مفيد فوزي وهيكل يتبادلان الأدوار!

د. عماد عبد الرازق - ناقد من مصر يقيم في امريكا
30/11/2006

خليك بالبيت.. واقفل التلفزيون! يعحبني مذيع قناة المستقبل اللبناني زاهي وهبة خاصة بسبب ما اتسم به أداؤه اثناء الحرب الأخيرة من اتزان وموضوعية بعيدا عن التشنج والطائفية. ومن البرامج الجيدة التي يقدمها زاهي خليك بالبيت . وهو مذيع متميز أولا لأنه لا يطفح بالنرجسية التي تنتفخ بها أوداج مذيعي ومقدمي برامج مثل أولئك الذين نراهم مثلا في قناة الجزيرة وليس في حالة غرام ووله بنفسه كما هو الحال مع العديد من مذيعي القنوات اللبنانية الذين يريدون الكاميرا أن تتسمر أمام وجوههم أو وجوههن الغارقة تحت أطنان الماكياج أو عمليات الشفط والنفخ والترقيع المسماة تجاوزا تجميلا. كما أنه يتميز بالهدوء والاتزان دون ان يقع في فخ البلادة وايقاع السلاحف الذي ينفرد به مذيعو ومذيعات القنوات المصرية من العواجيز، أو ما يتمتع به الصغار من تفاهة وسطحية. وهو أيضا محاور جيد يعرف كيف يعتصر الاجابات من ضيوفه دون أن يقاطعهم عشرات المرات أو يعاملهم بوقاحة وعدوانية وصفاقة تحت اسم انتزاع الحئيئة منهن . لكن يؤسفني أن أقول ان التوفيق جانبه كثيرا في الحلقة الأخيرة من برنامجه خليك بالبيت التي استضاف فيها مفيد فوزي.

البداية كانت مثيرة وواعدة، ومنينا النفس بأننا سنري مباراة للديوك أو الردح التليفزيوني كما يحدث كثيرا في الاتجاه المعاكس حين يتنابز الضيوف الأشاوس بالألقاب الامبريالية والقومجية والتكفيرية. فقد سعي مذيع البرنامج ان يستكشف الحئيئة وراء المعركة التي اندلعت علي صفحات الجرائد بين مفيد فوزي والداعية الكوول جدا، الشيخ الشاب، ساحر الألباب، وفاتن عقول الشباب من المؤمنين والمؤمنات الأحباب: عمرو خالد. كل هذه الألقاب لم أخلعها عليه اعتباطا ولا نفاقا او تزلفا، فهي تأتي هنا في صميم الموضوع أو الخناقة الصحافية. فقد احتج عمرو خالد علي خبر نسب الي مفيد فوزي في صحيفة الحياة اتهم فيه مفيد عمرو بأنه يجيش الشباب . فياللهول؟! ولكن خاب أملي وأمل المشاهدين. فالمواجهة التي رتبها المذيع بين الرجلين لم تسفر عن شيء يذكر ولا ـ بوجه خاص ـ عن اجلاء الحئيئة .

فقد أنكر مفيد فوزي التهمة، وأرغد وأزبد ونفي تماما أي صلة له بالخبر المزعوم، وراح يطلق من جعبته تنويعة الألفاظ المستهلكة التي يستخدمها في طقاطيقه الصحافية من قبيل أتحدي.. وأنا قلت.. ولم أقل .. ولم يحدث.. ويستشهد بأدلة لا نعرف شيئا عن مصداقيتها كاتصاله بالصحيفة والاستعلام عن الصحافي الذي كتب الخبر وما الي ذلك. أول ما في الأمر أن الضيفين كانا مصممين علي ألا يتشاجرا، وبالأحري ألا يواجه أحدهما الآخر بالحئيئة . فعمرو خالد رجل يقطر بالتسامح والعفو والطيبة والغفران وسائر مكارم الأخلاق، وهو صاحب رسالة يريد من الناس جميعا ان يحبوا بعضهم البعض حتي أولئك الدانيماركيين الذين نشروا الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للاسلام حتي أنه أخذ علي عاتقه أن يسافر اليهم ليقنعهم بالحسني ويردهم عن غيهم، وربما اقناعهم بالتحول الي الاسلام في نهاية المطاف. وقد باءت مهمته بالفشل الذريع طبعا.

فرجل مثل هذا لن يرد الاساءة الا بالحسني وبالدعوات المباركات لمرتكبها ان يغفر الله له ما تقدم وما تأخر من اساءات. أما مفيد فوزي فهو آخر من يعترف بخطأ أو من يجرؤ علي مصارحة أحد برأيه الحقيقي فيه، الا اذا كان من الراحلين عن هذه الدنيا أو من المستضعفين في الأرض، يعني ليس نجما ولا نجمة ولا رجل سياسة او صاحب نفوذ ومال من الذين يولمون الولائم ويمدون السهرات والليالي الملاح لأهالي الفن والصحافة ومن لف لفهم من المرتزقة والمتنطعين والهبيشة. وهكذا انتهت المواجهة كحدث عربي أصيل، بتبويس اللحي والربت علي الأكتاف علي طريقة الزعماء العرب في القمم العربية الفاشلة. وتعاهد الاثنان من اجل نشر الخير والمحبة في ربوع المعمورة. أما أنتم يا مثيري الفتن ومروجي الشائعات: موتوا بغيظكم.

بعد ذلك كان لا بد للسهرة أن تمتد مع مفيد فوزي.
فمن هو السيد اللامفيد ؟ هذا رجل كل انجازه يتلخص في تلك الطقاطيق الصحافية التي كان يفبركها في مجلة صباح الخير تحت ادعاء النقد الفني وهي لم تكن لتخرج عن كونها دعايات مبطنة ـ وأحيانا مفضوحة ـ تصب كلها في خانة المجاملات والمداهنات التي تحكم علاقات الوسط الفني بالوسط الصحافي في مصر المحروسة. (هناك من يسميه باسم حركي في الوسط الفني هو مستفيد فوري ). وقد قضي الشطر الأعظم من حياته يروج لفنانين وفنانات بعينهم في مقدمتهم بالطبع عبد الحليم حافظ الذي نصب نفسه متحدثا باسمه ثم مؤرخا له بعد وفاته. يستذكر مفيد فوزي كلمة قالها له الكاتب الراحل أحمد بهاء الدين في مطلع شبابه أنت عندك معلومات بس معندكش أسلوب ، وللأسف الشديد وبسبب هذه النصيحة قرر الرجل أن يخترع لنفسه هذا الأسلوب اللزج الذي يقطر منه الادعاء والتنطع والطافح بأحكام قاطعة جامعة مانعة يطلقها كما لو انها أعمدة الحكمة السبعة. وانظروا ماذا قال عن بعض الفنانين والفنانات ردا علي أسئلة المذيع:

نانسي عجرم.. الجميلة البسكويتة ـ نبيلة عبيد .. بسكويتة من نوع آخر (ربما بسكويتة قديمة تيبست بفعل عمليات الشد والمط) ـ يسرا.. عود الحطب الذي أحبه ـ جورج قرداحي.. معجباني في جمال العطور. فلما استفسر منه المذيع ماذا يقصد قال بثقة العالم الفطحل أيوه طبعا لأني شميت عبد الحليم حافظ ! ألا يعتبر هذا اجتراحا فهذا يؤشر بمولد الناقد الشمام ؟ لا حول ولا قوة الا بالله. فاذا ما استعصي عليكم فهم هذه الأحجية حاولوا أن تفهموا ما قاله عن عبد الحليم خط الدفاع الأول: الفن، الثاني: الذكاء، الثالث: المرض أو حتي نقطة ضعف هذه الشخصية الفذة، تري ماذا عساها تكون؟ الأحذية، نعم لأنه كان فقيرا في صغره ولم يكن لديه حذاء، لذلك كثيرا ما تراه يتسكع امام واجهات محلات الأحذية من باب التأمل أو اشباع النهم الذي لا يرتوي للأحذية.
أما اللحظة التي تفوق فيها الرجل علي نفسه لزوجة وتنطعا فحانت حين جاء ذكر محمد حسنين هيكل، فاذا بالصحافي المخضرم ينتفض واقفا علي نحو هستيري حتي أن المذيع ظن أن ثعبانا لدغه أو اصابه مس ما، وحينما أخبره أنه انما يقف احتراما واجلالا واكبارا للصحافي الأستاذ ، شاركه زاهي وهبي للأسف هذا الهراء ووقف بدوره.

بث مباشر من مصطبة الجزيرة

لكنني راجعت نفسي بعد قليل من التأمل واكتشفت أن هناك ما يجمع بين الرجلين علي نحو ما. فهيكل هو الرجل الذي بلغ أوج شهرته وسطوته حين جسد نموذج صحافي السلطة الملاكي في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر من خلال مقاله الأسبوعي في الأهرام الذي كان يعنونه بصراحة . وهو الرجل الذي خلع عليه حواريوه وجوقة مريدوه ألقاب الفخامة والجلالة مثل الأستاذ و المفكر الكبير ، هاهو يتحول في نهاية العمر الي حكواتي ينفرد بالمشاهدين علي قناة الجزيرة لساعات، يروي لهم حكايات مهلهلة عن أيام زمان (لا تهم أحدا)، يقفز بين الأشخاص والأحداث دون رابط أو ضابط ويضيع في التفاصيل وتضيع منه خيوط الحكاية، والمشاهدون، أو من تبقي منهم لم يغلبه النعاس أو يغير القناة حبذا لو أغلق التليفزيون أو حتي ألقي به من النافذة.

والمسألة في النهاية لا تخرج عن كونها جلسات طق حنك علي الطريقة اللبنانية، أو قعدات المصطبة في الريف المصري التي كان يحلو للرئيس المصري الراحل أنور السادات ان يستحضرها في أحاديثه التليفزيونية والتي لاشك يعرفها هيكل جيدا بحكم اصوله الريفية، يتكلم فيها الرجل علي هواه بلا توقف دون أن يراجعه أو يناقشه أحد. ولا يحسبن أحدكم أن انفراد هيكل بالمشاهدين محض صدفة، كلا بالطبع فهذا المشهد التليفزيوني الفاشل ليس سوي التعبير الفاضح عن البارانويا التي يعيشها الأستاذ ، فهو لا يقبل أبدا أن يظهر علي الشاشة في مواجهة أي صحافي آخر، ومن تراه هذا الشخص الذي يمكن ان يقارع الرجل الذي عقمت بطون الأمهات ان يلدن مثله.

ربما الاستثناء الوحيد هو أن يكون صحافيا أو متحدثا خواجة من بلاد الفرنجة، مثل ريتشارد هاس الذي ظهر معه هيكل في برنامج واحد علي قناة الحزيرة انترناشيونال. اما الصحافيون العرب فالعلاقة الوحيدة التي تربطه بأي منهم هي أن يكونوا من مريديه والمسبحين بأفضاله ونعمائه واياديه البيضاء علي الأمة العربية. الطامة الكبري لا تقف عن حدود نقل تقاليد المصطبة لشاشة التليفزيون في اجتراح فذ يؤكد تلاحم الأصالة والمعاصرة واستيعاب الثقافة الشعبية لتحديات الحداثة، ولا فيما يتلوه الرجل من حواديت مملة، مشتتة ومهلهلة لا تهم أحدا، بل فيما لا يقوله. فمن المستحيل ان تجده يتناول الأوضاع السياسية الحالية في مصر بالنقد المباشر، وهو لا يمكن ان يطال أعمدة النظام أو مراكز القوة فيه بكلمة سوء واحدة. ولا يضيع الفرصة اذا ما واتته في ان يبعث برسائل تدليك مشاعر مغلفة بعبارات لزجة وملتبسة جدا (وهي صفة أخري تجمعه بمفيد فوزي) لرأس النظام أو الوريث المرتقب، حتي لا يمس النظام الهيكل المقدس الذي شيده لنفسه ليتعبد فيه مريدوه وخلصاؤه من أتباع الديانة الهيكلية المزيفة.

فأي نوع من البرامج التليفزيونية هذا؟ وهل أعيت الجزيرة الحيل ولم تجد شيئا لتعبئة الهواء به أفضل من هذا المونولوج الطويل المتثائب الممل؟ أليس في مكتبة الجزيرة اي أفلام لميكي ماوس، أو توم اند جيري، أو اعلانات منظفات صناعية، او حتي أغنية لهيفاء وهبي؟
أقترح علي الجزيرة أن تغير البرومو للبرنامج فيصبح مثلا مع هيكل.. علي المصطبة أو ان تنوه المذيعة بموعد البرنامج قائلة وألان ننتقل الي استديوهاتنا في المصطبة، مع بث مباشر من المقر الرئيسي لصاحب المصطبة الأستاذ وحيد عصره وفريد زمانه في حوار بينه وبين نفسه ، وأن ترفق التنويه بتحذير معنون باللون الأحمر يقول ان الجزيرة غير مسؤولة عن أي أعراض قد تصيب المشاهدين من جراء متابعة جلسات المصطبة، وعلي المتضرر عدم اللجوء للقضاء، لأن القضاء هو الأستاذ نفسه والقدر أن تشاهدوه رغما عن أنوفكم.

واذا اعتقد أحد أن الطامة تكمن في كونه يترك وحده ينفرد بالميكروفون فيتوه وحيدا ويتيه فخرا بحواديته، فهو مخطيء حقا، اذ يكفي أن تشاهد حواره الطويل المستطيل مع محمد كريشان. يستحيل ان يبدأ الرجل فكرة ويكملها، بل يقفز من جمل مبتورة وعبارات متقاطعة حتي أن المذيع بالغ التهذيب والرقة لا يجد بدا من ايقافه بلباقة ليرده عن الشطط أو المضي في طريق لولبي من الحواديت الناقصة المتناسلة. كان الله في عون محمد كريشان. في الوجه الآخر للصورة، نجد مفيد فوزي الذي كان طوال حياته حكواتي الفنانين والفنانات في الصحافة والتليفزيون، وهو الآن وقد امتد به مشوار العمر يستعير عباءة المفكر ويتبختر في اهاب الفيلسوف فيطلق الأحكام القاطعة الجامعة المانعة، ويلقي بها الينا كما لو كانت أقوالا مأثورة لكونفوشيوس أو سقراط زمانه، من نفس نوعية الطقاطيق القديمة، وهذا بعض ما جادت به قريحته الفيلسوفة في البرنامج:

المطرب: صيغة. المفكر: وجهة نظر. الكاتب: أسلوب، المذيع: أسلوب.
وهكذا انتهي هيكل من حيث بدأ مفيد فوزي، مع فارق اساسي أن مفيد فوزي يكون مسليا بعض الأحيان، مستفزا، باعثا علي الاشمئناط، والاستياء والقرف.. معظم الأحيان.

ان استمرار هذه الشخصيات المتحفية في لعب دور حتي الآن هو دليل فاضح علي تدهور ثقافة مولعة بصنع وتمجيد أبطال، أكل عليهم الزمن وشرب، وتجاوزتهم الأحداث ومع ذلك لايزالون يرددون مقولاتهم المهترئة.

ناقد من مصر يقيم في امريكا
عن القدس العربي