أستاذ الفلسفة ومؤرخها يوسف كرم يشغل مكانة مرموقة بين أولئك النفر من المثقفين المصريين الذين اضطلعوا بمهمة جليلة كل الجلال هي نقل الفكر الغربي إلى لغتنا وثقافتنا العربية الحديثة ، مكانة يستحقها عن جدارة هو الذي لم يترك حقبة في تاريخ الفكر الفلسفي الغربي إلا وكتب عنها شيئا وغالباً شيئا قيما متقناً.
كان يقرأ باللغتين الانجليزية والفرنسية إضافة إلى اللغتين الكلاسيكيتين اليونانية واللاتينية ، أربع لغات كان يجيدهم أيضا عبدالرحمن بدوي ويزيد عليهم اللغات : الألمانية والإيطالية والأسبانية والفارسية ، فيما لم يعرف زكي نجيب محمود غير الإنجليزية .

لكن معرفة اللغات الأجنبية في حد ذاته ليس أكثر من مؤشر على الفرص المتاحة للمعرفة ويبقى أمر تحصيل المعرفة وهضمها رهناً بعوامل أخرى إضافية مثل الاستعداد لبذل الجهد المطلوب والجلد والمثابرة والقدرات الفكرية ومستوى الذكاء وما شابه ، بمعنى أن إجادة لغة أجنبية أو أكثر يفتح طريقا للمعرفة لكن السير في هذا الطريق يحتاج لشروط إضافية ، أقول ذلك وفي ذهني رجل مثل أنيس منصور يعرف عدة لغات أجنبية يحسد عليها ويقال عنه ـ ويشيع عن نفسه ـ أنه قارئ موسوعي نهم ورغم ذلك كان هو من أهدر حبرا وورقا كثيرا في إشاعة الخرافات عن الأطباق الطائرة والذين هبطوا من السماء وعفاريت شارع صلاح سالم وهلم جرا .

موضوعنا هنا عن يوسف كرم وتحديدا عن جانب مثير وطريف في آن في شخصيته وهو إيمانه العميق كمسيحي (ماروني ) ، هذا الإيمان الذي يخرجه في كثير من الأحيان عن رصانته بل وأحيانا عن أدبه فيصيح ويرغي ويزبد وربما يشتم ، لكن دون أن يقلل ذلك كثيرا من قيمته وقيمة إنتاجه العلمي فالرجل قدم عرضا مركزا ودقيقاً لأهم مسائل الفلسفة وأهم الفلاسفة الغربيين في كل العصور في عدد من الكتب أهمها ـ في رأيي ـ ثلاثة : "تاريخ الفلسفة اليونانية" و "تاريخ الفلسفة الأوربية في العصر الوسيط" و "تاريخ الفلسفة الحديثة" ، يضاف إليهم كتاب رابع مهم بعنوان "الطبيعة وما بعد الطبيعة" وإن كنت أوصي باقتناء كل كتبه لمن لم يقتنها بعد .
أسلوبه في الكتابة وعرض مسائل الفلسفة على درجة من التعقيد الأكاديمي وتتطلب قارئا على شيء من الدراية المسبقة برطانة الفلسفة وبالتالي مؤلفاته لا تصلح للمبتدئين وشذاذ الأفاق :rolleyes: ، ويجب أن أذكر أن الفصل الخاص بكانط في كتابه "تاريخ الفلسفة الحديثة" يعتبر من أجمل وأمتع ما قرأت عن هذا الفيلسوف الملحمي .

والآن تعالوا نرى ـ في ثلاثة نماذج مع ثلاثة من الزنادقة ـ ما ذا يمكن أن يفعله الإيمان الديني برجل على هذه الدرجة من الثقافة فيخرجه قليلا أو كثيرا عن وقاره العلمي ، مع ملاحظة أنني أنقل الاقتباسات من كتابه المذكور عن الفلسفة الحديثة وألتمس العذر عن أي أخطاء إملائية او غيرها في النقل .

الفقرة التالية يختتم بها تناوله لنظرية التطور الداروينية ولن يفوتنا ملاحظة هجاءه الصريح لداروين وغيره ممن لا يروقون لمزاج كرم الإيماني :


" ما مذهبه (داروين) إلا المذهب المادي المعروف ، وقد خلع عليه حلة علمية شائقة ، ولكنها لا تخفي عيوبه عن النظر الثاقب . قلنا أن داروين عجب لتشابه أفراد النوع الواحد من حيث بنية الجسم وتوزعها أصنافاً تبعاً للبيئة وظروف المعيشة : فظاهر أن النوع ثابت من حيث الجوهر متغير من حيث العرض ، ولكن داروين اتخذ التغير العرضي معيارا وفسر الأنواع أنفسها كما تفسر الأصناف ، وقد نسلم بالتطور ثم نرانا مضطرين إلى اعتبار الإنسان نوعا قائما بذاته بسبب ما يختص به من علم ولغة وفن وصناعة وخلق ودين ، وهي مظاهر للعقل لا نظير لها ولا أصل في سائر الحيوان ، وقد نسلم بالتطور ثم نرانا مضطرين إلى الإقرار بموجد للمادة موجه لها ، لقصور المادة عن تنظيم نفسها . ولكن من العلماء والفلاسفة من يفكرون كالعامة دون العقل فيسيغون المحالات ، وسنصادف نفراً منهم فيما يأتي من فصول ، يتخذون مذهب التطور سلاحاً يهاجمون به الدين والروحانيات إطلاقاً ."


في تعليقه على فلسفة كارل ماركس يكاد يوسف كرم يفقد أعصابه ويتدنى بلغته إلى مستوى وعظي هابط ، وربما كون إلحاد ماركس ليس كأي إلحاد من حيث تأثيره في حركة التاريخ وفي الثقافة الإنسانية عموما (كان الاتحاد السوفيتي ملء السمع والبصر حين كتب كرم سطوره) ، كونه كذلك استفز الحس الإيماني عند "أبي حجاج" .
بعد أن اعتبر أن منطق الجدل الماركسي ( الديالكتيك) "باطل من جميع الوجوه" و " باطل في أساسه المادي وفي محاولته (الديالكتيك) استخراج الموجودات على اختلاف أنواعها من المادة البحتة " ، يقول يوسف كرم :


"قال كارل ماركس أن الدين أفيون الشعب يجب منعه عنه لكي ينفض التسليم والخنوع وينهض للمطالبة بحقه ، ولكنه لم يفطن إلى ما ينتج عن الإلحاد من الهبوط بالإنسان إلى درك البهيمة بل إلى أدنى ، إذ أن الإنسان حينذاك يجري مع غرائزه مطلقاً من القيد الطبيعي الذي نشاهده في البهيمة والذي يقفها عند حد الاعتدال فلا يعرف رادعا سوى الخوف من بطش الأفراد والجماعة ، وإذا كان الشيوعيون يشبعون الجسم كما يعتقدون ، ويأملون أن يستغنى الإنسان الشبعان عن الدين فإنهم واهمون : إن الحاجة إلى الدين أصيلة في النفس لا يمكن اجتثاثها ، و "ليس يحيا الإنسان بالخبز وحده بل بكل كلمة تخرج من فم الله"


مع نيتشه يبدو يوسف كرم أكثر هدوءاً ويكتفي بالتقليل من شأنه ووصف فلسفته ـ أو الجديد في فلسفته ـ بأنها مجرد "ضجيج يقال له أدب" وهذا بعد فاصل وعظي قصير كالعادة ، يقول :

"لو أن نيتشه دقق في تحليله لأدرك جمال الحلم والوداعة ، وأنهما عبارة عن المضي مع طبيعة الإنسان العاقلة على النهاية ، بل لأدرك أنهما يتطلبان من القوة أكثر مما يبذل في الغضب والقسوة : فإن القسوة والغضب انقياد للغريزة الحيوانية الجامحة ، على حين أن كظم الغيظ أصعب من إعلانه وأن الصفح أصعب من الانتقام ، وهذا هو الخلاف الدائم بين الحسية والعقلية ، بين مذهب لا يرى في الإنسان سوى أنه حيوان راق فيأخذ بأخلاق الوثنية القائمة على اعتبار القوة والمقسمة البشر إلى قوي وضعيف ، وبين مذهب يلحظ روحانية الإنسان قبل حيوانيته فيرسم له أخلاق العدالة والمحبة ، فلم يأت نيتشى بشيء جديد من الوجهة الفلسفية ، وكل الجديد عنده ذلك الضجيج الذي يقال له أدب . "


يتبع باقتباس أخير .