النقطة الفاصلة THE TIPPING POINT
الزملاء الأعزاء.:97:
أطرح هذا المقال للحوار آملا في إثرائه .
النقطة الفاصلة THE TIPPING POINT
فـي تاريخ الشرق الأوسط
بقلم : د. عبد المنعم سعيد
شاركت خلال فترة لا تزيد علي أسبوعين في ثلاثة تجمعات اختلفت في مكوناتها وعناوينها ومكان انعقادها, ولكنها جميعا اتفقت علي مناقشة هموم المنطقة التي نعيش فيها, وعلي محاولة الخروج من لحظة وصفها الملك عبد الله عاهل السعودية في خطابه أمام قمة مجلس التعاون الخليجي بأنها أشبه ببرميل للبارود علي وشك الانفجار. وجري التجمع الأول في مدينة دبي في إطار المنتدي الاستراتيجي العربي وكان عالميا في حضوره, والثاني كان محليا في القاهرة في إطار المركز الدولي للدراسات المستقبلية والاستراتيجية, والثالث إقليميا عربيا في معظمه وعقدته شركة الجسور العربية للاستشارات. وفي كل مرة كان مطروحا توصيف ما يجري, والتأكد من فداحة ما يجري فيه وأبعاده, وأخيرا- وهي المهمة الصعبة- البحث عن مخرج أو مخارج أو حتي خيارات مطروحة علي الشعوب والحكومات.
وربما قدم التجمع الأول مفتاح الولوج إلي الحالة عندما كنت متحدثا مشاركا في حلقة نقاشية تحت عنوان' النقطة الفاصلة أو الحاسمة The Tipping Point, وكان السؤال المطروح علي المتحدثين هو عما إذا كان الشرق الأوسط يمر بلحظة تغيير كبري, وإذا كان ذلك كذلك فما هي أهم ملامحها؟. ولمن لا يعرف فإن عنوان الحلقة كان مشتقا من تعبير صكه مورتون جوردنز الأمريكي خلال الستينيات لوصف التغييرات الاجتماعية التي تجري علي الأحياء في المدن الأمريكية, ثم أعاد استخدامه توماس شيلنج الفائز بجائزة نوبل عام1972 وأعطاه مذاقا خاصا في العلاقات الدولية, وأخيرا فإن ما لكولم جلادويل كان هو الذي أعطي التعبير شهرة حقيقية عندما نشر كتابه' النقطة الفاصلة' عام2000 الذي صار بعد ذلك نوعا من الأكليشيهات الذائعة عن التغييرات الكبري التي تحدث نتيجة تراكم تغييرات صغيرة لا تلبث عند لحظة بعينها أن تحدث اختلافا نوعيا بحيث تصير الحياة بعدها مختلفة تماما عما قبلها.
وبشكل ما كان تعريف هذه اللحظة هو الشغل الشاغل للمنتديات الثلاثة, فقبل وبعد كل شيء فإن الشرق الأوسط يعيش علي برميل من بارود الأزمات المزمنة طوال العقود الماضية إلي الدرجة التي جعلت كثيرين لا يجدون ما يدهشهم في أزمات جديدة. وربما كان ما يضع صعوبات أمام تطبيق مفهوم' اللحظة الفاصلة' أنه ارتبط بفلسفة عامة للتغيير والتقدم تتصور أن المجتمعات والإنسانية تنتقل من خلال هذه اللحظات الحاسمة. وعلي الأرجح أن الذين صمموا المؤتمر في دبي كان في أذهانهم عدد من التطورات الإيجابية الجارية في المنطقة هذه الأيام والمرتبطة بارتفاع أسعار النفط, وتجربة دول الخليج الصغري المدهشة في النمو الاقتصادي, واتساع نطاق الرأي في الدول العربية نتيجة التقدم في قطاع الاتصالات والفضائيات التليفزيونية.
ولكن هذه القوي الدافعة إلي الأمام لا يمكن قياسها ما لم يتم حساب تلك القوي الدافعة إلي الخلف وبعنفوان كبير وزخم هائل وبإصرار عجيب. ولا يمكن تفسير الهجوم الواقع علي الدولة اللبنانية, والتدمير المنظم للدولة العراقية من قبل قوي محلية متنوعة بعد التدمير الذي لحق بها نتيجة الغزو والاحتلال الأمريكي, والتفكيك المستمر للسلطة الوطنية الفلسطينية من خلال المزايدة علي الأهداف المتوافق عليها منذ عام1988, والهجوم الجاري من قبل المحاكم الشرعية علي ما تبقي من السلطة السياسية الصومالية, وحتي استعراضات الملثمين في جامعة الأزهر, إلا كنوع من الهجمات المتنوعة علي الدولة العربية الحديثة.
وفي هذه المرة فإن اللحظة الفاصلة ليست حالة انقلابية كتلك التي عرفناها من قبل, ولا نوعا من الحركات الثورية التي تابعناها فيما مضي, ولا طريقا للتغيير يجري في معظم الدول, وإنما الأمر كله هو إحلال الحالة الحالية للدولة العربية, وهي بالتأكيد ليست حالة سعيدة علي الإطلاق, إلي حالة متأصلة من الفوضي الشائعة. والحقيقة أنه مهما كانت مشكلات ومعضلات الدولة العربية حاليا, بل ومهما كان حجم الفساد فيها, فإنها تظل الإطار الممكن بل الوحيد للإصلاح والتغيير السلمي; أما حالة الفوضي التي تسعي إليها القوي الأصولية المختلفة فهي التي تمزق المجتمعات وتحولها إلي أشلاء لا يستطيع فيها مثقف الكلمة, ولا يملك فيها معلم التعليم, ولا يعرف فيها مواطن العيش حيث يصير الخوف من الحياة_ وليس الموت- أكثر شيوعا.
ولمن يراجع حال مجتمعات قريبة منا يجد أنه كلما دخلت الأصولية بلدا فإنها تحوله إلي جب مظلم عميق, وكلما حاول الخروج منه زادت الحفرة عمقا, وكلما برز تيار للاعتدال تظهر معه عشرات التيارات المتطرفة الأخري. وفي الوقت الذي تحول هذه الحركات بلادها إلي ساحة من الضعف والتفكك فإنها في العادة تذهب إلي إيجاد حالة من العداءات التاريخية مع دول متعددة. وخلال الفترة الراهنة فإن الفشل ـ والهزيمة ـ الأمريكية في العراق جعلا هذه الحركات تترجمه إلي حالة من الانتصار والتيار التاريخي الذي يعطيها الحق في الهيمنة والسيطرة علي كل المنطقة. ومما أعطاها الفرصة أكثر أن الدول العربية التي اعترضت علي الغزو الأمريكي للعراق قد انسحبت من الساحة الإقليمية لأسباب داخلية تخصها أو لانتظارها ما تسفر عنه الأزمة العراقية. وحتي عندما وافقت الجامعة العربية علي المشروع السعودي لتسوية الصراع العربي_ الإسرائيلي ما لبثت أن صمتت عندما قامت جماعة حماس بنسفه من خلال عملية نتانيا التي استغلها شارون لإعادة احتلال الأراضي الفلسطينية المحررة مرة أخري.
هذا الفراغ الاستراتيجي واكبه فراغ ثقافي وسياسي حينما بدا لدي النخب السياسية العربية الحاكمة أن موضوع الإصلاح في الدول العربية لا يزيد علي كونه مؤامرة أجنبية; وعندما دلفت إليه لأسباب متنوعة فإنها ظلت دائمة عاجزة عن المبادرة الكبري للمفارقة مع أوضاع لم يعد ممكنا استمرارها في دول مدنية حديثة وديمقراطية. وفي بعض الأحيان بدا أن التكيف مع المعضلات العظمي يكون من خلال خطوات محدودة هو الممكن الذي يؤجل المشكلات ولكنه لا يحلها; وفي أحيان كان الاعتماد الكثيف علي الأمن هو الحل لمعضلات عظمي فإذا به يعمقها. ومما زاد الطين بلة أن أطرافا عربية وجدت في الرجوع إلي الخلف من خلال تعريف الموقف في المنطقة كما لو كان صراعا بين الشيعة والسنة باعتبار ذلك وسيلة للتعبئة السياسية الداخلية والخارجية, ولتفادي المواجهة مع التيارات الأصولية العنيفة, وكان ذلك لا يقل تحديا لمفهوم الدولة العربية الوطنية الحديثة وأكثر تراجعا مما تطرحه جماعات الإسلام السياسي المسالم منها والعنيف.
وببساطة فإن المشروع الأصولي للمنطقة وجد نفسه في فراغ استراتيجي يبحث عمن يملؤه, وساعده حماقات ونزعات عدوانية أمريكية وإسرائيلية وحالة من الغيبوبة الأوروبية والدولية; وعندما تم انتخاب أحمدي نجاد في إيران فإن المشروع وجد لنفسه قاعدة من دولة أعادت الاعتبار لمشروعها الثوري مرة أخري. ولم تكن هناك صدفة أن طهران وضعت تحت تصرف حزب الله في لبنان_ وليس الحكومة اللبنانية- معونات مالية بلغت خلال العام الحالي وحده2.2 مليار دولار, كما وضعت تحت تصرف حماس وليس السلطة الوطنية الفلسطينية معونات مالية قدرها250 مليون دولار. وفي الحالتين لم تكن إيران تفرق بين السنة والشيعة, وإنما كانت تفرق بين مشروع أصولي راديكالي والنظام السياسي الذي يتحرك فيه المشروع.
ما يعقد المسألة أكثر بالنسبة لمصر أن الطبقة السياسية علي خلاف ألوانها وطوائفها بين الحكومة والمعارضة لم تكتشف بعد طبيعة التعقيد الجاري في الساحة الإقليمية. وعندما خرجت جماعة الطلبة في جامعة الأزهر ملثمة لابسة أقنعة الجهاد وملوحة بالعنف السياسي, فإنها لم تكن تفعل ذلك استجابة فقط لمبادئ أوقانونا أوامر حركة الإخوان المسلمين ـ المحظورة ـ وإنما تيمنا بصورة للبطولة والفداء مجدتها أجهزة الإعلام الرسمية وغير الرسمية سواء عندما كانت تحارب الأعداء من الأمريكيين والإسرائيليين, أو عندما كانت تناضل ضد جماعات فتح وهي في السلطة أو خارجها, أو عندما كانت تعمل علي تقويض السلطة اللبنانية أو العراقية, أو عندما صارت كل أنواع الإرهاب في الخارج نوعا ما من المقاومة المقدسة.
مثل هذا التداخل بين الخارج والداخل لن يتوقف, فلم تعد الدولة العربية مشروعا يخصها كما كان الحال خلال العقود الأربعة الماضية حينما شهد العالم العربي حكومات ملكية وجمهورية, عسكرية ومدنية, ثورية وتقليدية, وإنما بات المشروع الواحد الأصولي هو المطروح علي الأمة كلها, قد تختلف الوسائل أحيانا ولكن الأهداف واحدة. وعلي جبهة واسعة ممتدة من المحيط إلي الخليج يوجد العديد من النقاط الفاصلة تبدو منفصلة عن بعضها البعض, ولكل منها ظروفها وشروطها, ولكنها كلها تتجمع في نقطة فاصلة واحدة تريد تصفية الحساب مع الدولة المدنية التي تراكمت تطوراتها خلال القرنين الماضيين. ولمن يريد أن يعرف كيف ستكون عليه الصورة عندما تنقلب الأحوال, فما عليه إلا أن يشهد إيران والأحوال فيها علي حقيقتها وليس كما تصورها لنا الدعاية الأصولية, أو يراجع ما جري ويجري في أفغانستان, أو يطالع نتائج الفترة الأصولية في السودان, أو يشهد حالة الفوضي الضاربة في فلسطين ولبنان والصومال. ذلك هو تشخيص الحال, أما كيف نتعامل معه فتلك_ علي أية حال- قصة أخري !.
|