المعلِّم إيكهرت (حوالى 1260-1327)
لا ريب في أن للمعلِّم إيكهرت منزلة على حدة في تاريخ التصوف العالمي. فالمسائل التي طرحها الحكيم الريناني المتألِّه والتأويلات التي أتاحها هي عينها القضايا الكبرى التي شغلت التصوف، النظري والعملي، حول شَخْصَنَة الإله وطبيعة علاقته بالعالم وبالنفس الإنسانية. صحيح أنه تأثر لاهوتيًّا بتوما الأكويني، وصحيح كذلك أن إلهياته استمرار لنهج روحيٍّ أفلاطوني يمر من ألبرتوس الكبير وتييري الفرايبرغي، لكنه نسيج وحده من حيث دفعُه إلهياته حتى تخومها القصوى – تخوم العدم الصوفي التام الذي يشكل "مادة" الإله نفسها – ومن حيث ترجمتُه إلى لغة العوام خبرةً أراد لها أن تلبي حاجاتِ مستمعين متعطشين إلى الروحانية، كما يظهر من مواعظه بالألمانية، حيث جرأة العباراتِ الظاهرةِ التناقضِ تؤلِّف تأليفًا خلاقًا بين الخبرة الداخلية والفلسفة العالِمة – تأليفًا جلب عليه، في الوقت نفسه، تكفير الفقهاء واتهامهم له بالزندقة.
راهب واعظ أمام محكمة التفتيش
انضم إيكهرت، المولود في هوخهايم (تورنغه) في أسرة من صغار الأشراف، إلى رهبنة "الإخوة الواعظين" (الدومنكان) في إرفورت، ثم ذهب مبعوثًا إلى كولن لمتابعة تحصيله. وقد جرى تأهيلُه اللاهوتي في جوٍّ مشبع بالروح الأفلاطونية السارية في نهج ألبرتوس الكبير (الذي ربما تتلمذ عليه). وحوالى العام 1293، عُيِّن محاضرًا في دير القديس يعقوب في باريس، ثم قبل حلول العام 1298، رئيسًا لدير إرفورت ونائبًا رعويًّا عن مقاطعة تورنغه. وفي العام 1300 عاد إلى التدريس في باريس، حيث شرع يُساجِل ضد أفكار الفرنسسكاني دَنْس سكوتُس. أغلب الظن أنه طُرِدَ من فرنسا في تموز من العام 1303. وبعد تعيينه في بداية العام 1304 نائبًا رعويًّا عن إقليم ساكس الجديد، حضر بصفته هذه في العام 1307 مجلس ستراسبورغ الكنسي، حيث كُلِّف، إلى ذلك، النيابةَ الرعوية العامة عن مقاطعة بوهيميا. وعندما قرر مجلس بليزانس (1311) تجديد الدراسات في الرهبنة الدومنكانية، أُرسِل إيكهرت مرة ثالثة إلى السوربون، حيث كرَّس نفسه غالبًا للشروح على الكتب المقدسة. وفي العام 1314، نجده مرة أخرى في ستراسبورغ، حيث تولَّى إدارة المدرسة studium الدومنكانية وانهمك في عمل رعوي، وعظي وإرشادي، في عدة أديرة للراهبات الدومنكانيات. وفي العام 1324، عادة إلى كولن، حيث ترأس المدرسة العامة وواصل تعليمه بين الراهبات، من دومنكانيات وغيرهن.
بُعيد ذلك اصطدم بهاينريش الفرنبورغي، رئيس أساقفة كولن، الذي كان يضمر العداء للدومنكان، مفضلاً عليهم الفرنسسكان صراحةً. ومنذ نهاية العام 1324، حامت شكوكٌ حول سُنِّية آراء إيكهرت، مما اضطره إلى تدبيج دفاع أول عن مذهبه. لكن الزائر الحَبري نكولاوس الستراسبورغي، الدومنكاني واللاهوتي الذائع الصيت، دافع عنه بقوة. عندئذٍ عهد رئيس أساقفة كولن بالقضية إلى قاضيين من ديوان التفتيش يبدو أنهما كانا قليلي الإنصاف، أحدهما دومنكاني والآخر كاهن في الكاثدرائية. وإبان صيف العام 1326، وضع هذان قائمة أولى من 49 عبارة "مريبة" لاهوتيًّا مقتطَفَة من مصنفات إيكهرت ومواعظه. وقد أجاب عنها إيكهرت في 26 أيلول، طاعنًا في أهلية قاضيي كولن، رافضًا عددًا من العبارات الواردة في القائمة باعتبارها ملفقة، وشارحًا عبارات أخرى شرحًا سُنيًّا. بُعيد ذلك وجَّه إليه قاضيا التفتيش قائمة جديدة من 52 عبارة، مشابهة جزئيًّا للعبارات السابقة، أجاب عنها الجواب نفسه. وفي الـ24 من كانون الثاني، رفع إيكهرت استئنافًا إلى الكرسي الرسولي وأعلن في 13 شباط احتجاجًا عامًّا ورسميًّا بسُنيَّته.
ومع أن محكمة كولن رفضت استئناف إيكهرت في 22 شباط، فقد أحيلت القضية إلى أفينيون، حيث كان البابا يوحنا الثاني عشر مقيمًا آنذاك؛ فذهب إيكهرت إلى هناك للدفاع عن نفسه. ويبدو أنه توفي فيها. وبعد مناقشات طويلة، يبدو فيها أن القضاة اشتغلوا على قوائم العبارات المرسَلة من كولن، وليس على مؤلَّفاته، حُكِمَ على إيكهرت بعد وفاته بمقتضى مرسوم In argo dominico الصادر في 27 آذار 1329، الذي حرَّم نشر 28 من العبارات المنسوبة إليه، وفيه جاء: "لقد أراد أن يعلَم أكثر مما يجوز." وهذا المرسوم، المُرسَل إلى رئيس أساقفة كولن، لم يُنشَر رسميًّا إلا ضمن نطاق صلاحية أبرشيته الكنسية.
مؤلَّفات إيكهرت
تتوزع المصنفات التي خلفها إيكهرت إلى مجموعتين متميزتين: المؤلَّفات اللاتينية والمؤلَّفات الألمانية. أما الكتابات اللاتينية، المخصصة للاهوتيين المحترفين، فهي ذات طابع نظري واصطلاحي، وذات شكل فقهي توماوي ملحوظ؛ لكنها تمتاز بأنها بقلم إيكهرت مباشرة وتقدم قاعدة مأمونة دقيقة لتأويل فكره. أهمها: رسالة في الصلاة الربانية، شرحان على سِفْر الأحكام (يشك بعضهم في صحة نسبة الشرح الثاني إلى إيكهرت)، مسائل باريسية (هي ذكريات عن خلافات مدرسية)، شروح على الكتاب المقدس (أسفار التكوين والخروج والحكمة والجامعة والإنجيل بحسب يوحنا) تتسم بتأويل مغرق في الرمزية والمجاز والميتافيزياء، 58 موعظة، وبضعة مقاطع أخرى.
وأما المؤلَّفات الألمانية، التي كُتِبَتْ باللغة الألمانية الوسطى العليا المتأخرة Spätmittelhochdeutsch، فلا تضم إلا ثلاث رسائل كتبها إيكهرت مباشرة: حوارات حول التمييز الروحي، التي ألقاها في إرفورت قبل العام 1298؛ كتاب بندكتوس Liber Benedictus، المسمَّى هكذا بحسب الكلمة الأولى للنص، الذي كُتِبَ من أجل ملكة هنغاريا أغنِس بعد العام 1308، وهو يضم رسالة في العزاء الإلهي وفي شرف الإنسان؛ وأخيرًا رسالة موجزة في الزهد، لم يُعرَف تاريخُ كتابتها، ولم تتأكد صحةُ نسبتها إلا في القرن العشرين. أما ما تبقى من المؤلَّفات الألمانية فلا تعدو كونها ملحوظات (ينوف عددها على الستين) دوَّنها مستمعون في أثناء إلقاء المواعظ؛ وبالطبع، لا تجوز الثقة التامة في أصالة نسبتها.
اللاهوتي الصوفي
مؤلَّفات إيكهرت عسيرة على الفهم. فالكتابات اللاتينية تتسم بخاصية ميتافيزيائية، وأسلوبها الفقهي التوماوي عويص للغاية. ومع ذلك، فإن فكر إيكهرت ليس نظريًّا بحتًا: إنه مسكون بالهواجس الروحية ويحاول أن يطاوِل أسُس الخبرة الصوفية نفسها ويشملها. فكما قال الباحث راينر شورمن: "إذا كانت المؤلَّفات اللاتينية تمهِّد الطريق فإن المؤلَّفات الألمانية تدعونا إلى السفر." وبهذا الخصوص فإن إيكهرت يعاني من لغة عصره الفنية المغرقة في الاصطلاح. أما الكتابات الألمانية فهي تستعمل لغةً ما تزال في طور التشكل، لغة عملية جدًّا وغير مؤهلة بعدُ بما يكفي للتعبير عن الحقائق الروحية.
قلما يستعمل إيكهرت لترجمة معطيات الخبرة الصوفية الرمزَ المألوف عند أقرانه، بل يستحسن اللجوء إلى عبارات شديدة التناقض ظاهريًّا؛ وهذه العبارات، إذ تعزل أحد مظاهر الحقيقة وتُبرِزه، تصير شديدة الخطورة والتضليل إذا أُخِذَتْ على محمل الحرف، ولم تُفهَم في سياقها الطبيعي، وفي ضوء الخبرة الداخلية، كما جرى حصرًا لمحرِّري مرسومُ الإدانة.
من الألوهة إلى الله
مذهب إيكهرت عبارة عن تأملات في الوجود، الذي، مأخوذًا في مطلقيَّته، يتماهى مع الله. ويميز إيكهرت تمييزًا دقيقًا بين الألوهة Gottheit وبين الله Gott. فالألوهة هي الذات الإلهية المطلقة، واجبة الوجود بذاتها، المتعالية على الأسماء والصفات والعلاقات، والتي لا نستطيع أن نقول فيها شيئًا غير أنها أحدية مطلقة؛ وبالتالي لا يجوز لنا أن نتكلم عليها إلا بلغة لاهوتية سلبية، بحيث إن مصطلحات، من نحو "الوجود" و"الخير"، كما نستعملها في اللغة البشرية، لا تصح عليها. أما الله، على العكس، فهو الألوهة بوصفها داخلة في علاقة. فهي تقيم أولاً علاقة أولى داخلية وضرورية مع ذاتها، تفضي إلى انبثاق الأقانيم الإلهية للثالوث؛ والأقانيم تفيض فيضًا مستمرًّا من الذات الإلهية وترجع إليها. كذلك فإن الألوهة تصير الله عبر علاقة ثانية، خارجية، هي علاقة الخلق. وبحسب عبارة إيكهرت (التي يتقاطع فيها مع مذهب الشيخ الأكبر ابن عربي)، ليس الله إلهًا إلا بوجود المخلوقات؛ فلو لم تكن لما كان.[1]
الخلق: سمة إلهية وعدم الوجود
يرتبط التصور الإيكهرتي للخلق بثيمة محورية عند أفلاطون هي ثيمة النموذج البدئي archetype ("العين الثابتة"، بحسب ابن عربي). فالله يعلم منذ الأزل، في كلمته، "أعيان" الخلق كافة. والخلق هو الفعل الإلهي الذي يمر عبره بعضُ هذه الكائنات من عالم الأعيان المثالي إلى عالم الظواهر. كل مخلوق فهو كائن مزدوج: موجود بالقوة في الله، وموجود بالفعل في العالم. وهكذا فإن كلَّ مخلوق، من حيث ارتباطُه بنموذجه أو عينه الثابتة في العلم الإلهي الكلِّي، يحمل نوعًا من "السمة" الإلهية التي هي شرفه الأصلي. ولكن من منظور آخر، فإن الفارق الجذري بين الكائن غير المخلوق وبين الكائن المخلوق هو من السعة بحيث إن هذا الأخير، قياسًا إلى الله، يمكن أن يوصف بالعدم. وهنا يقترب إيكهرت من الفيدنتا الهندوسي الذي ينكر على "المخلوق" أيَّ وجود مستقل عن برهمن ويصفه بـ"الوهم" māyā.
أعماق النفس
تسمح ثيمة النموذج البدئي لإيكهرت برفع شرف الإنسان على أساس مكين. فهو، ككلِّ الصوفية، ينظر إلى النفس الإنسانية كواقع مركَّب، فيه أقاليم ومناطق. وفي سرِّها الأعمق تُستودَع عينُها الأزلية (آتمن ātman الفيدنتا) التي تربطها إلى الذات الإلهية. وإيكهرت مرارًا ما يشير إلى هذه النقطة المركزية للنفس بمصطلحات من نحو "الكُنْه" أو "النور" أو "الشرارة". وهو يشدد على أن هذا السر متوجِّه بكلِّيته إلى الله، ويسميه أحيانًا "العقل". وعن "كُنْه" النفس هذا يقول إيكهرت في إصرار شديد إنه "غير مخلوق وغير قابل للخلق"!
وهكذا فإن النفس، متحدةً بالله عبر مركزها، تشارك مشاركة فاعلة ومنفعلة في حياة الثالوث الإلهي. ففيها يولد الكلمة ولادةً متجددة من الآب، في الوقت الذي تولد هي مع الكلمة من الآب. وهذه النظرات واحدة من قمم التصوف الإيكهرتي، لكنها أيضًا من أصعب جوانبه.
نفي المتعدِّد
يرى إيكهرت أن السلوك الصوفي محكوم هو الآخر بثيمة النموذج البدئي، كما وبرؤية دورية، أفلاطونية هي الأخرى. فالنفس تصدر أصلاً عن الوحدة الإلهية، لكن الخلق يضعها في القلب من عالم الكثرة، وعليها أن تستخلص نفسها منه من أجل أن ترجع إلى الوحدة. وهذا يقتضي حالاً جذرية من "الفقر"، تستغني فيه النفسُ عن الخلق كلِّه: عليها أن تزهد في كلِّ إرادة خاصة تفصلها عن الله؛ وعليها أن تتخطَّى العناصر المخلوقة كلَّها، بما فيها طبيعة المسيح البشرية بوصفها مخلوقة؛ وعليها أن تتخطَّى الصور، لا بل أدق الآثار التصورية التي يمكن أن ترسب فيها. ويجب عليها أن تبلغ إلى حالة من الزهد المطلق، بحيث لا يبقى فيها أثرٌ لرغبة، حتى في الخير. وهكذا تفنى النفس، فتنكفئ على ذاتها في حركة يطلق عليها إيكهرت اسم "الانطواء". وهي، إذ تتعالى على الكون المخلوق عبر "اختراق" حقيقي، تبلغ عينها (أو نموذجها البدئي) في مركزها، وتلتحق فيه بأحدية الذات الإلهية، محققة نوعًا من عدم التمايز عن الله، نوعًا من "التألُّه". وبهذا يتوصل إيكهرت إلى نظرية أفلاطونية أصيلة، متماسكة، في الاتحاد الصوفي.
ما بعد إيكهرت
لم يكن لمرسوم التكفير في حقِّ إيكهرت غير مدى محدود، فلم يحُلْ دون انتشار مؤلَّفاته؛ وجميع مريدي المعلِّم اعتبروه إدانة في حقِّ مذهب سُنِّي لم يُفهَم حقَّ فهمه. وهذا الانتشار يؤكده العدد الذي لا يستهان به من المخطوطات، ولاسيما للمؤلَّفات الألمانية (أكثر من 200 مخطوطة للمواعظ). وقد دافع عن مذهبه ودققه ونَشَرَه خليفتاه، الصوفيان الدومنكيان الكبيران يوهان تويلر (حوالى 1300-1361) وهاينريش سوسو (حوالى 1295-1366). وقد واصل الفلمنكي يان فان رويسبروك (1293-1381) العمل على الثيمات الأساسية للمذهب الإيكهرتي في تأليف شخصي أصيل.
يبقى أن نقول إن علامة كبيرًا في بوذية زِنْ، جمع العلم إلى الخبرة، هو د.ت. سوزوكي، وضع كتابًا بيَّن فيه نقاط التقاطُع بين البوذية ومذهب إيكهرت الصوفي. واللاهوتي الإنجيلي رودولف أوتو (مؤلِّف الكتاب المرجعي الحرام) خصَّص جانبًا كبيرًا من كتابه تصوف الشرق وتصوف الغرب للتمعن في نقاط الافتراق والوحدة بين مذهب شنكرا الأدفيتي وإلهيات إيكهرت. وكذلك فعل اللاهوتي الروسي المرموق فلاديمِر لوسكي حين بيَّن أن نظرية المعرفة عند إيكهرت تتقاطع مع اللاهوت "السلبي" (كما نجده عند ذيونيسوس الأريوباغي وغيره) الذي يُعَد من المصادر الأساسية للتصوف المسيحي المشرقي. وإن مقاربة مماثلة، تبيِّن التطابق بين مذهب إيكهرت و"وحدة الوجود" الأكبرية، وبينه وبين التصوف الإسلامي إجمالاً (ولاسيما نظرية الجنيد والحلاج في "وحدة الشهود")، لا بدَّ أن تكون مصدر إغناء كبير للخبرات الروحية المعاصرة.