مي الياس من بيروت: على غير العادة كان أوتوستراد الدورة شبه خال الليلة، ونحن نسلكه بإتجاه مركز البيال في وسط بيروت، حيث الموعد مع السيدة فيروز في مسرحية "صح النوم" التي تعود بها الى خشبة المسرح بعد غياب جاوز الخمسة وثلاثون عاماً. أخذنا الطريق البحرية، وهي الطريق الوحيدة السالكة بذاك الإتجاه، ولدى إقترابنا من وجهتنا، فوجئنا بزحمة سير خانقة، قافلة مؤلفة من مئات السيارات تتقدم ببطء شديد. توقعنا في البداية أن تكون هذه القافلة تابعة للمعتصمين في الوسط التجاري، لكن سرعان ما إتضح بأن الوجهة لم تكن ساحة رياض الصلح، أو ساحة الشهداء، وإنما الى مركز البيال.
وكأن هذا الجمهور الغفير أراد إيصال رسالة لولاة لبنان بكل أطيافهم مفادها: " نريد أن نحيا... فقد مللنا الهتافات، والشعارات، والإعتصامات التي لا تنتهي، وقرع طبول الحرب الكلامية المشحونة بالطائفية".
أختلفوا على كل شيء واجتمعوا على حب فيروز
كانت الساعة تقارب السابعة وخمسون دقيقة، وتفصلنا عشر دقائق فقط عن موعد بداية العرض، ولكن لا يبدو بأننا سنصل في الموعد.
وعلى الرغم من معرفتنا بأن السيدة فيروز لا يمكن أن تاخر موعد بدء أي عرض من عروضها، الا أننا كنا واثقون بأنها اليوم ستنتظر هذه الجموع التي جازفت بالخروج في ظروف مشحونة كهذه للقاءها.
عندما وصلنا أخيراً، كانت الساعة قرابة الثامنة والثلث، أي قضينا أكثر من 30 دقيقة لنقطع مسافة لا تتجاوز 5 كيلومترات، البعض ترك سياراته في مواقف بعيدة وقرر أن يسلك الطريق المتبقية سيراً على الأقدام ليتجنب هذه الزحمة ويصل أسرع.
مدخل البيال كان مكتضاً كذلك، باب واحد فقط على هذه الجموع ان تجتازه وسط حراسة أمنية مشددة، وبعد تفتيش الحقائب، مررنا بجهاز كشف المعادن، استغرقنا الأمر عشر دقائق أخرى لنتمكن من إجتياز الباب، ونتخذ مقاعدنا بإنتظار بدء العرض.
آلاف اللبنانيين من كل الأعمار والأجناس والملل، أصغرهم ربما كان طفل في الحادية عشر من عمره يدعى مكرم، شاهدته يقف مع والديه وشقيقه ممسكاً ببطاقته بحرص وسعادة شديدين.
مكرم يعشق فيروز، ويمتلك مجموعة من أفلامها ومسرحياتها، ويحب أغنياتها، وأمنيته في الحياة أن يراها، وها هو قاب قوسين أو أدنى من تحقيق هذه الأمنية.
إتخذنا مقاعدنا وبدء العرض قرابة التاسعة مساءاً، كانت الصالة مكتضة بكامل سعتها بالحضور.
كم تمنيت لو إحتلت قرنفل كرسي الوالي الى لأبد!
تصدح موسيقى الرحابنة معلنة بداية المسرحية، وتقابل السيدة فيروز بعاصفة هادرة من التصفيق والصفير، بمجرد أن تواجه الجمهور.
تحمل شمسيتها 6 اشهر بانتظار ختم الوالي
في هذا اليوم, ينتظر أهل الولاية أن يستيقظ الوالي من نومته الطويلة التي إستمرت شهراً. فالقمر صار بدراً، وآن الأوان لكي ينزل الوالي من قصر النوم، ويقابل رعيته، ليضع ختمه الكريم على ثلاثة أوراق فقط، من طلبات الأهالي قبل أن يتعب ويعود إلى نومه لشهر آخر.
في هذه الولاية لا يمكن إنجاز شيء بدون ختم الوالي، لذلك كانت حياة الأهالي كلهم معلقة بإنتظار الحصول على ختمه، وقرنفل (فيروز) الفتاة الصالحة البسيطة، التي تحارب الظلم، بصوتها الأسطوري، وحوارها الظريف، وتصرفاتها المشاكسة، لا تزال تنتظر منذ ستة أشهر أن يختم طلبها ولكن دون جدوى، فسقف بيتها قد تهدم، وهي تعيش تحت الشمسية، غير قادرة على إصلاح السقف بدون ختم الوالي.
صبرها قد نفذ، وجدالها مع زيدون المستشار كان كمن يجادل حائطاً أصماً.
يختار الوالي ثلاث أوراق فقط كما هو منتظر، وختمه لم يمهر سوى الطلبات التي يستفيد هو شخصياً منها، إما بهدية او مصلحة من نوع ما.
قرنفل خائفة بعد تورطها بسرقة ختم الوالي
يداعب النسيم وجهه فيشعر بالنعاس، فيقرر أن ينام في مكانه في الساحة، يأمر المستشار أتباعه أن يخلوا المكان من الأهالي، لينام الوالي بدون منغصات.
ويستغرق في النوم دون أن يختم طلب قرنفل، التي نسيها أتباع الوالي، والتي ستكون عرضة للبرد والمطر بدون السقف. فتقرر سرقة الختم لتختم طلبها بنفسها، وعندما تنجح في سرقته، لا تختم طلبها فحسب، بل كل الطلبات المنتظرة، ما عدا طلب شاكر الكندرجي الذي لم يسلمها حذاءها الذي أوصته عليه منذ ثلاثة أشهر. وبما أنها لم تكن قادرة على إعادة الختم إلى مكانه، ترميه في بئر مهجور.
وبختمها لكل الطلبات، يسود جو من البهجة والنشاط، ويتم إنجاز الكثير من الأعمال المتوقفة دفعة واحدة فتتغير معالم الساحة للأفضل والأجمل.
لا تصل مع المستشار الى نتيجة
وكم تمنيت وأنا أتابع هذا المشهد "أن تبقى قرنفل في كرسي الوالي الى الأبد، فهي من الناس وقلبها على الناس، وتستعمل السلطة المتاحة لها بإمتلاكها للختم في خدمتهم".
مر شهر آخر، والوالي سيفيق من جديد، حاولت قرنفل إقناع الآخرين بأن يتركوه نائماً, لخوفها من كشف سرقتها، لكنهم أصروا على إيقاظه، لكي يرى ما تم إنجازه خلال الشهر الفائت.
يستيقظ الوالي ويصدم من التغيير الكبير الذي حل بالساحة خلال نومه، ويكتشف سرقة الختم.
ولا يتطلب الأمر سوى استجواب قصير لقرنفل، لتعترف بفعلتها، يطلب الناس الرحمة لها، فقد قدمت لهم خدمة عظيمة، لكن الوالي يصر على معاقبتها عقوبة غريبة، وهي أن تربط على فرس وحشية،وتترك لتهيم على وجهها لبقية عمرها.
تتخلص من الختم برميه في البئر المهجور
لكن رئيس الدرك يعجز عن تنفيذ أمر الوالي، لأن هذا الأمر يحتاج أيضاً للختم كي يعمل به. والوالي لم يعد يملك الختم فتتعطل السلطة، وتصاب بشلل تام. يرفض العامة طلب الوالي في البحث عن الختم، لأنهم إن وجدوه فهم يساعدونه على تنفيذ حكمه بقرنفل.
ويخشى الوالي على رقبته ان نام، بعد ان سرق الختم من صندوق مغلق يعلق مفتاحه في رقبته. ويصبح مصير قرنفل ومصير الوالي مرتبطاً بالختم المفقود.
الصورة لم تتغير منذ 35 عاماً
وعلى الرغم من مرور 35 عاماً على عرض هذه المسرحية للمرة الأولى، الا انها بدون شك لم تخلو رغم بساطتها وطرافتها من إسقاطات سياسية واجتماعية تتماشى مع الوضع الحالي.
فقد صفق الحضور طويلا مثلاً لجملة قيلت على لسان الوالي مفادها "من حق الشعب ان يصرخ ويعبر، فهو يملك الحق في حرية التعبير، ومن حق السلطة أيضاً أن تغلق آذانها على صراخهم".
إعتصام في حب فيروز
لدى إنتهاء العرض وقف الحضور جميعاً يصفقون ويهتفون بأعلى صوتهم، بحماسة قل نظيرها، حتى بدت فيروز تلك اللحظة هي الزعيم الموحد الحقيقي في هذا البلد الممزق والمنقسم بين عدة زعامات.
بعد أن حيت الجمهور، غادرت المسرح، لكن الحضور رفضوا المغادرة، وبقوا بالقرب من خشبة المسرح، لأكثر من ربع ساعة، عيونهم معلقة على المدخل، يصفقون ويهتفون ويصرخون "فيروز... فيروز" أملاً في ان تطل مجدداً ليكحلوا أبصارهم برؤيتها مرة أخيرة، قبل ان تعود الى صومعتها التي تحجبها عن الناس، وتنقطع أخبارها عنهم من جديد.
نقلا عن إيلاف