الأخ جادمون (f)
الزملاء الأعزاء .(f)
أرحب بعودة العزيز جادمون للحوار في ساحة الفكر الحر بتألقه المعتاد .:applaudit:
من الصدف الغريبة أن هذا الشريط جاء بعد أيام معدودة من شريط آخر طرحه الأخ العزيز عوارفي عن ظاهرة الليبراليين الجدد بعنوان (نعم ، انا منهم و معهم و يشرفني ذلك !) عرض فيه دراسة قدمتها د أميمة مصطفى عبود استاذة العلوم السياسية بجامعة القاهرة، و كان لي حظ المشاركة في ذلك الشريط أيضا ، و عرضت فيه موقفي من الظاهرة و من شاكر النابلسي ، وربما كانت بعض الفقرات من هذه المداخلة تكرارا لمداخلتي السابقة في الشريط المشار إليه .
1- مبدئيا أريد أن أعبر عن قناعتي و كثيرين غيري من الليبراليين في مصر بأن أمريكا بداية لا ترى مصلحتها في دعم الليبراليين العرب لأنها تراهم مجرد قوة هيكلية و ظاهرة صوتية بلا وجود حقيقي ، و كل هدفها هو الحوار مع ما تعتقد أنه إتجاه إسلامي معتدل و الوصل معه إلى تفاهمات استراتيجية تحقق بها مصالحها كما يحدث في العراق الآن و مع السعودية سابقا ، ثم تعمل أمريكا بعد ترسيخ تلك التفاهمات إلى تمكين تلك الإتجاهات الإسلامية ( المعتدلة ) من الوصول إلى الحكم ، و ترى أمريكا أنها بتلك المساومة التاريخية ستحقق الإستقرار للمنطقة مع الحفاظ على المصالح الحيوية للغرب و أمريكا تحديدا تماما كما يفعل النظام السعودي ( إستقرار + تعاون كامل ) ، مثل هذا الفكر ليس جديدا ولن يدهشنا لو تذكرنا مطالبة بريطانيا الملك فاروق عام 1942 بتكليف غريمها النحاس باشا بتشكيل الوزارة أثناء الحرب العالمية الثانية لأنها تريد حاكما قويا يتحالف معها في الحرب القادمة على أبواب مصر و ليس تابعا ضعيفا يكون عالة عليها ، هكذا يفكرون في الغرب وهم يسقطون الليبرالية العربية كلية من حسابتهم حتى وهم يدفعون في اتجاه الديمقراطية التي ستاتي في يقينهم بالإسلاميين ( المعتدلين ) الذين سيكونون تحت نفوذ السعودية بشكل ما ، أي ببساطة التدخلات الأمريكية الموعودة هي ضد الليبرالية و التنوير و الحداثة و ليست في صالحها ، فأمريكا قوة كونية ذات مصالح حيوية في المنطقة و ليست دار إحسان لرعاية الليبرالية العربية التي لم تتعلم السير أبدا منذ 50 سنة !.
2- لست ممن يفضلون استخدام تعبير الليبراليين الجدد ، ربما كانت الليبرالية جديدة في بعض الشعوب العربية و لكنها قديمة في شعوب عربية أخرى ، فالليبرالية على سبيل المثال كانت أسبق الإتجاهات السياسية ظهورا في مصر التي شهدت اتجاها ليبراليا قويا امتد منذ بداية القرن الماضي حتى منتصف الأربعينيات تقريبا فيما يمكن أن نطلق عليه الربيع الليبرالي ، بينما لم تعرف مصر الإتجاهات القومية إلا في منتصف الخمسينيات و الإتجاهات الإسلامية القوية إلا في السبعينات ، لهذا فالليبرالية ليست جديدة كما نرى ، و محاولة وصف الليبرالية بالجدة هو إقلال من شأن المثقفين العرب و تراثهم الفكري الإنساني ،ولا يجب أن نترك أنفسنا نسقط في التشاؤم الذي يفرضه الواقع المتردي الراهن نتيجة الإنفجار السرطاني للأصولية الوهابية و الخومينية .
3- لا تعرف المجتمعات العربية نفس الطيف السياسي الفكري و السياسي الأوروبي ، لهذا يمكن تمييز إتجاهين فقط من الطيف الغربي هما الأصولية و الحداثة ( الليبرالية ) ، لهذا أرى استخدام مصطلح الليبرالية بمدلوله الثقافي أساسا و كمرادف للجوانب الروحية و القيمية لعملية الحداثة ، إننا لا يجب أن نغفل أيضا البعد السياسي لليبرالية و لكن على أن نراه مرحلة تالية لا يمكن الشروع فيها جديا دون توفير حدا أدنى من الحداثة و الليبرالية الثقافية . لهذا أيضا لا أوافق على خصوصية حاجبة للتأثير العالمي ،و لكني أرى أن هناك خصوصيات ثقافية يجري خلالها ترجمة الحداثة إلى عملية تحديث محلية أو إقليمية .
4- لست متحمسا لفرض شاكر النابلسي رمزا لليبرالية سواء لتلك المسماة الجديدة او غيرها فبعيدا عن أحكام التكفير و التخوين -التي أرفضها كلية كمرض ثقافي عربي - أرى النابلسي كاتبا دون المتوسط و مفكرا متواضعا ، إنني لا أقارنه مثلآ بحازم صاغية أو سيار الجميل و صلاح عيسى أو غيرهم من المفكرين الليبراليين ، هذا لا يعني إقصاءا مطلقا للنابلسي و زملائه من نفس التيار الليبرالي الجديد بل فقط تحجيما لهذا التيار كرافد ثانوي محدود للفكر الليبرالي و التنويري .
5- أريد أن أشير إلى وجود معارضة كبيرة بين المثقفين الليبراليين أنفسهم ضد التوجهات الفكرية و المواقف السياسية لليبراليين الجدد كما أطلقوا على أنفسهم ، وهنا أشير إلى بيان (ليبراليون عرب: صرخة ضد التبسيط) الذي أصدره 59 من المثقفين الليبراليين العرب ينتمون إلى 11 دولة عربية عقب غزو العراق ، في هذا البيان يرفض المثقفون الليبراليون ربط الليبرالية بالسياسات الأمريكية اليمينية و المعادية في جوهرها للأمال العربية المشروعة في التحرر ، وجاء في البيان ( نذهب إلى أن الليبرالية التي نقول بها، ولاءٌ لقيم تحديثية وتنويرية أولاً وأساساً، وليست أبداً ولاءً للولايات المتحدة كائناً من كان المقيم في بيتها الأبيض. صحيح أن الوعي الليبرالي لا بد وأن يعثر على مرجعيته الفكرية ونموذجه في التجارب "الغربية"، فيطمح إلى مزاوجتها مع الإسهام القليل الذي أداه مفكرون عرب، كالشيخ محمد عبده وتلامذته. ولكن الصحيح أيضاً أن هذه الحكومة "الغربية" أو تلك مرشحة، بموجب حركة مصالحها وأمزجتها العارضة وتحولات مجتمعها، إلى التنكّر لتلك الليبرالية نفسها) . هذا البيان يعبر بعمق و نزاهة عن موقف كثير بل الأغلبية الساحقة من المثقفين الليبراليين العرب ، نذكر أيضا أن هناك أسماء لامعة وقعت هذا البيان منها إبراهيم الحيدري و سيار الجميل و (العراق)، و محمود أباظة و أسامة الغزالي حرب و السيد يسين و صلاح عيسى و نصر حامد أبو زيد و وحيد عبد المجيد ( مصر ) و حازم الأمين و حازم صاغية ( لبنان ) و غيرهم كثيرون .
6- إن وجود إختلافات أساسية داخل التيار الليبرالي هو ظاهرة طبيعية مرتبطة بالجوهر التحرري للفكر الليبرالي ذاته ، فهناك ليبراليون عارضوا التدخلات الأمريكية و هناك من أيدها ، و لكنهم في الحالتين انطلقوا من مرجعية الإنسان ومركزية مصالحة الفردية ، هذه الإختلافات هي سر خصوبة و تفوق المعايير الليبرالية في العالم كله ، فقط أود على تأكيد أن أغلب الليبراليين الذين رفضوا موقف الليبرالية الجديدة حيال التدخلات العسكرية الأمريكية انطلقوا في موقفهم من حسابات براجماتية عملية ثبت بالفعل صحتها ، و ليس من قاعدة دوجمائية أو الخوف ،و أنهم رغم هذا الموقف الذي ربما يبدوا شعبويا فإنهم يترفعون عن تملق الجماهير و ترديد الشعارات الحماسية ، لأنهم يرون ذلك كله ممارسات معادية للحرية بل مدمرة لها.
7- أتوقف عند المقال الذي نقله الأخ جادمون عن النابلسي و أرى أنه أتي بنتيجة عكسية مناقضة لجدلية المداخلة الإفتتاحية ، فهو بالفعل من أفضل ما كتب النابلسي وإن عابه كالعادة عدم إلمام النابلسي الدقيق بتاريخ المنطقة الحضاري ، ورغم هذا فلدي أيضا ملاحظات حول وجود خلل منطقي واضخ لأنه يفترض أن من ينادي بقصر الإإصلاح على الداخل يرفض عدم إستلهام التجربة الحضارية الغربية ، نعم هناك البعض من الأصوليين يرفض الحشارة الغربية تماما ،و لكن كل التنويرين و الحداثيين يرون العكس تماما و ضرورة الإنفتاح الكامل على الحضارة الغربية دون أن يعني ذلك النسخ الحرفي لتلك التجربة أو دفع المنطقة إلى الفوضى التي ظهر انها لم تكن أبدا بناءة بل مدمرة .
للجميع كل تقدير .