاطب الروح والوجدان ! .. والغريب إن السينما الأمريكية قادرة على فعل الأمرين معا .. كما إن هذا الفيلم زاد في إعجابي باختيارات هذه الممثلة الرائعة نيكول كيدمان التي زاد وهجها بعد طلاقها من توم كروز ، لتصبح أكثر عمقا ، وإثراءا .