أقلام عربية



الزعيم.. الضحية!!



فتحي خطاب- مصر

الذين يتحدثون عن انتهاكات حقوق الانسان ابان فترة حكم صدام حسين, ربما لا يعلمون ماذا يحدث في العراق بعد السطو المسلح الامريكي, ولا يقدرون حجم الكارثة التي حلت بالمواطن العراقي

الرسالة القذرة اللاانسانية-مثل اصحابها-قد وصلت للامة صباح يوم عيد الاضحى!! وقبل ان يبادر المسلمون الى ذبح الاضاحي تقربا الى الله عز وجل, بادرت امريكا ومجموعة اعوانها, باعدام الرئيس العراقي الاسير صدام حسين-رحمه الله-واللعنة على المنفذين وعلى الصامتين!!

وتبقى قصة الزعيم العراقي صدام حسين, هي احدى القصص المكررة التي يتم تصديرها الى عقولنا.. والغريب والمؤسف اننا نقرأ ونستمتع بما يقولون, بل ونتولى عنهم بعد ذلك تسويق ما يريدون ترويجه, واحيانا كثيرة نضيف فصولا حتى يثبت البعض منا انه على قدر كبير من الوعي, وثقافة الاحداث, والتحليل السياسي!! ثم يبدأ المهرجان العربي بالافتاء والقول عن وقائع واحداث تدين زعيماً عربياً او اخر بالديكتاتورية والوحشية الدموية.. ونقول-غالباً-سمعنا كذا وكذا عن كل ما حدث وهو كثيرا!!

او نستند في الادعاء بثقافة الشؤون الجارية-على ما يقول به المعارضون لذلك الزعيم او غيره.. ولا نلتفت الى قاعدة شرعية تقول ان هناك رواة مشكوك اساسا في اسانيدهم, وان الاحاديث الباطلة تفوق عشرات المرات الاحاديث الصحيحة!!

ولا ندري متى نضمن لكلامنا اكبر قدر ممكن من الانصاف والموضوعية?!

وهذه القصة-المكررة-بدأت فصولها في مصر مع بدايات عام 1972 وبعد سنوات اكتشفت الغالبية اننا كنا ضحية ضلال وتضليل اعلامي مقصود بهدف التشويه, واغتيال الرمز في حياة الشعوب. واصبحنا نتحسر على هذه الايام التي انهالت عليها الاتهامات ومزاعم المشكوك في ذمتهم!! ورغم ان حملة الترويج لما يقولون به كانت قوية, وملابساتها كانت محيرة, وهذه نقطة مهمة كانت تستحق بعض الافاضة-ولكن اليس غريبا ان كل زعيم عربي يقول »لا« في وجه امريكا.. ويرفض ارتداء ثوب الغرب بثقافته الاقتصادية.. ويعلن رفضه لوجود الكيان الاسرائيلي.. فهو دموي, قاتل, يبطش بشعبه, ويعشق الدماء والتعذيب بقدر عشقه لذاته!!

اليس في هذا ما يدعونا الى التفكير?!

ام انه منطق العصر, وبمقدار ما يقول به الشاعر الكبير الراحل عبدالرحمن الشرقاوي: انه عصر يكرم فيه يهوذا, ويضطهد المسيح?!

او ربما يريدون لنا كل الخير بأن تحكمنا ملائكة لا تعرف الاخطاء!! او ربما كان الزعماء العرب بالفعل ملائكة معتدلين وباستثناء من يحل عليهم الغضب الامريكي والاستياء الاسرائيلي!! وبمعنى ان الديكتاتورية الدموية هي من نصيب زعيم او اثنين على اكثر تقدير?! والغريب والمؤسف ان البعض منا ولاسباب نفسية او نوازع مادية وعلى اختلاف النوايا والاساليب-يتولون التصديق على كل ما يقال حتى يترسخ كالحقيقة!! ومن دون ان نضع هذه الاحكام على ميزان العقل والمنطق او حتى الاحتكام الى حسابات الانجازات!

وقيل ايضاً-ضمن فصول القصة المكررة-ان الرئيس العراقي قاد حملة المقاطعة العربية لمصر!! ورغم ان وقائع التاريخ القريب تقول انه بعد زيارة السادات الى اسرائيل في 19 تشرين ثاني عام ,1977 سعى القذافي لتأسيس جبهة عربية ضد المخططات الصهيونية في المنطقة »جبهة الصمود والتصدي« والتي ضمت سورية والعراق ومنظمة التحرير الفلسطينية وعقدت اول قمة لها في طرابلس في اوائل كانون اول 1977 وقررت تجميد العلاقات مع مصر واستطاعت ان تدفع اعضاء جامعة الدول العربية لعزل مصر عن الجامعة ونقل مقرها الى تونس, واصبح جواز السفر الليبي يجيز السفر الى اي بلد في العالم الا مصر!!

اما الاوضاع الداخلية في العراق, فقد كانت ترسم صورة مقروءة للمواطن البسيط: من الامن الداخلي, ووحدة تراب الوطن العراقي, واستقرار الاسواق, ووظيفة لكل مواطن, وحتى ان العراق كان مستوعباً للملايين من العمالة العربية, والنسبة الاكبر-بالطبع-كانت لمصر, وتجاوزت الاعداد »4« ملايين مصري في عام ,1985 وحسب تقديرات القائم بالاعمال المصري في العراق-وقتئذ-وكانت تعليمات صدام حسين »للمؤسسات العامة العراقية بالاستيراد من مصر اولاً في حال توافر ما يحتاجه العراق.. ورغم احتجاج المؤسسة العامة للسيارات العراقية - على سبيل المثال - على عيوب وتدني مواصفات السيارة 128 »المصرية« كان الرد: ان هذه تعليمات القيادة السياسية.. مصر اولاً-وهذه القضية عايشت تفصيلاتها عن قرب!!

ونحن لا نقول ان الرئيس العراقي-رحمه الله-كان حكيما في كل تصرفاته وممارساته, فالملائكة لا يسكنون الارض.. ولكن علينا عدم التركيز على جزء من الحقيقة, وان نغفل اجزاء اخرى, وان نتجاهل مثلاً ان العراق جغرافية معقدة بتشكيلاتها العرقية والمذهبية, وان مواريث النزاعات والصراعات والتقسيمات كامنة تحت الارض, لا تسيطر عليها الا قبضة نظام حكم قوي.. ونحن لا نبرر اية انتهاكات او مواجهات دموية, ولكن ماذا كان يفعل رئيس اي دولة على خارطة العالم تجاه النزعات الانفصالية العرقية والمذهبية لتفتيت وحدة الوطن? وكيف كان يواجه حركات التمرد وانتفاضات التقسيم العرقي او المذهبي المدعومة من جهات خارجية ولاسباب لا تخفى على احد?! والتساؤال هنا قد يبدو ساذجا في مواجة المنطق المجرد!! والذين يتحدثون عن انتهاكات حقوق الانسان ابان فترة حكم صدام حسين, ربما لا يعلمون ماذا يحدث في العراق بعد السطو المسلح الامريكي, وربما لا يقدرون حجم الكارثة التي حلت بالمواطن العراقي!!!.

وهناك قضايا وازمات ووقائع لها ملابساتها وظروفها واجواؤها, وهناك ايضا من عايشها وكشف اسبابها - ونكرر - نحن لا نبرر اية انتهاكات او مواجهات دموية... ولكن ما يهمنا هنا, مجرد التفاته الى شخصية الرئس العراقي الشرعي لوطن محتل والذي تم اعدامه يوم عيد الاضحى - وهي صورة ترسمها كلمات مواطن عراقي كردي عمل مترجما خاصا للرئيس العراقي »وبالطبع كان امام الرجل ان يقول كلاما آخر بعد سقوط النظام وبعد ان اصبح الخوف على الحياة والمستقبل يفرض ضرورة الصمت او قولا يرضي سلطات الاحتلال واعوانهم«.. يقول د. سامان عبد المجيد:

منذ بداية عملي مع الرئيس صدام حسين عام 1987 لمست في كلامه وتصرفاته شيئا من التقوى.. وفي السنين الاخيرة ازداد التصاقه بالدين اكثر واكثر, واصبح يقرن كلامه بآيات قرآنية بشكل دائم وهذا واضح حتى في خطاباته الرسمية.. وكوني عراقيا ايضا كنت اسمع من الناس ان صدام حسين يحب شرب الويسكي ولا يتناول الا افخر الماركات, وعلى حد علمي كان تناول الخمور عنده شيئا ممقوتا وغير وارد اطلاقا, ولم اشاهده في حياتي يتناول خمرا, وكان يقيم الصلاة في مواعيدها, وحتى في وجود ضيوف اجانب كان يعتذر منهم عندما يحين وقت الصلاة ويذهب الى غرفة اخرى ويعود بعد عشر دقائق... في الحقيقة كان صدام حسين الانسان, شخصا في منتهى الرقة معي ومع الآخرين, وعلى مدى الخمس عشرة سنة التي عملت فيها معه لم اره منزعجا ويوجه كلاما غاضبا لاحد الا نادرا جدا, وكان اثناء وبعد اللقاءات مع المبعوثين الاجانب التي احضرها كمترجم يبدو انسانا دمث الخلق ولطيفا وكثير النكات مع الموظفين بمن فيهم من كان يقدم له الشاي والقهوة.

ويقول الرجل: ان صدام حسين لم يكن منحازا للسنة العرب على حساب غيرهم من طوائف الشعب العراقي, ولم يكن يميز بين المواطنين على اساس ديني او عرقي, ولكن كان المعيار الوحيد عنده هو معيار الولاء أيا كان الانتماء العرقي او الديني, ومثلا رئيس الحرس الخاص لصدام حتى عام 1989 كان كرديا اسمه صباح ميرزا وعندما استبدل كان ذلك لاسباب صحية لاصابته بمرض السكر, كما انني كنت كرديا عراقيا واعمل مترجما خاصا له منذ 1987 وحتى سقوط النظام, وكان محيي الدين معروف الكردي ايضا نائبا للرئيس, والدكتور سعدون حمادي وهو شيعي رئيسا للبرلمان العراقي, ومحمد سعيد الصحاف الشيعي وزيرا للاعلام, كما كان طارق عزيز مسيحيا عراقيا.

وتبقى مشكلة صدام حسين والتي اثارت حوله الثيران الهائجة انه كان - حسب تعبير د. سامان الكردي - مهووسا بالتاريخ العربي والاسلامي, ومؤمنا بفكرة الوحدة العربية, وكان يتسم بالرومانسية الثورية بصورة مفرطة, وكان يؤمن بقيم غير قابلة للتطبيق.. ثم تبقى القضية الاكثر تعقيدا واكثر اثارة للثيران الهائجة انه كان صادقا في دفاعه عن القضية الفلسطينية وعدائه لاسرائيل!! ويروي د. »سامان« واقعة شهدها بنفسه اثناء عمله مترجما للرئيس العراقي عام 1995 وكان العراق يعيش ظروفا اقتصادية صعبة جراء الحصار, وفي هذه الاثناء زار بغداد مبعوث من الفاتيكان, والتقى صدام وسلمه رسالة من البابا يوحنا بولس الثاني, وقدم افكارا تتضمن تطبيع العلاقات مع اسرائيل مقابل رفع الحصار عن العراق.... وغضب صدام جدا وخرج عن دبلوماسيته, وتكلم بعبارات قاسية عقب سماعه هذا الاقتراح, واكد للمبعوث البابوي ان العراق لا يغير مواقفه او مبادئه من اجل رغيف خبز.

ولكن ... ماذا نقول... انه عصر يكرم فيه يهوذا ويضطهد المسيح