{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 0 صوت - 0 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
رواية الخيميائي - اهداء لمن لم يقرأها, لـ باولو كويلو
ابن نجد غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 1,890
الانضمام: Mar 2004
مشاركة: #1
رواية الخيميائي - اهداء لمن لم يقرأها, لـ باولو كويلو
[CENTER]_______[/CENTER]



وفيما هم سائرون، دخل قرية فقلبته امرأة اسمها مرثا في بيتها، وكانت لهذه أخت تدعى مريم والتي جلست عند قدمي يسوع، وكانت تسمع كلامه، وأما مرثا فكانت مرتبكة في خدمة كثيرة فوقفت وقالت:
- يارب، أما تبالي بأن أختي قد تركتني أخدم وحدي، فقل لها أن تعينني. فأجاب يسوع وقال لها:
- مرثا ! مرثا، أنت تهتمين وتضطربين لأجل أمور كثيرة ولكن الحاجة إلى واحد. فاختارت مريم النصيب الصالح الذي ينزع منها.


إنجيل لوقاه الإصحاح العاشر 38 -



:: تمهيـد ::


تناول الخيميائي بيده كتاباً، كان قد أحضره أحد أفراد القافلة، لم يكن للكتاب غلاف، ولكنه استطاع على الرغم من ذلك التعرف على اسم الكاتب " أوسكار وايلد " وهو يقلب صفحاته، وقع نظره على قصة كانت تتحدث عن " نرجس " … لاشك أن الخيميائي يعرف أسطورة " نرجس " هذا الشاب الوسيم الذي يذهب كل يوم ليتأمل بهاءه المتميز على صفحة ماء البحيرة.
كان متباهياً للغاية بصورته، لدرجة أنه سقط ذات يوم في البحيرة، وغرق فيها، في المكان الذي سقط فيه، نبتت وردة سميت باسمه: "وردة النرجس".
لكن الكاتب " أوسكار " لم ينه روايته بهذا الشكل، بل قال أنه عند موت نرجس، جاءت الإريادات (آلهة الغابة) إلى ضفة البحيرة العذبة المياه، فوجدتها قد تحولت إلى زير من الدموع المرة، فسألتها:
- لماذا تبكين؟
- أبكي نرجساً . اجابت البحيرة.
فعلقت الإريادات قائلة:
- ليس في هذا مايدهشنا، وعلى الرغم من أننا كنا دوماً في إثره في الغابة، فقد كنت الوحيدة التي تمكنت من تأمل حسنه عن كثب.
- كان نرجس جميلاً إذاً ؟
مكثت البحيرة صامتةً للحظات ثم قالت:
- أنا أبكي نرجساً لكنني لم ألحظ من قط أنه كان جميلاً، إنما أبكيه لأنه في كل مرة انحنى فيها على ضفافي كنت أتمكن من أن أرى في عينيه انعكاساً لحسني.
- إنها لقصة جميلة جداً. قال الخيميائي.


:: الجزء الأول ::


كان يُدعى سنتياغو.
كان النهار يتلاشى عندما وصل بقطيعه أمام كنيسة قديمه مهجورة، سقفها قد انهار منذ زمن بعيد. وفي الموضع الذي كان يوجد فيه الموهف نمت شجرة جميز عملاقة.
قرر أن يقضي الليل في هذا المكان، أدخل نعاجه من الباب المحطم، ووضع بضع ألواح بطريقه بمنعها بها من الفرار أثناء الليل. لم يكن هناك ذئاب في تلك المنطقة، فذات مرة هربت دابة فكلفه ذلك إضاعة نهار بكامله في البحث عن النعجة الفارة.
مد معطفه على الأرض وتمدد، وجعل من كتابه الذي فرغ من قراءته وسادة.
قبل أن يغرف في النوم أكثر فكر بأن عليه قراءة كتب أكبر، وسيكرس لإنهائها وقتاً أكبر، وسوف يكون له منها وسادات أكثر راحة من أجل الليل.
عندما أفاق، كانت العتمة لاتزال قائمة، نظر إلى الأعلى فرأى النجوم تلمع، من خلال السقف الذي انهار نصفه.
فقال في نفسه:
- كنت أتمنى فعلاً لو نمت لوقتٍ أطول.
فقد رأي حلماً، إنه حلم الأسبوع الفائت، ومن جديد أفاق قبل نهايته. نهض وشرب جرعة من الخمر، ثم تناول عصاه، وأخذ بإيقاظ نعاجه التي كانت ما تزال راقدة، وقد لاحظ أن معظم البهائم تستعيد وعيها وتتخلص بسرعة من نعاسها ولمّا يسعد وعيه هو، وكأنما هناك قدرة غريبة قد ربطت حياته بحياة تلك الأغنام، والتي تطوف معه البلاد منذ عامين سعياً وراء الماء والكلأ.
- قد تعودت على فعلاً لدرجة أنها صارت تعرف مواقيتي ـ قال في نفسه بصوت منخفض، وبعد لحظة من التفكير تراءى له أن العكس هو الصحيح، إذ أنه هو الذي قد اعتاد عليها وعلى مواقيتها.
كانت بعض النعاج تماطل بالاستيقاظ، فكان يوقظها واحدة إثر أخرى بعصاه، منادياً كل نعجة منها باسمها، فقد كان مقتنعاً دائماً بمقدرة النعاج على فهم ما يقول، وكان يقرأ لها مقاطع من بعض الكتب، أو يتحدث إليها عن عزلة أو سرور راع، بحياته في الريف، ويفسر لها آخر المستجدات التي قد رآها في المدن التي اعتاد أن يمر بها.
مع ذلك منذ قبل يوم أمس، لم يكن لديه عملياً، موضوع محادثة آخر سوى تلك الشابة التي تسكن في المدينة التي سيصل إليها بعد أربعة أيام، لم يكن قد زارها إلا لمرة واحدة في العام الفائت.
كان التاجر يملك متجراً للقماش، وكان يحبذ أن يجز صوف أغنامه على مرأى منه، كي يتحاشى الوقوع ضحية للغش، لقد قاد الراعي قطيعه إليه لأن أحد أصدقائه قد دلّه على المتجر.

× × ×

- أنا بحاجة لأن أبيع قليلاً من الصوف ـ قال للتاجر.
كان المتجر يغص بالزبائن، لذا فقد طلب التاجر من الراعي الانتظار حتى المساء، فذهب ليجلس على رصيف المتجر وأخرج من حقيبته كتاباً.
- لم أكن أعلم أن بإمكان الرعاة قراءة الكتب.
قال صوت امرأة كانت بجانبه، كانت هذه الشابة تمثل نموذجاً لنساء منطقة الأندلس بشعرها الأسود المسدول، وعينيها اللتين تذكران نوعاً ما بالفاتحين العرب القدماء.
- ذلك لأن النعاج تعلم أشياء أكثر مما هو في الكتب ـ أجاب الراعي الشاب.
بقيا يثرثران أكثر من ساعتين، هي أخبرته بأنها ابنة التاجر، وتحدثت عن الحياة في القرية، وعن رتابة الأيام فيها، والراعي حدثها عن الأندلس، وعن آخر المستجدات التي رآها في المدن التي مرّ فيها.
كان سعيداً لأنه لم يكن مجبراً على التحدث مع أغنامه دائماً.
- كيف تعلمت القراءة؟ سألت الشابة لتوها.
- كسائر الناس، في المدرسة.
- لكن، وربما أنك تعرف القراءة، لماذا لم تصبح إلا مجرد راعٍ؟
وارب الراعي كي لا يرد على هذا السؤال، لأنه كان متأكداً من أن الفتاة لن تفهمه.
تابع رواية سير ترحاله، وعيناها العربيتان الصغيرتان تحملقان ثم تنغلقان بفعل الإنذهال والمفاجأة.
كان يشعر أن الوقت يمر سريعاً، وتمنى لهذا اليوم ألا ينتهي، ولوالد الفتاة أن يبقى مشغولاً لزمن أطول، وأن يطلب منه الانتظار ثلاثة أيام.
وانتابه إحساس لم يكن قد ألم به من قبل أبداً: إنه الرغبة في الاستقرار في مدينة بالذات مع الشابة ذات الشعر الأسود، فلن تكون الأيام رتيبة متشابهة، لكن التاجر، ظهر أخيرا، فطلب منه أن يجز له صوف أربع نعاج، دفع إليه التاجر ثمن الصوف ودعاه إلى المجيء في السنة القادمة.
حتى الآن لم يكن يعوزه إلا أربعة أيام، من أجل الوصول إلى تلك البلدة نفسها، كان مبتهجاً وبالوقت نفسه مرتاباً من أن تكون الفتاة قد نسيته، فالرعاة الذين يمرون من هنا لجز صوف أغنامهم ليسوا قلائل.
- غير مهم ـ قال متحدثاً إلى أغنامه _ فأنا أيضاً أعرف فتيات أخريات، في مدن أخرى.
لكنه كان في قرارة نفسه يعترف أن لقاءه بها له أهميته، وأن الرعاة كالبحارة أو التجار المتجولين، يعلمون دائماً أن مدينة يوجد فيها من يجعلهم ينسون متعة التجوال في العالم بملئ حريتهم.

بينما أخذت تبدو خيوط الشمس الأولى، بدأ الراعي يتقدم بأغنامه باتجاه الشمس المشرقة.
- إنها تتبعني، فهي ليست بحاجة على الإطلاق إلى اتخاذ قرار – فكر- ربما لهذا السبب فإنها تبقى بقربي، وبقدر ماسيبقى راعيها عارفاً بأفضل المراعي الأندلسية بقدر ماستبقى تلك الأغنام صديقاته، فحتى لو تشابهت الأيام بعضها ببعضها الآخر، مكونة ساعات ممتدة بين طلوع الشمس وغروبها، حتى لو أن تلك النعاج لم تقرأ قط أي كتاب خلال حياتها القصيرة، حتى لو جهلت لغة البشر الذين يرون ما كان يحصل في القرى، فهي تكتفي بالماء والكلأ، وهذا بالمحصلة كافٍ. وفي المقابل فهي تمنح صوفها، وصحبتها بسخاء، ومن وقت لآخر لحمها أيضاً، ولو أنني بين لحظة وأخرى قد تحولت إلى غول وأخذت بذبحها وحدة إثر الأخرى. فإنها لن تستوعب ما يحصل، إلا عندما يوشك القطيع على الهلاك، وذلك لأنها تثق بي، ولم تعد تعتمد على غرائزها، وهذا كله لأنني أنا الذي أسوقها إلى المراعي.
أخذ الراعي يفاجأ بأفكاره، وصار يجدها غريبة.
ربما بدت الكنيسة، مع شجرة الجميز المنتصبة في الداخل مسكونة بالأرواح. هل كان هذا هو السبب الذي جعل هذا الحلم يعاوده أيضاً، وهل لهذا يعاني من شعور الغضب تجاه نعاجه، صديقاته المخلصات دوماً؟
شرب قليلاً من الخمر الذي تبقى لديه من عشاء ليلة الأمس، وشد معطفه على جسده، فهو يعلم أن الشمس ستكون في أوجها بعد بضع ساعات، وسيصبح الطقس حاراً جداً، لدرجة لن يستطيع معها اصطحاب قطيعه عبر الريف.
في تلك الساعة من الصيف، كانت إسبانية كلها غافية، الحرارة مرتفعة حتى في الليل، وخلال ذلك الوقت كله يتوجب عليه أن يحمل معطفه معه.
وكلّما كانت تتملكه الرغبة في الشكوى من هذا العبء تحديداً، كان يتذكر أنه بفضله يجابه برودة الصباح الباكر.
- علينا أن نكون مستعدين دائماً لمفاجآت الطقس ـ تخيل عندئذٍ وتقبّل بامتنان ثقل معطفه الذي كان هناك مبرر لوجوده كمثل الشاب، فبعد سنين من تطواف سهول الأندلس، صار يعرف عن ظهر قلب، أسماء مدن المنطقة كلها، وكان هذا ما أعطى لحياته معنى، إنه الترحال ...


كان ينوي هذه المرة أن يشرح للفتاة الشابة، لماذا يعرف راع بسيط القراءة؟ فقد كان يتردد حتى سن السادس عشرة عاماً على المدرسة الأكليريكية، وأهله أرادوا له أن يصبح قسيساً، تتشرف به عائلة متواضعة، من وسط فلاحي، تكد من أجل لقمتها وهي بذلك كأغنامه.
درس اللاتينية والإسبانية واللاهوت، لكنه منذ طفولته المبكرة كان يحلم بمعرفة العالم، ويكسب معرفة أفضل من مجرد معرفة الذات الإلهية أو آثام البشر.
ذات مساءٍ جميل، وهو ذاهب لرؤية ذويه، تسلّح بالشجاعة وأخبر والده بأنه لايريد أن يكون راهباً بل يريد السفر.
- ياولدي، رجال من العالم بأسره قد أتوا إلى هنا، ومرّوا آنفاً بهذه القرية، إنهم يأتون إلى هنا ليبحثوا عن أشياء جديدة، لكنهم يبقون الرجال أنفسهم، يذهبون إلى الهضبة لزيارة القصر ويجدون أن الماضي أفضل من الحاضر، أكانوا ذوي شعر فاتح، أو ذوي بشرة غامقة، فهم يشبهون رجال قريتنا.
قال الشاب:
- لكنني لا أعرف قصور البلاد التي قدم منها هؤلاء الرجال.
تابع الأب:
- عندما رأى هؤلاء الرجال حقولنا ونساءنا حبذوا العيش هنا إلى الأبد.
قال الإبن:
- أريد أن أتعرّف على نساء وحقول وأراضي البلاد التي قدم منها هؤلاء الرجال، إنهم لا يديمون البقاء بيننا.
قال الأب:
- لكن هؤلاء الرجال يملكون المال الوفير، أما عندنا فالرعاة وحدهم من يستطيع رؤية مختلف البلدان.
- إذاً سأصبح راعياً.
لم يضف الأب شيئاً بعد، وفي صباح اليوم التالي أعطى لولده كيس نقود يحتوي على ثلاث قطع ذهبية إسبانية قديمة.
- ذات يوم، وجدتها في أحد الحقول، وكنت أفكر أنها حق للكنيسة بمناسبة ترقيتك فيها، لكن خذها واشتر لنفسك بها قطيعاً، واذهب عبر العالم، إلى أن يأتي اليوم الذي تعلم فيه أن قصرنا هو الأعظم، ونساءنا هن أجمل النساء، ومنحه بركته.

قرأ الولد في عيني والده الرغبة في تطواف العالم أيضاً، رغبة كانت تحيا معه رغم عشرات السنين التي حاول أن يمضيها مقيماً في المكان نفسه يأكل ويشرب ويغفو فيه كل ليلة.

× × ×

تلوّن الأفق باللون الأحمر، ثم بدت الشمس.
تذكر الشاب المحادثة التي دارت بينه وبين أبيه، فأحس بالسعادة، كان قد عرف من قبل كثيراً من القصور، وكثيراً من النساء، لكن أياً منهن لا تعادل تلك التي ينتظرها بعد مسيرة يومين من الآن، كان يمتلك معطفاً، وكتاباً وبإمكانه أن يبادله مقابل آخر، وقطيعاً من الغنم، والأكثر أهمية من هذا كله أنه كل يوم يتحقق حلم حياته الكبير: الترحال ...
وعندما سيتعب من التجوال في ريف الأندلس، فإنه سيستطيع بيع أغنامه ليصبح بحاراً، وعندما سيمل البحر، فإنه سيكون قد تعرّف على مدن كثيرة، ونساء كثيرات، وفرص عديدة ليظل سعيداً.
ثم تساءل وهو يشاهد بزوغ الشمس:
- كيف يمكن للمرء أن يبحث عن الإله في مدرسة إكليريكية؟.
لم يكن قد جاء إطلاقاً حتى هذه الكنيسة، مع أنه مرّ من هنا مرات عديدة.
العالم كبير، لامتناهٍ، ولو ترك أغنامه تقوده، ولو لبعض الوقت، لوصل إلى اكتشاف أشياء جديدة ومفعمة بالفائدة.
- المشكلة هي انها لا تعي أنها تعبر دروباً جديدة كل يوم، ولا تلاحظ أن المراعي تغيرت، وأن الفصول متباينة، لأنها لا تملك من هاجس سوى الماء والكلأ.
- إن الشيء نفسه يجري لكل الناس ـ فكر الراعي ـ حتى بالنسبة لي أنا الذي لم أفكر بنساء أخريات منذ التقيت ابنة ذلك التاجر.
نظر إلى السماء، وقدّر أنه سيكون ـ تبعاً لحساباته ـ في " طريفه " قبل وقت الغداء، هناك ... سيستطيع مبادلة كتابه بآخر أكبر حجماً، وتعبئة زجاجته خمراً، وأن يحلق ذقنه، ويقص ضعره، عليه أن يكون على أتم استعداد للقاء الفتاة الشابة، ولم يكن يريد حتى أن يتصور احتمال امكانية وصول راعٍ آخر قبله، يملك من الغنم أكثر منه، قاصداً طلب يدها.
- إنها تماماً إمكانية تحقيق حلم يجعل الحياة ذات أهمية ـ تخيل رافعاً نظره نحو السماء وهو يسرع في خطواته.
لقد تذكر لتوه أن هناك في " طريفه " امرأة عجوز تعرف تفسير الأحلام، في هذه الليلة حلم بالحلم الذي كان يراوده ... الحلم القديم نفسه ..

× × ×

قادت المرأة العجوز الشاب إلى داخل المنزل، إلى غرفة يفصلها عن الصالة ستار من البلاستيك متعدد الألوان، كانت هناك طاولة، وصورة للأب المقدس السيد المسيح، وكرسيان.
جسلت العجوز، ورجته أن يفعل مثلها، ثم أمسكت بيديه وأخذت بالدعاء بصوت منخفضٍ جداً، كان هذا أشبه مايكون بصلاة غجرية، لقد التقى كثيراً من الغجر في دربه من قبل، فقد كانوا يسافرون أيضاً، لكنهم لم يكونون يهتمون بالغنم، بل ان الشائع بين الناس هو أن الغجري يقضي وقته في خداع الناس، ويقال أيضاً أن هناك عهداً بينهم وبين الشيطان، وأنهم يسرقون الأطفال، ليجعلوا منهم عبيداً لهم في مخيماتهم الغامضة.
عندما كان الراعي الشاب طفلاً صغيراً كان كثير التخوف وتراوده فكرة أن يختطفه العجر، وعاوده هذا الخوف القديم عندما كانت العجوز تمسك بيديه.
- لكن توجد هنا صورة السيد المسيح _ فكّر محاولاً أن يطمئن نفسه، لم يكن يريد ليديه أن ترتجفا، أو أن تلاحظ العجوز خوفه، وفي صمت تلا صلاةً .
- أمرٌ مثير ! قالت العجوز دون أن تفارق عيناها يد الولد.
وابتسمت من جديد، أما هو فقد كان يشعر من وقت إلى آخر بثورة أعصابه، يداه أخذتا ترتجفان رغماً عنه، ولاحظت العجوز ذلك، صمم أن يسحبها على الفور ثم قال:
- أنا لم آتِ إلى هنا من اجل قراءة خطوط يدي.
وهو الآن يتأسف دخوله هذه الدار وحسب أنه سيكون من الأفضل أن يدفع قيمة الاستشارة وينصرف دون أن يعرف شيئاً، فقد علق دون شك أهمية كبرى على حلم تكرر.
قالت العجوز:
- أتيت تسألني على الأحلام، والأحلام هي لغة الله، وعندما يتكلم الله بلغة البشر فأنا أستطيع تفسيرها، لكنه عندما يتكلم بلغة روحك، فلن يفهمه أحد سواك، وعلى أية حال، عليك أن تدفع قيمة استشارتي.
- حيلة أخرى ـ فكر الشاب، وعلى الرغم من كل شيء فإن الراعي قد قرر المجازفة. إنه يتعرض دائماً لخطر الذئاب، أو لخطر الجفاف، وهذا تماماً ما يجعل من مهنته مهنة هامة ومثيرة.
قال الشاب:
- حلمت بالحلم نفسه مرتين على التوالي. كنت متواجداً مع أغنامي على أرض أحد المراعي، حينما ظهر طفل وأخذ يلعب مع البهائم، وأنا لا أحبذ كثيراً أن يأتي أحد ليلهو مع نعاجي، فهي تخاف من رؤية أشخاص لا تعرفهم، لكن الأطفال ينجحون دائماً في اللهو معها دون أن يسببوا لها الخوف، إنني أجعل لماذا، ولا أعرف كيف تستطيع الحيوانات معرفة أعمار الكائنات البشرية.
- ارجع إلى حلمك ـ قالت العجوز ـ فلدي قدر على النار، بالاضافة إلى أنك لاتملك الكثير من المال وتأخذ وقتي كله.
- تابع الطفل اللعب مع النعاج لفترة ـ أردف الراعي مرتبكاً قليلاً ـ وفجأة أخذ بيدي وقادني حتى أهرامات مصر.
عدل الشاب عن الكلام لحظة، ليرى إن كانت العجوز تعرف ماتكون أهرامات مصر، لكنها بقيت خرساء، ثم تابع:
- عندئذٍ أمام أهرامات مصر، (لفظ هذه الكلمى بمنتهى الدقة، لتستطيع العجوز فهمها جيداً)، كان الطفل يقول لي: " إن تأتِ حتى هنا، فستجد كنزاً مخبأ " . وفي اللحظة التي كان يكاد أن يريني فيها المكان المحدد كنت استيقظ في المرتين.
مكثت العجوز صامتة للحظات، ثم عادت وأمسكت بيدي الشاب اللتين تفحصتهما بانتباه.
- لن أدعك تدفع الآن أي شيء، لكنني أريد عشر الكنز إن وجدته.
أخذ الشاب يضحك، إنها ضحكة انشراح ورضا، فهكذا سيدخر القليل من المال الذي يملكه بفضل حلم صار عبارة عن مسألة كنز مخبأ ! لابد أن تكون المرأة الطيبة العجوز غجرية، فالغجر أغبياء.


- حسنٌ، كيف تفسرين هذا الحلم ؟ .
- أولاً يجب أن تقسم. اقسم لي أنك ستعطيني العشر من كنزك مقابل ما سأقوله لك.
أقسم الراعي، وطلبت منه العجوز أن يكرر القسم، وهو يثبت عينيه في صورة السيد المسيح.
قالت العجوز:
- إنه حلم باللغة الكونية، حلم أستطيع تأويله، لكنه تأويل صعب جداً، يبدو لي أني استحق حصتي مما ستجد، والتأويل هو ذا:
" عليك أن تذهب حتى أهرامات مصر، لم أسمع عنها مطلقاً لكن إن كان من أراك إياها طفل، فهذا يعني أنها موجودة فعلاً، هناك ستجد كنزاً سيجعل منكَ رجلاً غنياً ".
ذهل الشاب للوهلة الأولى، ثم غضب، لم يكن بحاجة للمجيء، لرؤية هذه المرأة من أجل شيء تافه، لكنه تذكر في نهاية الأمر أنه لم يدفع شيئاً.
- لم تك لدي حاجة لإضاعة وقتي مادام الأمر هكذا ـ قال الشاب.
- أنت ترى، لقد كنت قد قلت لك أن حلمك صعب التفسير، الأشياء البسيطة هي الأشياء الأكثر روعة والعلماء وحدهم من يراها، وبما أنني لست واحدة منهم فإنه يتوجب عليّ معرفة فنون أخرى: قراءة الكف مثلاً.
- وماذا عليّ أن أفعل من أجل الذهاب حتى مصر ؟
- أنا لا أقوم إلا بتفسير الأحلام وليس بمقدوري تحويلها إلى حقيقة، ولهذا السبب عليّ أن أعيش مما تعطيني إياه بناتي.
- وإن لم أصل حتى مصر ؟
- حسنٌ، عندها لن أوفى أجري ولن تكون هذه المرة الأولى.
ولم تضف العجوز شيئاً، بل طلبت من الشاب الانصراف لأنه جعلها تضيع الكثير من الوقت.

× × ×

انصرف الراعي خائباً وعازماً على ألا يعتقد بالأحلام بعد الآن، ثم تذكر أن عليه القيام بأشياء مختلفة، ذهب للبحث عن شيء يأكله، ولمبادلة كتابه مقابل آخر أكبر حجماً، وجلس على مقعد في الساحة، ليتذوق الخمرة الجديدة التي ابتاعها.
إنه نهار حار، ولعلّ الخمر، بفضل أحد تأثيراته الخفيّة التي يملكها، يستطيع أن يكون مرطباً له.
كانت أغنامه عند مدخل المدينة، في حظيرة أحد الأصدقاء الجدد. تعرف على الكثير من الناس في هذه الأنحاء، وهذا ما جعله يحب السفر لأيام متتالية، فعندما نرى الأشخاص أنفسهم كما هي الحال عليه في المدرسة الإكليريكية ـ فإننا نتوصل إلى اعتبارهم جزءاً من حياتنا، وبما أنهم يشكّلون جزءاً من حياتنا، فإنهم يبحثون في نهاية الأمر عن تغييرها كما يرغبون بغير رضى، لأن كل الناس يعتقدون معرفة كيف يجب أن نعيش تماماً، لكن أياً كان لا يعرف قطعاً كيف يتوجب عليه أن يعيش هو نفسه حياته الخاصة، كما لدى هذه المرأة المنجمة التي تجهل كيف تحول الأحلام إلى واقع.
قرر الانتظار حتى حلول الظلام، قبل أن يذهب إلى الريف مع نعاجه، فبعد ثلاثة أيام سيلتقي ثانيةً ابنة التاجر.
بدأ بقراءة الكتاب الذي كان قد حصل عليه من خوري طريفه. كان مؤلفاً ضخماً يتعرض لمسألة دفن من بدايته، بالاضافة إلى ذلك كانت أسماء الشخصيات معقدة للغاية. ثم حدث نفسه، بأنه لو قدر لو يوماً أن يؤلف كتاباً، فسوف يورد الشخصيات واحدة واحدة، كي يوفر لقرائه حفظ أسمائها دفعة واحد عن ظهر قلب.
عندما كان يقرأ بتركيز تلك القصة الجميلة عن دفن في الثلج، والتي منحته احساساً بالرطوبة رغم الشمس المحرقة ... جاء رجل عجوز للجلوس بجانبه والحديث معه.
- ماذا يفعل هؤلاء ؟ سأل العجوز مشيراً إلى المارة في الساحة.
أجاب الراعي بلهجة جافة:
- إنهم يعملون ... وتظاهر بالقراءة.
وفي الواقع، فقد كان يحلم بالذهاب لجز صوف نعاجه أمام ابنة التاجر كي تلمس بنفسها مقدرته على القيام بالكثير من الأمور الهامة، كان قد تخيّل هذا المشهد عشرات المرّات. وأن الشابة تبدو له مندهشة عندما يشرح لها عن الغنم وكيف يجز الصوف من الخلف إلى الأمام، لقد بذل ما بوسعه لتذكر بعض القصص الجيدة وروايتها لها أثناء عملية الجز، كانت في الغالب قصصاً قرأها في الكتب، وهو يرويها، كما لو أنه عاشها بنفسه، ولن تعرف مطلقاً الفرق طالما أنها تجهل قراءة الكتب.
أصرّ العجوز على الكلام حينذاك، واخبره أنه متعب وعطش، وطلب أن يشرب جرعة من الخمر، فقدم له الشاب زجاجته علّه يذهب ويتركه بحاله.
لكن العجوز كان يريد الثرثرة بإلحاح، فسأل الراعي عن الكتاب الذي يقرأه.
فكر الشاب أن يكون فظّاً ويغير مقعده، لكنه تذكر أن أباه قد علّمه أن يحترم المسنين، عندها ناول الرجل العجوز الكتاب لسببين: أولاهما، لأنه كان يجد نفسه فعلاً غير قادر على لفظ العنوان، وثانيهما، كي يغير العجوز مقعده إن كان يجهل فعلاً القراءة حتى لا يشعر بالذل.
- هِمْ ـ تنحنح العجوز متفحصاً الكتاب من وجوهه كلها كما لو كان شيئاً غريباً ـ إنه كتابٌ مهم ولكنه ممل جداً.
ولشد ما تفاجأ الراعي عندما وجد أن العجوز يجيد القراءة. وأنه كان قد قرأ من قبل هذا الكتاب. وأنه كتاب ممل كما أكد العجوز، فالوقت لا يزال مناسباً كي يستبدله بآخر.
تابع العجوز:
- إنه كتاب يتحدث عن الشيء نفسه الذي تحدثت عنه الكتب كلها تقريباً، عن عجز الناس في اختيار مصيرهم، وأخيراً يجعلنا ندرك أكبر خدعة في العالم.
- ما هي أكبر خدعة في العالم ؟! سأل الشاب مندهشاً.
- هي ذي: " في إحدى لحظات وجودنا، نفقد السيطرة على حياتنا التي ستجد نفسها محكومة بالقدر، وهنا تكمن خديعة العالم الكبرى. "
قال الشاب:
- بالنسبة لي، لم تجر الأمور بهذه الطريقة، فقد كانوا يريدون أن يجعلوا مني كاهناً لكنني قررت أن أكون راعياً.
- هكذا أفضل لك، لأنك تحب الترحال.
- لقد حدس أفكاري ـ قال لنفسه سنتياغو، بينما كان العجوز يتصفح الكتاب، دون أن يظهر أية نية لردّه.
لاحظ الراعي أن العجوز يرتدي زيّاً غريباً، فقد كان يبدوا أنه عربي الهيئة، وهذا شيء مألوف في تلك المنطقة، فإفريقية على بضع ساعات من " طريفة " ويكفي اجتياز المضيق الصغير بواسطة القارب وغالباً ما يأتي العرب للتسوق من المدينة فالناس يشاهدونهم وهم يصلون عدة مرات في اليوم بطريقة تدعو للفضول.
- من أين أنت ؟ سأل الشاب.
- من أماكن عدة.
- لا يمكن لأحد أن يكون من أماكن عدة، فأنا راعٍ، ومن الممكن أن أتواجد في أماكن مختلفة، لكنني أنتمي لمكانٍ واحد، مدينة قريبة من قصر قديم جداً، فهناك وُلدت.
- لنقل إذن إنني ولدت في سالم
لم يكن الراعي يعرف أين تقع سالم، لكنه لم يطرح سؤالاً، كي لا يشعر بأنه سخيف نتيجة جهله.
انهمك بمراقبة الساحة للحظة، فالناس يذهبون ويجيئون، ويبدون منشغلين للغاية.
سأل الشاب:
- كيف هي سالم؟ باحثاً عن أية علامة لا على التعيين.
- كما هي دائماً من الأزل.
لم يكن في هذا أية علاقة تدل عليها، لكن على الأقل كان يعلم أن سالم ليست في الأندلس، وإلا لكان عرفها.
- وماذا تفعلون أنتم في سالم؟
- ما أفعله في سالم؟!
انفجر للمرة الأولى العجوز ضاحكاً، لكنني أنا ملك سالم، أي سؤال هذا ! ...
الناس يقولون الكثير من الكلمات الغريبة، ومن المستحسن أحياناً أن يعيش المرء مع النعاج الخرساء، ويكتفي بالبحث عن الماء والغذاء، أو مع الكتب التي تحكي قصصاً لا تُصدّق، أما عندما يتكلم المرء مع البشر فإن هؤلاء يقولون بعض الأمور التي تجعلنا جاهلين كيف نتابع الحديث.
قال العجوز:
- أنا أدعى " ملكي صادق "، كم تملك من الغنم؟
- ما يلزم.
كان العجوز يريد أن يعرف الأكثر عن حياته.
- لدينا مشكلة إذن، فأنا لا أستطيع أن أساعدك، مادمت تفكر بامتلاك ما يلزمك من الغنم.
بدأ الشاب يعاني نوعاً من الضيق، فهو لم يكن قد طلب منه أية مساعدة. فالشيخ العجوز هو الذي كان قد طلب خمراً، وأراد أن يثرثر، وهو الذي كان قد اهتم بالكتاب.
- أعد إلي الكتاب، يجب أن أذهب للبحث عن أغنامي ومتابعة طريقي.
- أعطني منها العشر، وسأعلّمك كيف تصل إلى كنزك المخبأ.


تذكر الفتى حلمه، وفجأة صار كل شيء واضحاً له.
فالمرأة العجوز لم تجعله يدفع شيئاً، لكن هذا الشيخ، سينجح في تحصيل مبلغ أكبر مقابل معلومة لم تكن تتعلّق بأي واقع، لابد أنه غجري أيضاً ويمكن أن يكون زوجها.
في تلك الأثناء، ودون أن يقول أية كلمة، انحنى العجوز، والتقط غصناً من الأرض، وشرع يكتب شيئاً على رمل الساحة، وفي اللحظة التي انحنى فيها، لمع شيء ما على صدره، كان الضوء باهراً لدرجة جعلت الشاب شبه أعمى.
لكن وبحركة سريعة ومدهشة لرجل في عمره، سارع العجوز لشد معطفه على صدره.
زال انبهار عيني الفتى، فاستطاع أن يرى بوضوح ما كان الرجل يكتبه، قرأ اسم أبيه، واسم أمه على رمال الساحة الرئيسية للمدينة الصغيرة، ألعاب طفولته، ليالي المدرسة الإكليريكية الباردة، ثم قرأ سيرة حياته حتى هذه اللحظة، قرأ أشياء لم يكن قد رواها لأحد قط، كتلك المرة التي سرق فيها سلاح أبيه وذهب لاصطياد الوعول الجبلية، أو كتجربته الجنسية الأولى والوحيدة.
- أنا ملك سالم ـ قال العجوز.
- لماذا يثرثر ملك مع راع؟ تساءل الفتى في ذهول وحيرة.
- توجد عدة أسباب، لكن لنقل أن أهمّها هو أنك كنت قادراً على انجاز " أسطورتك الشخصية " .
لم يكن الشاب يعرف ما كان العجوز يقصد بقوله: " أسطورة شخصية " .
- هي ما كنت دائماً تتمنى أن تفعل، فكل واحد منا يعرف ما هي أسطورته الشخصية وهو في ريعان شبابه، في هذه الفترة من الحياة، يكون كل شيء واضحاً، كل شيء ممكناً، ولا يخاف المرء من أن يحلم أو يتمنى ما يحب أن يفعله في حياته. وكلما جرى الوقت، فإن قوى خفيّة تنشط لإثبات استحالة تحقيق الأسطورة الشخصية.
لم يكن لقول العجوز أي معنى بالنسبة للراعي الشاب.
لكنه كان يريد معرفة ماهية هذه " القوى الخفية ". إن ابنة التاجر ستبقى فاغرة فاها !
- إنها قوى قد تبدو سيئة، ولكنها في الواقع هي تلك التي تعلّمك كيف تحقق أسطورتك الشخصية، إنها هي التي تعد عقلك، وإرادتك لأن هناك حقيقة كبرى في هذا العالم:
" فأياً كنت، وأيّ شيء فعلت، فإنك عندما تريد شيئاً بالفعل، فهذا يعني أن هذه الرغبة قد ولدت في " النفس الكليّة " ، وأنها رسالتك على الأرض . "
- حتى لو كانت الرغبة فقط هي رغبة في الترحال ؟ أو في الزواج من ابنة تاجر أقمشة؟
- أو البحث عن الكنز، فإن النفس الكليّة تتغذى من سعادة الناس أو من شقائهم، من الرغبة، من الغيرة، وإنجاز الأسطورة الشخصية هو الالتزام الأول والأوحد للناس، وكل شيء ليس إلا شيئاً واحداً.
" وعندما تريد شيئاً ما، فإن الكون بأسره يتضافر ليوفر لك تحقيق رغبتك " .
احتفظا بالصمت للحظة، راقبا فيها الساحة والمارّة، وكان العجوز هو المبادر في إعادة فتح الحديث:
- لماذا ترعى الغنم؟
- لأنني أحب الترحال.
أشار العجوز إلى بائع البوشار بعربته الحمراء في إحدى زوايا الساحة وقال:
- هذا الرجل أيضاً كان دائماً يريد الترحال عندما كان طفلاً، لكنّه فضّل شراء عربة صغيرة ليبيع البوشار ويجمع المال طيلة سنين عديدة، وعندما يصبح عجوزاً سيسافر ليمضي شهراً في إفريقية، إنه لم يدرك أبداً أن الانسان يمتلك القدرة لينفذ ما يحلم به.
- كان عليه أن يكون راعياً ـ فكّر الشاب بصوتٍ عالٍ.
- لقد فكّر في ذلك ـ قال العجوز ـ لكن باعة البوشار ذوو شخصيات أكبر من تلك التي هم عليها الرعاة، فباعة البوشار لديهم بيوت تؤويهم، بينما الرعاة ينامون تحت النجوم، والناس يفضّلون تزويج بناتهم من باعة بوشار على تزويجهم من الرعاة.
شعر الراعي بغصّة في الصميم، وهو يفكّر بابنة التاجر، ففي المدينة حيث تعيش يوجد بالتأكيد بائع بوشار.
- وأخيراً ـ أردف العجوز ـ فإن ما يفكّر به الناس عادة عن باعة البوشار وعن الرعاة يصبح لديهم أهم من الأسطورة الشخصية.
تصفّح العجوز الكتاب وتسلّى بقراءة صفحة منه، انتظر الراعي قليلاً ثم قاطعه بنفس الطريقة التي قوطع هو بها:
- لماذا قلت لي هذه الأشياء؟
- لأنك تحاول أن تعيش أسطورتك الشخصية، ولأنك على وشك العدول عنها.
- وأنت تظهر دائماً في هذه اللحظات؟
- ليس بهذا الشكل دائماً، لكنني لا أتخلّى عنه أبداً ... فمرة أظهر على شكل فكرة جديدة، أو كطريقة للتخلص من ورطة، ومرة اخرى أظهر في لحظة روحانية، أجعل فيها الاشياء سهلة المنال، وهكذا ... لكن أغلب الناس لا يلاحظون شيئاً.
روى أنه في الاسبوع الماضي، كان مجبراً على الظهور لأحد المنقبين على شكل حجر، فقد كان هذا الرجل قد تخلّى عن كل شيء، ورحل سعياً للحصول على الزمرد.
خمس سنوات عمل خلالها بتكسير الاحجار على طول أحد الأنهار، كان قد كسر خلالها تسعمائة وتسعاً وتسعين ألفاً وتسعمائة وتسعاً وتسعين حجراً، محالاً أن يجد زمردة، في تلك الأثناء فكّر بالتراجع، ولم يكن ينقصه عندئذٍ إلا حجر واحدة، ليكتشف زمردته، وبما أنه كان رجلاً دأب في الجد خلف أسطورته الشخصية، فقد قرر العجوز التدخل، فتحول إلى حجر تدحرجت عند أقدامه، وتحت وطأة غضبه وإحساسه باستلابه خلال خمس سنوات ضاعت من عمره، قذف بتلك الحجر إلى البعيد، ورماها بقوة كبيرة جعلتها ترتطم بحجر أخرى، فتفتت لتكشف عن أجمل زمردة في العالم.
قال العجوز وفي عينيه شيء من المرارة:
- إن الناس يتعلّمون مبكراً مبرر حياتهم، وربما لهذا السبب نفسه أيضاً، يتخلّون عاجلاً عن المتابعة، لكن هكذا هي الدنيا.
تذكر الشاب حينئذٍ أن نقطة البداية بالنسبة للمحادثة التي دارت بينهما كانت الكنز المخبأ.
- لقد نُبشت الكنوز بفعل السيل الجاري ـ قال العجوزـ ودُفنت نتيجة ارتفاع مياه السيل نفسها، وان كنت تريد معرفة المزيد عن كنزك، عليك أن تتنازل عن عشر قطيعك.
- أفلا يمكن لعشر الكنز أن يفي بالأمر؟
بدا الشيخ خائباً:
- إذا وعدت بشيء لا تملكه بعد، فإنك ستفقد الرغبة في الحصول عليه.
قال له الراعي بأنه كان قد وعد الغجرية بعشر الكنز.
تأوه العجوز وصرخ:
- محتالون، على أية حال، انه لجميل أن تتعلم أن لكل شيء في الحياة ثمناً، وهذه هي الفكرة التي حاول مجاهدو عهد الأنوار تعليمها.
ثم أعاد الكتاب إلى الشاب قائلاً:
- غداً وفي مثل هذه الساعة تصحب لي عشر قطيعك، وسوف أرشدك كيف تجد كنزك بنجاح، هيّا عمت مساءً.
واختفى عبر إحدى زوايا الساحة.

× × ×


حاول الشاب الرجوع إلى قراءته، لكنه لم يتمكّن من التركيز، فقد كان مضطرباً ومتوتراً، لأنه أدرك أن العجوز يقول الحقيقة، ذهب للبحث عن البائع المتجول، واشترى منه كيساً من البوشار متسائلاً في قرارة نفسه هل عليه أن يخبره بما قال العجوز.
من الأفضل أحياناً، أن نترك الأشياء كما هي عليه ـ فكّر دون أن يقول شيئاً، فلو تكلم لأمضى بائع البوشار ثلاثة أيام بالتفكير ليقرر إن كان سيتخلّى عن كل شيء، لكنه كان قد اعتاد العربة الصغيرة.
كان يستطيع أن يوفر عليه هذا الارتياب المؤلم، أخذ يهيم في المدينة، ونزل حتى الميناء، حيث يوجد مبنى كبير، ذو نوافذ خاصة، كان الناس يأتون لشراء بطاقات السفر منها مصر ... إنها توجد في إفريقية.
- ماذا تريد؟ سأل موظف الحجز.
- ربما غداً ـ أجاب مبتعداً.
عندما يبيع واحدة من نعاجه، فإنه سيستطيع الانتقال إلى الجهة الأخرى من المضيق، لكن هذه الفكرة أرعبته.
- هاهو حالم آخر ـ قال قاطع التذاكر لزميله بينما كان الشاب يبتعد ـ ليس لديه ما يغطي نفقات سفره.
في حين أنه عندما كان أمام الكوة، كان قد فكّر بنعاجه، وامتلكه الخوف من الذهاب إليها. فخلال هاتين السنتين تعلّم كل شيء عن تربية الغنم، وتعلم كيف يجز الصوف، والعناية بالنعاج الحوامل، وحماية قطيعه من الذئاب، كان يعرف حقول ومراعي الأندلس كلها، ويعرف السعر الدقيق ومبيع كل واحده من دوابه.
قرر العودة إلى حظيرة صديقه عبر أطول الطرق، كان في المدينة قصر أيضاً، أراد تسلّق المنحدر الحجري والذهاب للجلوس على حائط السوق ليستطيع رؤية أفريقية، فأحدهم كان قد شرح له أن العرب الذين احتلوا إسبانية كلها تقريباً، ولزمن طويل قد جاؤوا من هناك، لكنه يكره العرب لأنهم جاؤوا بالغجر.
ومن الأعلى، يستطيع أن يرى أيضاً الجزء الأكبر من المدينة والساحة التي تحدّث فيها مع العجوز.
- لعن الله الساعة التي التقيت فيها بهذا العجوز ـ فكّر ـ فهو قد ذهب بكل بساطة للبحث عن امرأة قادرة على تفسير الاحلام، فلا تلك المرأة، ولا ذاك العجوز، لم يعلّقا أية أهمية على كونه راع، فقد كانا شخصين منعزلين لا يعتقدان بشيء في الحياة، ولا يفهمان أن الرعاة ينتهون في الارتباط بدوابهم، فالراعي يعرف بدقة كل واحدة منها، ويعرف أن كانت بينها واحدة عرجاء، وأيا منها ستضع بعد شهرين، إنه يعرف الكسولات منها ومتى يكون جزّها وذبحها. وان قرر الرحيل يوماً، فإنها ستتألم كثيراً.
أخذت الريح الشرقية تعصف، فمع هذه الريح جاء قوم من السفهاء الكفار، وقبل أن يعرف " طريفه "، لم يكن ليخيل إليه أن إفريقية كانت قريبة جداً، الأمر الذي يشكّل خطراً كبيراً، فالعرب يستطيعون غزو البلاد من جديد. أخذت الريح تعصف بقوة أكبر.
- هاأنذا بين أغنامي والكنزـ قال لنفسه، وكان عليه أن يقرر أن يختار بين شيء ألفه وآخر يحب كثيراً لو يحصل عليه، وهناك ابنة التاجر، لكنها ليست بأهمّية النعاج بالنسبة إليه، وما جعله يتأكد من ذلك هو لو أنها لن تلتقيه ما بعد الغد، لما كانت انتبهت إلى ذلك: الأيام كلها متشابهة لديها، وعندما تكون الأيام تشبه بعضها بعضاً، فهذا يعني أن الناس قد توقفوا عن ملاحظة الأشياء الطيبة التي تخطر في حياتهم طالما أن الشمس تعبر السماء باستمرار.
- لقد غادرت أبي، أمي، وقصر المدينة التي وُلدت فيها ـ حدّث نفسه ـ لقد تعودنا على ذلك، والاغنام سوف تعتاد على غيابي.
من هناك، في الاعلى، راقب الساحة، كان البائع المتجول يتابع بيع بوشاره، جاء زوجان شابان ليجلسا على المقعد الذي شهد حواره مع العجوز، ثم تبادلا قبلة طويلة.
- بائع البوشار ... ـ تمتم في نفسه دون أن يتم الجملة، لأن الرياح أخذت تعصف بشكل أقوى، وشعر بها تلطم وجهه، إنها جلبت العرب بلا شك، لكنها كانت تأتي أيضاً برائحة الصحراء، وبالنساء المحجبات، وتحمل عرق وأحلام أولئك الذين كانوا قد رحلوا ذات يوم بحثاً عن المجهول، أو عن الذهب، والمغامرات والأهرامات.
أخذ الشاب يغبط الريح على حريتها، وأدرك أن لاشيء يمنعه أن يكون شبيهاً بها، فالأغنام، وابنة التاجر، وحقول الأندلس لم تكن إلا مراحل من أسطورته الشخصية.

× × ×

عند ظهيرة الغد التقى الراعي الشاب بالعجوز، وكان قد أحضر معه ستاً من أغنامه، وقال له:
إنني مندهش فصديقي اشتري مني القطيع على الفور، فطيلة حياته كان يحلم بأن يكون راعياً، إذن هذا فأل خير.
قال العجوز:
- الأمور تسير دائماً هكذا، ونحن نسمي هذا: " المبدأ المناسب"، فأنت عندما تلعب للمرة الأولى فإنك ستربح ربحاً مؤكداً، إنه حظ المبتدئ.
- ولماذا هذا؟
- لأن الحياة تريدك أن تعيش أسطورتك الحقيقة.
ثم بدأ يتفحّص النعاج الست، وقد لاحظ إن إحداها عرجاء، لكن الفتى قد شرح له بأن هذا ليس بذي أهمية، لأنها كانت الدابة الأكثر ذكاءً والأوفر صوفاً، ثم سأله:
- أين يوجد الكنز؟
- الكنز موجود في مصر قرب الأهرامات.
اعترته رجفة، فالغجرية العجوز كانت قد قالت له الشيء نفسه، لكنها لم تأخذ أجرها.
- كي تصل إلى كنزك عليك أن تكون يقظاً للعلامات، فقد كتب الله قدرنا على جبيننا، واختار لكل منا الحياة التي عليه أن يحياها، وليس عليك إلا أن تقرأ ما كُتب لك.
وقبل أن يتمكن الشاب من أن يقول أي شيء، أخذت فراشة ليل تحوم بينه وبين الرجل العجوز، فتذكر جده، ذاك الذي سمعه يقوم عندما كان طفلاً، إن فراش الليل علامة حظ، والشيء نفسه بالنسبة للجنادب، والجراد الأخضر، والسحالي الرمادية، والحندقوقات ذات الأوراق الأربعة.
- هذا هو تماماً ـ قال العجوز الذي كان بمقدوره قراءة أفكاره ـ كما علّمك جدك، هنا تكمن العلامات.
ثم فتح المعطف الذي يلتف به، فتأثر الفتى بما رآه عندئذٍ، وتذكر الألق الذي بهر عينيه عشيّة البارحة، فقد كان العجوز يتقلّد قلادة من الذهب مرصّعة بالاحجار الكريمة.
قد كان ملكاً حقيقياً، وكان لزاماً عليه أن يتنكّر بهذا الزي ليتحاشى قطاع الطرق.
- خذ ـ قال وهو ينتزع حجراً بيضاء وأخرى سوداء، كانتا مثبتتين في وسط قلادته ـ إنهما تسمّيان " أوريم وتوميم "، السوداء تعني نعم والبيضاء تعني لا. فعندما لا تتوصل إلى فهم العلامات، فإن هاتين الحجرين سيفيدانك، لكن ليكن سؤالك الذي تطرحه موضوعياً دائماً، اسعَ باستمرار لاتخاذ قرارك بنفسك، فالكنز موجود قرب الأهرامات وهذا تعرفه مسبقاً، وعليكَ أن تدفع مقابل ذلك ست غنمات، فأنا من ساعدك على اتخاذ القرار.
وضع الشاب الحجرين في جعبته، وسيأخذ من الآن فصاعداً قراراته بنفسه.
- لاتنسَ أن الكل ليس إلا شيئاً واحدً، لاتنسَ لغة العلامات، ولاتنسَ على الخصوص أن تمضي حتى آخر أسطورتك الشخصية. وقبل أن أودعك أحب أن أروي لك حكاية صغيرة.
" ثمة تاجر كبير، أرسل ابنه ليكتشف سر السعادة عند أكثر الرجال حكمة، مشى الولد أربعين يوماً في الصحراء، ووصل إخيراً أمام قصر جميل يقع على قمة جبل، وهناك كان يعيش الحكيم الذي يجدُّ في البحث عنه.
فبدل أن يلتقي رجلاً مباركاً، فإن بطلنا داخل صالة تعج بنشاط كثيف: تجار يدخلون ويخرجون، وأناس يثرثرون، وفي إحدى الزوايا فرقة موسيقية صغيرة تعزف ألحاناً هادئة، وكان هناك مائدة محمّلة بمأكولات من أطيب وأشهى ما تنتج تلك البقعة من العالم. هذا هو الحكيم الذي يتحدث مع هذا وذلك، وكان على الشاب أن يصبر طيلة ساعتين حتى يأتي دوره.
أصغى الحكيم إلى الشاب الذي كان شرح له دوافع زيارته، لكن الحكيم أجابه أن لا وقت لديه كي يكشف له سر السعادة، وطلب منه القيام بجولة في القصر ثم العودة لرؤيته بعد ساعتين.
- أريد أن أطلب منك معروفاً ـ أضاف الحكيم وهو يعطي إلى الشاب ملعقة كان قد صب فيها قطرتين من الزيت ـ ، أمسك الملعقة بيدك طوال جولتك وحاول ألا ينسكب الزيت منها.
أخذ الشاب يهبط، ويصعد سلالم القصر، مثبتاً عينيه دائماً على الملعقة، وبعد ساعتين عاد إلى حضرة الحكيم.
- إذاً ـ سأل هذا، هل رأيت السجاد العجمي الموجود في صالة الطعام؟ هل رأيت الحديقة التي أمضى كبير الحدائقيين سنوات عشرة في تنظيمها؟ هل لاحظت أروقة مكتبتي الرائعة؟
كان على الشاب المرتبك أن يعترف بأنه لم يرَ شيئاً من كل هذا على الاطلاق، فشاغله الوحيد كان ألا تنسكب قطرتا الزيت التي عهد له الحكيم بهما.
- حسن، عد وتعرّف على عجائب عالمي ـ قال له الحكيم ـ فلا يمكن الوثوق برجل تجهل البيت الذي يسكنه.
اطمأن الشاب أكثر، وأخذا الملعقة، وعاد يتجول في القصر، معيراً انتباهه هذه المرة لكل روائع الفن التي كانت معلقة على الجدران، وفي السقوف، رأي البساتين والجبال المحيطة بها وروعة الزهور، والاتقان في وضع كل واحدة من تلك الروائع في مكانها المناسب، وعند عودته إلى الحكيم، روى له ما رآه بالتفصيل.
- ولكن أين قطرتي الزيت اللتين كنتُ عهدت لك بهما؟
نظر الشاب إلى الملعقة ولاحظ أنه قد سكبها.
- حسنٌ ـ قال حكيم الحكماء ـ هاك النصيحة الوحيدة التي سأقولها لك: " سرّ السعادة هو بأن تنظر إلى عجائب الدنيا كلّها، ولكن دون أن تنسى أبداً وجود قطرتي الزيت في الملعقة " .
مكث الراعي صامتاً، كان قد فهم حكاية الملك العجوز، فيمكن لراعٍ أن يحب السفر، لكن ليس له أن ينسى نعاجه أبداً.
نظر العجوز إلى الشاب، وبكفيه المبسوطتين، قام ببعض الحركات الغريبة فوق رأيه ثم جمع غنامه ومضى.

× × ×

على أحد مرتفعات مدينة " طريفة " الصغيرة كان هناك حصن قديم بناه العرب فيما مضى، ومن يجلس على أسواره يستطيع أن يرى من هناك بائع البوشار وجزءاً من إفريقية.
" ملكي صادق " ملك " سالم "، يجلس هذا المساء على متاريس الحصن، ويشعر بالريح الشرقية تلطم وجهه، كانت الأغنام قريبة منه تتوقف عن الحركة كدرة وقلقة بسبب تبدل راعيها وسيّدها، والتغيرات التي حصلت، فإن كل ما كانت ترغب به، هو ما تأكله وتشربه.
كان يراقب القارب الصغير الذي يبتعد عن الميناء، لن يلتقي هذا الشاب من جديد، وذلك بعد أن يجعله يدفع العشر مثلما أنه لم يكن قد لقى إبراهيم، لأن للآلهة أساطير خاصة، وليس لها أمنيات.
غير أن ملك " سالم "، ومن عميق ضميره قد تمنى للشاب النجاح.


للأسف ! سينسى إسمى عما قريب، كان عليّ أن أكرره له مرات عديدة، حتى إذا ماتحدّث عني استطاع أن يقول إنني " ملكي صادق " ملك " سالم ".
ثم رفع عينيه إلى السماء، مشوشاً قليلاً مما كان يفكّر به لتوّه:
- أنا أدرك أن هذا ليس إلا أباطيل، كما قلت أنت نفسك يا إلهي، لكن الملك العجوز يشعر أحياناً بالحاجة للشعور بالاعتزاز بالنفس.

× × ×

- يالها من بلد غريب إفريقية هذه ! حدّث الشاب نفسه.
كان جالساً في مكان ما يشبه المقهى، وسائر المقاهي التي استطاع رؤيتها، وهو يعبر أزقّة المدينة الضيقة. كان هناك رجال، يدخّنون غليوناً ضخماً يتبادلونه من فم إلى فم.
وخلال عدة ساعات رأى رجالاً يتجولون يداً بيد، ونساء محجبات، ورجال دين يصعدون إلى قمم أبراج عالية، ويؤذنون، بينما كان سائر الناس يركعون، ويلطمون رؤوسهم بالأرض.
- إنها ممارسات الكفّار ـ قال في سرّه.
فعندما كان طفلاً، اعتاد أن يرى في كنيسة قريته تمثالاً للقديس " جاك الأعظم " ممتطياً حصانه الأبيض، مجرّداً سيفه، واطئاً بقدميه شخصيات مشابهة لهؤلاء الناس.
كان يشعر بالغم والوحدة بشكل مخيف، نظرة تشاؤم، زد على ذلك أنه في غمرة الترحال الطويل قد نسي واحدة من الجزيئات، يمكن لها أن تبعده عن كنزه كثيراً من الوقت: في تلك البلاد يتكلّمون العربية.
اقترب صاحب المقهى، فأشار إليه بإصبعه أن يحضر له مشروباً كان قد رآه يقدّمه لطاولة أخرى، إنه الشاي المرّ، وتمنى لو كان خمراً.
لكن الوقت كان غير مناسب بالتأكيد لأن يشغل باله بمثل هذه الأمور، فأولى به ألا يفكّر الآن إلا بكنزه، والطريقة التي تمكّنه من الحصول عليه، فبيع أغنامه مكّنه من امتلاك مبلغ مهم نسبياً، كان يعلم أن للمال جانبه السحري، فهو يمنح الانسان الشعور بالأمان وبأنه ليس وحيداً تماماً، ومن الممكن أن ينتهي الأمر خلال أيام، ويجد نفسه عند أقدام الأهرامات، فالرجل المسن، وبهذا الذهب اللامع على صدره، ليس بحاجة مطلقاً لأن يروي الأكاذيب كي يحصل على ست غنمات.
لقد حدّثه الملك العجوز عن علامات، وخلال عبور المضيق، فكّر كثيراً بها.
نعم إنه يدرك تماماً عما يتحدّث، فطيلة الوقت الذي كان قضاه في أرياف الأندلس كان معتاداً أن يقرأ على الأرض وفي السماوات المؤشرات المتعلّقة بالدرب التي عليه أن يسلكها، وان طائراً معيّناً يدل على وجود أفعى بالقرب منه، وشجرة تدل على وجود الماء على بضع كيلومترات من المكان، الأغنام علّمته كل هذه الأشياء.
- الإله هو الذي يهدي الأغنام فعلاً، وهو الذي سيهدي الإنسان ـ قال لنفسه، فشعر بالاطمئنان، وبدا له الشاي أقل مرورة.
- من أنت؟ سمع سؤالاً باللغة الاسبانية.
شعر بارتياح كبير، فهو كان يحلم بعلامات، وهاهو قد ظهر من ينبئ بها.
- كيف لك أن تتكلم الإسبانية؟ سأل الشاب.
كان القادم الجديد، شاباً يرتدي الزي العربي، أما لون بشرته يجعل المرء يحسبه من أبناء المدينة، وكانا يبدوان متقاربين في السن والطول.
- كل الناس هنا يتكلّمون الإسبانية تقريباً، فليس بيننا وبين أسبانية إلا أقل من ساعتين.
- اجلس واطلب لنفسك شيئاً على حسابي، أما أنا فاطلب لي خمراً، فأنا أشمئز من هذا الشاي.
- لايوجد خمر في بلادنا، فالدين يمنعه.
عندئذٍ أخبره الشاب بأن عليه أن يتوجه إلى الأهرامات.
وقد أوشك أن يتحدث عن كنزه، لكنّه فضّل أخيراً ألا يقول شيئاً، فقد كان بمقدور العربي أن يقوده إلى هناك مقابل حصة من الكنز، وتذكر ما كان قد قاله العجوز حول موضوع الاقتراحات.
- أود لو تقودني إلى هناك إن كان هذا ممكناً، أستطيع أن أدفع لك ما تستحقه كدليل.
- هل لديك فكرة عن كيفية الذهاب إلى هناك؟
لاحظ عندئذٍ أن صاحب المقهى كان على مقربة منه، يصغي بانتاه إلى المحادثة، أزعجه حضوره قليلاً، لكن لا بأس فقط حظي بدليل ولن يضيّع هذه الفرصة.
- قال القادم الجديد: عليك اجتياز الصحراء الإفريقية الكبرى، وهذا سيتطلب منك المال، فقبل كل شيء أريد أن أعلم إن كنت تملك ما يكفي.
وجد الشاب في سؤال الفتى شيئاً من الفضول، لكنّه كان يثق بالرجل العجوز، الذي قال له أنه عندما يصمم المرء على تحقيق شيء ما، فإن العالم كله يتضافر في صالحه.
سحب نقوده من جيبه، وأراها لرفيقه الجديد، اقترب صاحب المقهى ونظر أيضاً، تبادل الرجلان بضع كلمات باللغة العربية، وبدا صاحب المقهى غاضباً.
- هيّا بنا ـ قال الفتى ـ فهو لا يريد بقاءنا هنا.
أحس الشاب بنفسه أكثر اطمئناناً، قام لكي يدفع الحساب، لكن صاحب المقهى أخذه من ذراعه، وراح يملي عليه محاضرة طويلة دون توقف، كان الشاب قوياً لكنه في بلد غريب، أما صاحبه الجديد، فقد دفع صاحب المقهى جانباً وصحبه للخارج.
- إنه يريد مالكَ، فـ " طنجة " ليست كسائر إفريقية، نحن هنا في ميناء، والموانئ تكون دائماً وكراً للصوص.
كان يستطيع أن يثق بصديق
11-14-2006, 04:14 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


الردود في هذا الموضوع
رواية الخيميائي - اهداء لمن لم يقرأها, لـ باولو كويلو - بواسطة ابن نجد - 11-14-2006, 04:14 PM

المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع الكاتب الردود المشاهدات آخر رد
  ألف - روية باولو كويلو الجديدة للتحميل . ali alik 4 3,456 01-17-2012, 05:02 AM
آخر رد: ali alik
  رواية عالم صوفي/ عرض للدكتور محمد الرميحي بسام الخوري 1 2,611 06-15-2011, 08:50 AM
آخر رد: بسام الخوري
  رواية اسمها سورية - 40 كاتب ومؤلف في 1585 صفحة ، ملف واحد بحجم 25 ميجا مع الفهرسة ali alik 10 4,899 04-09-2011, 11:21 PM
آخر رد: kafafes
  رواية فنسنت فان جوخ - رائعة ايرفنج ستون في 772 صفحة .. لأول مرة ali alik 2 4,225 12-25-2010, 02:04 PM
آخر رد: kafafes
  مغامرة الكائن الحي _ جويل دو روزناي - و رواية يوم في حياة ايفان - الكسندر سولجينيتسين ali alik 1 1,894 10-26-2010, 04:48 AM
آخر رد: إبراهيم

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 1 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS