الدوافع والغايات أولاً
هذا الموضوع نشر في جريدة العرب الأسبوعي بتاريخ 10 - 3 - 007
الدوافع والغايات أولاً
إن كل إنسان عندما يصدر أحكامه أو تقييماته , يعتمد ما لديه من أفكار ومعلومات بالإضافة إلى ميوله ودوافعه وأهدافه وما يتبنى من مبادئ وعقائد . وغالباً ما يكون تأثير الميول والغايات والعقائد كبير , وهو الذي يقرر منحى أحكامه وتقييماته . فيتم اختيار المعلومات التي تخدم وتناسب تلك الغايات والاعتقادات, ويجري تحاشي المعلومات التي تناقض ذلك.
إن هذا يحدث غالبية التناقضات في الأحكام والتقييمات بين الناس , فالوقائع التي تجري على عدد معين من الناس تكون متشابهة , ولكن غالباً ما تكون الأحكام والتقييمات عليها مختلفة لدى كل منهم . والذي يساهم في زيادة هذا الاختلاف هو خصائص الذاكرة وآليات عمل العقل الأخرى , فتسجيل الوقائع واستعادتها يكون غالباً مختلف فيما بينهم , وهو يتعرض للتحريف والتبديل في أحيان كثيرة .
إن للعقل البشري قدرات كبيرة , وعندما يتعامل مع الواقع اللا متناهي تكون الخيارات المتاحة لتفسيره هي أيضاً لا متناهية . فهو يستطيع تشكيل أغلب ما يريد من الأفكار ويعطي المعاني التي يريد لهذه الأفكار .
وأول من عرف ذلك هم السفسطائيون , فهم اقتربوا من فهم الوجود بشكل كبير, لأنهم عرفوا أهم خصائص الوجود , وكذلك عرفوا أهم خصائص العقل . فاللعب بالأفكار المتاحة واسع جداً, وخاصةً بالنسبة للعقل الذي تعلم الكثير من الأفكار , فقد أدركوا الخيارات الهائلة المتاحة أثناء التفكير , وهذا جعل كل شيء متاح في الجدال الفكري , فكل فكرة مهما كانت يمكن الرد عليها إما بتفنيدها ونقدها , أو بتأييدها ودعمها .
إن الدوافع والأهداف , والانتماءات , والإيمانيات , والعقائد , هي التي تقرر أغلب التصرفات البشرية ، فوجود الهدف أو الانتماء ( فالانتماء يحدد الهدف بشكل عام ) هو الأساس , ثم تأتي بعد ذلك التبريرات السببية والبراهين والإثباتات التي تشرحه وتفسره وتدعمه ، وبالتالي تقرر طريقة الوصول إليه ، وضرورة اعتماده .
إن الدوافع والأهداف والقيم التي يتم اعتمادها أو الإيمان بها , هي الموجه للبحث عن الأسباب والتبريرات ، التي تكون متوافقة ومنسجمة معها . فإذا اعتبرنا أن عملاً ما هو خاطئ أو ضار , فإننا سوف نبحث ونظهر فقط ما يؤكد ويثبت أو يبرر ذلك , وغالباً ما نجد ما نريد ، وفي كثير من الأحيان نعدله ونظهره بشكل يصبح متوافقاً مع ما نريد إثباته . ونحن نتجاوز فكرياً ومنطقياً وأحياناً واقعياً كافة ما يمنع أو يعيق ما نريد الوصول إليه ، وهذا ما يحقق لنا هدفنا بسهولة في أغلب الأحيان.
وهذا ما يفعله كافة المفكرين ، فالتبريرات والإثباتات والبراهين دوماً متاحة , وكل إنسان مع ذاته هو المدعي وهو المدعى عليه وهو القاضي , وغالباً إن لم يكن دوماً يبرر ما يقوم به , فحتى السارق والقاتل يجد غالباً ما يبرر أفعاله .
وأسباب ذلك هو أن السببية العادية ضعيفة التحديد فنحن بواسطتها غالباً نستطيع تبرير أي حادثة بالأسباب التي نريدها , فنحن نستطيع التلاعب بالمراجع والمنطلقات ونكيفها مع الأسباب التي اخترناها من بين عدد شبه لانهائي من الأسباب المحتملة الأخرى , وبذلك نبرر ما نريد من أفعال أو أقوال , والذي يسمح لنا بذلك هو التعدد الشبه لانهائي لمسببات أي حادثة , ولأننا نختار الأسس والمنطلقات التي نريد من بين المنطلقات الكثيرة المتاحة , و لأننا نعتمد مرجع القياس والتقييم الذي نريد من بين مراجع أخرى كثيرة , لذلك عندما نقرر ونعتمد قراراً و نؤمن به نكون قد بنينا منطلقاتنا وسلاسل أسبابنا , ونستطيع أن نبرر ما نريد . ولكن هل هذه التبريرات دقيقة وواقعية ؟؟
إننا كلنا نفعل ذلك شئنا أم أبينا , ولكن هناك فروق بيننا في تطبيق ذلك , فالذي يراعي الكثير من الأسس والأوضاع وكمية كبيرة من الأسباب الممكنة , ويختار الأدق بواسطة معالجة فكرية دقيقة , ويقوم بالاختبار والتصحيح باستمرار , فهو سوف يصل إلى تبريرات وبراهين واقعية أعلى دقة . والمشكلة بالنسبة لكل منا هي أن غالبية الأسس والمنطلقات يأخذها كأفكار وأحكام ومعارف من غيره , لا يبنيها أو يستنتجها هو بناءً على اختبار ومعالجة فكرية وتصحيح ذاتي فهذا مستحيل . وكذلك عندما نعتمد ونتبنى أسس ومنطلقات ومناهج , يصبح صعب علينا تعديلها , لأسباب راجعة لخصائص عمل عقلنا , ودوماً مشاعرنا وعواطفنا تحرف أحكامنا , فنحن بشكل أساسي نعتمد أحكام قيمة وليس أحكام واقع , كما أن بيئتنا ومجتمعنا هو الذي يدخل كافة ما يعالج في عقل كل منا.
يقول لجون كوتنغهام " ما من ريب أن الفكرة التي تذهب إلى أننا نستطيع الوصول إلى نوع من الحقيقة المطلقة على خطأ: فنحن كائنات متناهية والواقع إذا لم يكن متناه , فهو أوسع بشكل غير محدود من أي شيء يمكن أن تفهمه عقولنا المتناهية , ولكن إذا لم نتمكن من إنشاء مرآة غير مصدعة تعكس البنية الهائلة والمعقدة للواقع , فنحن قادرون على الأقل أن نميز جزءاً من بنيته , ولو من خلال زجاج هو بالضرورة مظلم ومشوه . وقد تكون الملائمة الكاملة التي تصورتها " الأفكار الواضحة والمتميزة " عند ديكارت بالغة التفاؤلية . ولكن ذلك ليس سبباً للتنازل عن فكرة الواقع الموضوعي, أو التخلي عن الكفاح لجعل رؤيتنا أوضح وأشمل وأدق بالتدريج. "
ولكن مع كل هذا نشأت ونمت وتطورت المعارف العلمية , التي هي عالية الدقة بشكل كبير, ويمكن دوماً اختبارها والتأكد من دقتها , وتم الوثوق بها واعتمادها من قبل الكثيرين .
والذي يقرر ما نعتمد من أفكار ومعارف , ليس مقدار دقتها , فهناك الكثير من العوامل التي تتحكم في ما نتبناه ونؤمن به . وهذا ربما يكون ميزة وليس سيئة , فالوجود لا متناهي , والمعارف عنه لا متناهية , ولا يوجد معارف مطلقة الصحة , وكل شيء ممكن . لذلك يفضل التعامل مع أكبر كمية من الخيارات المتاحة إن كانت دقيقة أو حتى غير دقيقة , إن كانت مفيدة, لأن هذا هو الذي يوسع قدراتنا على الاختيار.
والمهم بالدرجة الأولى بالنسبة لنا هو المفيد والممتع لنا, فالمعارف المؤلمة نتحاشاها ما أمكننا, حتى وإن كانت دقيقة , فنحن نسعى للممتع ونتحاشى المؤلم .
والمعارف عالية الدقة لاتهمنا لأنها عالية الدقة , بل لأنها تمكننا من الوصول لما نريد بأفضل الطرق , لذلك نبحث دوماً في المجالات التي توصلنا إلى ما نريد , أو تبرر لنا ما نعتمده من أفكار وعقائد .
فالمعارف الدقيقة ليست هدفنا الأول , بل هي هدف مرحلي لهدفنا الأول الذي هو سعادة كثيرة وشقاء قليل, ونمو واستمرار وجود .
وهناك ما برمجنا عليه وراثياً واجتماعياً وله الدور الأكبر في تصرفاتنا.
لقد استطاع العقل البشري التعامل مع صيرورة وعدم تعيين الوجود ولا تناهي عناصره . صحيح أنه لن يستطيع بلوغ المطلق , ولكنه سوف يصل إلى نسبة عالية جداً من دقة التنبؤ تكفي متطلباته وأوضاعه .
إن كشف بنيات الوجود المتنوعة و بتمثيلها ببنيات فكرية هو ما قام به العقل البشري , فهو يقوم بكشفها وتحديدها وتعيين خصائصها وبدقة متزايدة .
والأفكار العلمية العالية الدقة التي يكشفها أو يشكلها العقل البشري , بمساعدة التكنولوجيا والذكاء الصناعي ( الكومبيوتر وما شابهه) تتزايد بسرعة هائلة سواءً أكان بكميتها أو بدرجة دقتها أو بسعتها وشمولها.
ولا يمكن كشف كامل بنيات الوجود مهما فعلنا لأنها لا متناهية فهي في صيرورة دائمة , وتتخلق باستمرار بنيات جديدة وتختفي بنيات. فبنية الوجود الكلية لا يمكن تحديدها وتعيين خصائصها بصورة تامة , أي أن عدم التعيين والصيرورة لهذا الوجود , موجودة مهما فعلنا.
ونحن لا يهمنا إلا ما نحن بحاجة إليه , صحيح أن ما يمكن أن نحتاجه يمكن أن يكون شبه اللا متناه وغير محدد , ويظهر جديد باستمرار , وكلما ظهرت حاجة أو دافع جديد نسعى إلى تحقيقه .
يقول هانز ريشنباخ
" إن الأمر الواقع المؤسف هو أن الناس يميلون إلى تقديم إجابات حتى عندما تعوزهم وسائل الاهتداء إلى إجابات صحيحة. فالتفسير العلمي يقتضي ملاحظة واسعة النطاق , وتفكيراً نقدياً فاحصاً, وكلما كان التعميم الذي نسعى إليه أعظم, كانت كمية المادة الملاحظة التي يحتاج إليها أكبر, وكان التفكير النقدي الذي يقتضيه أدق.
أما في الحالات التي كان التفسير العلمي يخفق فيها , نظراً لقصور المعرفة المتوفرة في ذلك الوقت عن تقديم التعميم الصحيح , فقد كان الخيال يحل محله ويقدم نوعاً من التفسير يشبع النزوع إلى العمومية عن طريق إرضائه بمشابهات ساذجة , وعندئذ كان يشيع الخلط بين التشبيهات السطحية , ولاسيما التشبيهات بالتجارب البشرية , وبين التعميمات, وكانت الأولى تؤخذ على أنها تعميمات. وهكذا تتم تهدئة الرغبة في الوصول إلى العمومية , عن طريق تفسيرات وهمية .
وعلى هذا الأساس نبتت الفلسفة . "
ويقول جان بيير مونييه
"إن معتقداتنا وأحكامنا بما فيها أحكمها دلالة , محدود دائماً بالرهط الذي ننتمي إليه . فمع المبالغة في لفت الانتباه إلى ما يقاس , لا يرى المرء سوى قسم من الواقع الاجتماعي , ويعلق عليه أهمية تتجاوز حدوده , فالانتخابات ليست التجلي الوحيد للحياة السياسية وهي على العكس من ذلك لا ترتبط احتمالاًَ بالاتجاهات السياسية وحدها , ويذكرنا ذلك بالسكران الذي أضاع مفاتيحه في زقاق مظلم ويصر على البحث عنها في زقاق مضاء بذريعة أن ذلك هو المكان المضاء الوحيد ".
مثال السكران إنها في الأصل نكتة تعتمد على المفارقة وهذه هي النكتة :
يشاهد شرطي ليلاً رجل سكران يبحث تحت عامود النور فيقترب منه ويسأله عن ماذا يبحث , فيقول له السكران أنه أضاع مفاتيحه وهو يبحث عنها , فيسأله الشرطي أين أضعتها , فيقول له السكران هناك في المكان المظلم , فيرد عليه الشرطي ولكن لماذا تبحث عنها هنا , فيرد السكران مستهجناً هل تريدني أن أبحث عليها في العتمة .
أننا جميعاً بالفعل لا نختلف عن السكير , فنحن شئنا أم أبينا لا نستطيع البحث إلا في المجالات التي ينيرها عقلنا .
والغريب والعجيب أننا نجد مفاتيحنا في أغلب الأحيان إن لم يكن دائماً .
لكن كم تتيح لنا هذه المفاتيح التي نجدها أن نفتح من أبواب , فالأساطير والأديان والعقائد وكافة المعارف وما تفسره من وقائع الوجود , هي بمثابة مفاتيح وجدناها أو صنعناها-نتيجة بحثنا في المجالات التي استطاع عقلنا إنارتها .
فقد فسر هطول المطر وبرق والرعد وحوادث الوجود الأخرى بما كان يملكه العقل من معلومات ومعارف , وتم اعتماد ما تم تفسيره مع أنه كثيراً ما كان بعيداً عن الدقة.
فقد كان يتم البحث في المجالات التي يستطيع عقلنا إنارتها , وليس في المجالات المناسبة والتي يمكن أن تسمح بالتفسير الدقيق , والفهم , لأنها كانت مظلمة.
فقد ارتكبت غلطتان الأولى البحث في المجال غير المناسب , والثانية اعتماد التفسيرات والتبريرات التي يتم الوصول إليها مع أنها غير دقيقة , وهذا لأن التفسير والتبرير كانا مطلوبين بإلحاح لكي يتم اعتمادهم والتصرف بناء عليهم.
والآن وبعد نشوء المعارف العلمية العالية الدقة و التكنولوجيا المتطورة , اللتان سمحتا لنا أن نضيء الكثير من المجالات , وبالتالي حققتا إمكانية كبيرة في البحث في المكان المناسب , وصار بإمكاننا الوصول إلى تفسيرات و تنبؤات عالية الدقة , وملكنا مفاتيح تستطيع فتح الكثير من أبواب , أو التفسير الدقيق للكثير من الحوادث التي تعترضنا.
فالمعارف الدقيقة والوسائل الفعالة هي التي سمحت لنا بالبحث عن المفاتيح الأفضل والفعالة أكثر, في الأماكن المظلمة , لأنها استطاعت إنارتها لنا.
|