قبل قليل عُدتُ من الخارج بعد أن أمضيتُ حوالي الساعة أمشي والأفكار تتطاحنُ في رأسي، فكرة تتلوها فكرة، كُلُّها تطرحُ السؤال الذي أرّقني كثيرا...

لماذا نغترب؟

وهنا أطرحُ السؤال على كُلّ مُغترب....

أنا أتحدّثُ عن نفسي وفلسفتي الخاصة في هذا الشأن ... أنا كشاب في مُقتبل العمر، لم يملك من الخبرة في حياة البالغين سوى شهور قليلة جدا لم تصل السنة بعد، إلا أنني اكتشفتُ مدى ضيق الأفق الذي كنت من خلاله أرى الحياة وأعيشُها قبل أن أبدأ رحلة الاعتماد على النّفس ... في الماضي كان يكفيني كل أسبوع أن أستلم مصروفي من والدي (أمتعنا الله به) وأمضي إلى الجامعة، فالمنزل أحيانا أو بيت أحد أصدقائي أو أي مكان قد يذهبُ إليه شاب مراهق باحثا عن المُتعة والتسلية مع مجموعة من أمثاله...

إنتهت تلك الأيام التي كنتُ مُتلهّفاً للتخلُّصِ منها بسبب شعورٍ نابعٍ من أعماقي بحاجتي إلى الاعتماد إلى نفسي والبدء بالعيش كإنسان راشد، أو كما أحبُّ تسميته "رجل" ... كان حظّي أفضل بكثير من معظم أترابي ورفقاء دراستي، حيثُ وقّعتُ أوّل عقود عملي وأنا لا أزال على مقاعد الدراسة أقدّمُ الامتحانات النهائية للفصل الأخير في الجامعة، ولم يمضِ وقتٌ طويلٌ حتى انخرطت في العمل الجديد، وتذوّقتُ حلاوة الاعتماد على النّفس والمعاملات التي يحظى بها المرء الرّاشد، ورغمَ كل الصعوبات التي واجهتُها مثل رحلة الساعتين صباحا وساعتين مساءا من وإلى العمل، أو وصولي إلى المنزل خائر القوى، أو عدم اكتفائي من ساعات النوم القليلة التي كنتُ أحظى بها كل ليلة، إلا أنّ الابتسامة ما فارقتني يوما، ولا زلتُ أذكُرُ صقوس كل يوم التي عوّدتُ جميع زُملائي في العمل القايم بها كل صباح وظهر ومساء قبل انتهاء الدوام ... بالمُختصر، كانت تجربة أقل ما يمكن القول عنها بأنها رائعة وتربوية...

نقطةُ التحوّل كانت عند تفاجئي بعرض العمل الذي وصلني من شركة كنتُ أحلم بالعمل معها أيّام الجامعة، وكان عرضا مُستعجلا نظرا لحاجة تلك الشركة إلى من يتولّى خدمات الدعم التقني حيثُ كان المسؤول عن ذلك قد استقال فجأة ودون سابق إنذار، فكان الإلحاح من هنا وهناك، من الناس من أخبرني أن عرض العمل غيرٌ كافٍ ولا يجدر بي القبول به، ومنهم من قال لي أنه عرضٌ كافٍ لبداية متواضعة وإذا صبرت فلن يطول بي الأمر حتى أرتقي مهنيا وماديا خصوصا للسمعة العالية التي تحظى بها الإمارات بشكل عام ودبي بشكل خاص في هذا المجال ...

قبلتُ بسبب فكرة واحدة، ألا وهي أنني قستُ الراتب في الإمارات بالدينار الأردني، وأخذتُ في الاعتبار مستوى المعيشة في الأردن لا الإمارات!!! وهو خطأ شائع جدا، وكان هدفي (ولا زال) مساعدة ذلك الشيخ الكبير الذي ربّاني وعلّمني، وتلك الشيخة الكبيرة التي حنت علي في السرّاء والضرّاء، وقبلُ العرض بعد تردُّدٍ كبير، وسافرتُ على عجالة لأبدأ مرحلة جديدة في حياتي القصيرة لا أدري بماذا أصفها أو كيف أحكيها....

أكادُ أنهي الشهر الثامن من حياتي في الإمارات، ولا زلتُ أتساءل عن السبب الذي يدفعُ الناس للاغتراب؟؟؟؟

أنا عن نفسي أرى أن توافر أساسيات الحياة (التي أضعها في اعتباري الخاص) سبب وجيهٌ جدا للتمسُّك بالوطن وعدم الابتعاد عنه ولو شبرا واحدا، تلك الأساسيات ألخصُها بالتالي:
أولا: المسكنُ الذي يقي حرّ الصيف وبرد الشتاء وتطفّل البشر
ثانيا: المأكل والمشرب
ثالثا: الملبس
رابعا: التفاعل مع البشر

أربعة لا خامس لهم بالنّسبة لي، والباقي مجرّدُ كماليات حياتيّة بالنّسبة لي!!! قد يرى البعضُ مدى السطحية في التفكير وضيق الأفق فيما ذكرتُ أعلاه، إلا أنني أتحدّثُ عن الأساسيات أو كما تُوصف في الإنجليزية "The Very Basics"...

طيّب الآن أنظُرُ من حولي وأقارن ما كان في الماضي غير البعيد، فأجدُ تماثلا بينهما، لا بل أنني هنا لا أملكُ النُّقطة الرابعة ألا وهي التفاعل مع البشر إلا في نطاق العمل فقط لا غير، أما بعد العمل فهي مجرّد سويعات مع ابن عمي الذي أعمل معه في نفس الشركة وصديقي الذي أعيش معه في نفس المنزل!!!! طيّب ماذا جنيتُ من كل هذا؟ ... قد يقول البعض "الخبرة" ولكن الخبرة هي نفسُها سواء هنا أو هناك، حتى أن بيّاع الخضرة عنده خبرة في الخضار والطبيب عنده خبرة في الطّب، بالتالي تلك الحواجز الاجتماعية الزائفة والطبقية العفنة التي نراها في مُجتمعاتنا لا معنى لها أبدا ... وقد يقول البعض "الحياة الأفضل" وهذا ما يُثير حنقي وغضبي!!! هل العيشُ وحيدا في مُجتمعٍ غريب ذي عادات وتقاليد مُختلفة، ومُجتمع لا يعرفُ فيه الجارُ جاره حياةٌ أفضل؟؟؟؟؟؟، وهل الأكل في مطاعم فارهة مُختلفٌ كثيرا عن الأكل في مطعم "أبو جبارة" سوى في أن على المرء الانتباه إلى كُلّ حركة تصدر منه مما يُضيع الارتياح والمُتعة؟؟؟ .... وكثير من تلك المُقارنات التي أراها "شخصيّا" مجرد حجج فارغة من المعنى الحقيقي للحياة....

هل سأل أحدكم نفسه/ها "لماذا أغترب"؟؟؟؟؟؟

تحياتي وأشواقي الحارّة :redrose: