يسوع الناصري وأمه مريم هي شخصيات، يهودية بزعم السائد من الأفكار، بنيت حولها العقائد المسيحية. ولقد اختلفت الروايات حول طبيعة المسيح، وحياته، وصلبه، وقيامته –وبالتالي عقيدته - كما اختلفت الروايات كذلك حول طبيعة أمه.

لكن الروايات لا تختلف في المسيح فحسب، بل يشكّك بعض الباحثون اليوم بكون يسوع الناصري شخصية تاريخية حقيقة. وهم في تشكيكهم هذا يرتكزون على أسئلة وجيهة جدا أولها -بل ربما أهمها-انعدام الدلائل الحسية على وجود المسيح: كمثل معرفة مكان ولادته أو مكان صلبه وقبره وصعوده.

ومن المعروف أنه خلال عشرات القرون، احتكرت الكنيسة الكاثوليكية كل معرفة بيسوع الناصري، بل واحتكرت أيضا صياغة طبيعته المزعومة، وسيرة حياته وحياة تلامذته، فلم يصل الناس من أخباره سوى ما شاءت لهم أن يصلهم. وبالرغم من وجود فرق مسيحية شرقية اصيلة اختلفت عقائديا مع الرواية الكاثوليكية بدرجات متفاوتة، لم يعرف الناس سوى أربعة "اسفار رسمية" تروى حكاية المسيح كما تراها الكنيسة الكاثوليكية هي متى و مرقس، ولوقا ويوحنا. وبقيت هذه الأناجيل الأربعة المرجع الوحيد عن تاريخ وطبيعة المسيح بالرغم من وجود أناجيل أخرى غير معتمدة قانونيا. وشاءت الاقدار أن يتم اكتشاف المزيد من المخطوطات والوثائق المسيحية التاريخية (مخطوطات البحر الميت وأناجيل نجع حمادي) التي تروي قصصا مغايرة للقصة الكنسية الرسمية. ولا ننسى ايضا في هذا السياق الإشارة الى انجيل يهوذا الذي عاود الظهور مؤخرا والذي يزعم في المسيح ما يزعمه المسلمون من أنه "لم يقتل ولم يصلب وإنما شُـبّه لهم"، فوفقا لإنجيل يهوذا لم يخن يهوذا المسيح بل كان هو من افتداه على خشبة الصليب.

وقبل أن ابدأ ببحث الأسباب التي دعت الكثير من الباحثين الغربيين الى التشكيك بوجود المسيح كشخصية تاريخية حقيقة، أود أن الفت الأنظار الى بعض المعتقدات الغنوسية القديمة في ما يخص يسوع الناصري:

الغنوسية هي فكر لفرق متعددة ومتشابهة وُصفت بالفكر الدوسيتي، أي الخيالي. والدوسيتية كما جاءت في اليونانية " Doketai - δοκεται "، وتعني الخيالية Phantomism، هي عقيدة ظهرت في القرن الأول من التاريخ المسيحي وبنت أفكارها على أساس أن الله غير مرئي وغير معروف وسامي وبعيد جدا عن العالم، وأن المسيح الإله لم يأخذ جسدا حقيقيا من المادة لكنه جاء في شبه جسد وكان جسده مجرد شبح أو خيال.

لكن الغنوسيين اختلفوا في ما بينهم حول طبيعة المسيح، فمنهم من قال ان الأيون Aeon، إي الإله، المسيح جاء في شبه جسد حقيقي. ومنهم من قال أنه اتخذ جسدا نفسيا، عقليا، وليس ماديا. ومنهم من قال أنه اتخذ جسداً نجمياً. ومنهم من قال أنه اتخذ جسدا ولكنه لم يولد من امرأة.

ولقد رد بعض اساقفة "المسيحية الرومانية" الأوائل الفكر الغنوسي الى ما قبل المسيحية بعدة قرون. وقالوا أن أتباعه كانوا يخلطون بين الفكر الإغريقي (الهيلينتسي) والمصري القديم مع التقاليد الكلدانية والبابلية والفارسية (الزردشتية) وكذلك اليهودية، خاصة فكر جماعة الأثينيين (الأتقياء) وما جاء في كتابهم "الحرب بين أبناء النور وأبناء الظلام" وذلك إلى جانب ما سمي بالأفلاطونية التي كانت منتشرة في دول حوض البحر المتوسط في القرن الأول.

ما يظهره الفكر الغنوسي إذا هو أن فكرة الأله الذي يمشى على الأرض لم تكن مفهوما جديدا أدخلته المسيحية، بل كانت مزيج من المعتقدات اليهودية والشرق أوسطية السائدة.

السؤال الآن: هل كان يسوع الناصري بالفعل "شبح وخيال" أم أنه كان مادة وحقيقة؟ المزيد في الحلقة القادمة.