عاشت شعوبنا لقرون حياة ذل وعبودية، حينا تحت سياط خلفاء جبارين وأحيانا أخرى تحت جزمة العساكر الانقلابيين والطغاة والدكتاتوريين حتى أصبحت الشعوب الوحيدة في هذا العالم التي يستعصي عليها التطور والاصلاح.

ظلت هذه الشعوب خانعة خاضعة لا تعرف إلا كلمة نعم تقولها باستسلام مخز لجلاديها بدعوى "عدم اثارة الفتنة". ألم تردد هذه الشعوب بشكل ببغاوي مثير للعجب أحاديث مزورة تدعو الى عدم الخروج على الحاكم حتى "لو جلد ظهرك وسرق مالك وهتك عرضك"، بينما كان النبي يقول: "أقل الجهاد قول كلمة حق في حضرة سلطان جائر"؟

لا أريد أن أنبش التاريخ، وأكتفي بالحديث عن واقعنا الراهن، عن هذه الشعوب البئيسة التعيسة التي لا تعرف معنى الكرامة الإنسانية والحياة الكريمة، فأحرى أن تعرف معنى الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان وسيادة القانون؟

هذه الشعوب لا تعرف سوى تقبيل يد الحاكم والتذلل اليه والتوسل به وقبول عطاياه تلك المسماة "مكرمة" لأنها مجرد رعايا لا مواطنين، وعبيد لا أسياد في أوطانها المبتلاة بالطغيان والاستبداد.

هذه الشعوب هي التي تذرف الدموع اليوم على صدام حسين الذي فتح أبواب العراق للمحتل الأمريكي وهرب الى تلك الحفرة الحقيرة طلبا للنجاة، كما ذرفت الدموع من قبل على "قائد" هزيمة حزيران 1967 و"بائع الجولان" و"عميل السي أي أيه والموساد" وغيرهم ممن ظلوا يجلدون بسياطهم ظهور الملايين دون أن نسمع منها كلمة توجع.

هذه الشعوب الغارقة في مستنقع الطائفية والصراع المذهبي والعنصري المقيت لا مستقبل لها لأنها ببساطة شعوب غير جديرة بالحياة، وإن عاشت فانها ستظل عالة على الإنسانية، لا قيمة لها ولا اعتبار.

لم تقل هذه الشعوب كيف تبخرت الملايين العشرة من البعثيين الذين حكموا العراق على مدى 35 عاما ومعها "جيش القدس" العقائدي؟

وأين احتفى جيش المليون الذي حارب ايران وغزا الكويت ورش الأكراد بالغازات الكيمياوية؟

ولم تسأل كيف يمكن لـ "رئيس العراق الشرعي" أن يفر هاربا ويترك العراق أرضا مباحة أمام الدبابات الأمريكية؟

لكن لسانها انفلت من عقاله مرة واحدة حين أخرج الأمريكيون "بطل التحرير القومي" من جحره وهو أذل من جرذ، معتبرين ما حصل له "اهانة للعرب والمسلمين"، دون أن يفسروا لنا ما هي أسباب شعورهم بهذه الاهانة.

وانطلقت ألسنتهم مرة أخرى حين تشكلت المحكمة الجنائية، ليصرخوا بصوت واحد: "أمريكية .. أمريكية" وكأن القضاة الذين تناوبوا عليها هبطوا من كوكب آخر، وها هم يصرخون اليوم بالصوت نفسه: "لماذا توقيت الاعدام في عيد الأضحى"؟

ظل الطاغية يسفك دم العراقيين بشكل روتيني ومنظم كل ساعة وكل يوم وكل رمضان وكل عيد طيلة 35 عاما، ولم نسمع صوت أحد من الذين يتباكون الآن عليه يحتج أو يستنكر.

عجبي !! هل تذكروا العيد الآن .. أم هي الأعماق المملوءة حقدا أصفر قد طفحت بما في دواخلها؟

صحيح ان حكام العراق الأغبياء وبينهم طائفيون مكشوفون لم يراعوا حرمة الموت، واختاروا يوما مقدسا لملايين المسلمين لتنفيذ حكم الاعدام.
وصحيح ان صدام لم يهتز أمام حبل المشنقة وكان أرفع مستوى من أصحاب الهتافات المهينة لهم قبل غيرهم، لكن هل يعني ذلك "غسل الرجل من أدرانه" ونسيان جرائمه وما تسبب به من فواجع وآلام لملايين العراقيين؟

هل يعني ذلك نسيان الحروب العبثية والقتل بالجملة وسرقة ثروة العراق النفطية من أفواه جياع العراق ليملأ بها جيوب المرتزقة والآفاقين والمصفقين في كل أرجاء المعمورة؟

ليس بريئا أن يتباكى أشباه الرجال على الطاغية متذرعين بالعيد.. انها التعمية المقصودة للتغطية على الحقيقة، حقيقة الشعور بالذل والهوان التاريخي الذي تربت عليه هذه الشعوب قرنا بعد قرن حتى انحنت ظهورها لفرط اعتيادها الركوع على أقدام جلاديها.

متى تتهجى هذه الشعوب أبجدية الحياة والمستقبل؟

متى تقتنع، كما يقول المفكر برهان غليون: "إن أمة من العبيد، لا يمكن أن تكون إلا من عبيد الأمم"؟

متى تدرك أن من جرع العراقيين كأس الهوان لابد أن يتجرع يوما من هذا الكأس، وأن من مارس بانتظام انتهاك حرمة الحياة الإنسانية المقدسة سيتعرض للمصير نفسه عاجلا أم آجلا، فثمة سر مكنون أسمه "عدالة السماء"، وعدا ذلك مجرد أكاذيب مهزومين وتهريج من لا يجيدون سوى الدجل والرخيص من سقط الكلام.