العزيز اسماعيل أحمد ..
بعد التحيّة والتقدير ..

أجد أنّه من الطبيعي أن يُواجه فرويد بهذه الضراوة من الدينيين بشكل عام .. وذلك لأنّه من أوائل العلماء الذين طرحوا طروحات علميّة وجديرة بالدراسة للدوافع التي أدّت لنشأة الدين .. والأساطير .. والآلهة .. وهو من القلائل في عصره ممن تجرّؤوا على دراسة الأديان من الناحية النفسية .. وخصّ بذلك الدين اليهودي في كتاب كامل ..

لكن .. الملفت بالنظر .. أنّ مدرسة التحليل النفسي (وهي الأقوى اليوم في علم النفس) .. والتي شفت الملايين من العصابيّين وأيّدت نظريّاتها بالتجربة .. حوربت وتُحارب اليوم بمجرّد ذكر نظريّاتها وإلحاقها بالقول (أيعقل ذلك .. !! هل هذا كلام عاقل ..!!) .. وما تلك إلا محاربة لا تتجاوز النطاق العامّي .. لم تصل إلى المستوى الأكاديمي .. بل إنّ المآخذ الأكاديميّة عليها مختلفة تمام الاختلاف ..

عقدة أوديب .. ليست مستقاه من هذه الأسطورة التي ذكرتها يا سيّدي .. بل إنّ فرويد اختار "التسمية" فقط من هذه الأسطورة .. كما اختار تسمية "النرجسيّة" مثلاً .. لكن برهان هذه العقدة تمّ بأساليب منطقيّة تعتمد الربط بين المفاهيم المختلفة لمدرسة التحليل النفسي المستقاة من الملاحظات السريريّة .. واعتمدت من ثمّ على التجربة .. وعلى تحليل الأحلام .. وهذيانات العصابيّين .. ومن ثمّ أثبتت نجاعتها في شفاء العصابيّين شفاءً تاماً .. ولليوم نحن لم نصل لدواء مثلاً يشفي هؤلاء .. إنّما الطريقة الوحيدة لشفائهم هي التحليل النفسي .. وحتّى باختلاف المدارس .. فالمدرسة الفرويديّة هي الأقوى سواءً أدرت أنا ذلك أو لم أرد .. وسواءً أردت أنت ذلك أو لم ترد .. (بالمناسبة .. أنا طالب طب وقد كان لي شرف المشاركة في علاج بعض العصابيّين .. بالاستعانة بالمبادئ الفرويديّة)

المشكلة في محاربي فرويد .. أنّهم لا يحاكمون فرويد دون أن يفهموه بل ينطلقون في الحكم عليه من خلال "التابو" الديني والاجتماعي الخاص بهم .. بل إنّهم لا (يعذّبون) أنفسهم بقراءة فرويد .. دون أن أنكر أن قراءة التحليل النفسي صعبة لكن ألا يجدر بنا أن نقرأه على الأقل .. قبل أن ننتقده .. !! ..

فهل لك يا سيّدي أن تعرّف لي ما هو "الجنس" عند فرويد .. !!
هل تعلم أنّ الطاقة الجنسيّة (الليبيدو) .. من الممكن أن تتجّه حتّى (بل هي تتّجه فعلاً في المراحل الأولى من الطفولة عند كل فرد) .. نحو الأنا الفردي قبل أن تتجّه نحو الأم (أو أحد الأبوين) .. !!
أي أنّ هذه الطاقة .. ليست طاقة ذات دافع ميكانيكي بحت .. توجّه هذه الطاقة نحو الأم لا تعني أنّ الطفل يريد أن يمارس الجنس مع أمّه بالمعنى الميكانيكي .. وتوجّهها نحو الصديق .. لا تعنى أنّه يريد أنا يشاطره الفراش ..
بل مفهوم هذه الطاقة أوسع بكثير وإن شمل على ذلك أيضاً ..
فرويد ليس مولّعاً بالجنس .. ولا أدري على ماذا تعتمد هذه النظرة .. وأظنّها لا تعتمد على أكثر من فهم سطحي لمصطلحات التحليل النفسي .. فالغرائز عند فرويد تقسم إلى قسمين :
أوّلاً .. الإيروس (غريزة الحياة بالترجمة العربيّة أو ما أسميتموها الغريزة الجنسيّة) .. ومن ضمنها دوافع حفظ الذات .. أي هي غريزة تجميعيّة .. تهدف إلى الاتحاد .. والتقارب .. وهي سبب ميل الإنسان الاجتماعي .. وميله لحفظ ذاته ..
ثانياً .. غريزة التدمير .. وهي تتجّه نحو الذات نفسها .. وتتخّذ أيضاً من الآخر موضوعاً لها .. أي هي غريزة تفريقيّة .. وهي سبب النزعة التدميريّة عند الإنسان ..
ودائماً تكون الطاقة المتولّدة من هذه الغريزتيّن متمازجة .. يصعب التفريق بينها .. فحينما أنت تأكل .. فاشتهاء الطعام والرغبة بالتوحّد به وابتلاعه يندرج تحت الغريزة الأولى .. بينما تحطيم هذا الطعام بأسنانك يندرج تحت الرغبة الثانية ..
وحينما تشتهي فتاه .. فهذا يندرج تحت الغريزة الأولى .. وحينما ترغب ببطحها وتقبيلها وممارسة الجنس .. فذاك فعل تدميري .. !!!!!! (لاحظ أنّ المفهوم العام للجنس كفعل ميكانيكي .. لا ينطبق تحت بند الغريزة الأيروسيّة عند فرويد .. أليس ذلك صفعه قاسية لمحاربي فرويد إن حاولوا فهمه !!!!!!!!!) ..

من كل ذلك .. قد يتّضح لنا .. سطحيّة النظرة لمصطلحات فرويد .. فالليبيدو (الجنسي) حينما يتّجه نحو الأم .. هذا يعني أنّ الطفل يريد إشباع ميوله وحاجاته المختلفة من الأم .. وأن يتحّد معها .. وبمصطلح عامي .. يعني تضل جنبو .. يستلقي جنبها .. وتداعبو .. وترضعو .. وهو لذلك ينفر من أبيه لأنّه منافس .. وهذا ما يلاحظ عند الأطفال الذكور في ما سمّاه فرويد بالمرحلة القضيبيّة .. في السنة الثانية أو الثالثة من عمر الطفل حتّى الخامسة أو السادسة (تبدأ حينها المرحلة الكمونيّة) .. كما يلاحظ ميل الطفل في هذه المرحلة إلى مداعبة المناطق التناسليّة .. (كتير منلاحظ عند الأطفال بهالمرحلة أنهن بيتخيّلو عضون كفيتيس سيّارة ..)
الانتهاء من هذه المرحلة (بوساطة ما أسماه فرويد بعقدة الخصاء) .. يؤدّي إلى تقمّص الطفل لشخوص الأب والأم في ذاته .. أي ابتلاعهم (وهو مصطلح جنسي في مدرسة التحليل النفسي) .. وبهذا يكوّن حسّه الجمالي وحكمه على الأمور .. أي الرقابة الذاتيّة (الضمير .. الأنا الأعلى) .. وهنا أحب أن أنوّه .. على الجملة التي قالها الزميل اسماعيل : اي انه يقصد بان الانسان لا يحقق ذاته من غير الاشباع الجنسي ،،ويقول بان كل كبت
لهذه الامور الجنسية سواء كبت ديني او تقاليد او عادات انما هو كبت مدمر وكبت غير
مشروع ،،
من قال بذلك يا عزيزي .. !! .. هل تضع الكلام في فم فرويد .. !!
العكس هو الصحيح .. الكبت هو علامة التحضّر عند فرويد .. بل إنّ عدم وجود الكبت وعدم انتهاء المرحلة القضيبيّة وبقاء آثارها بشكل واضح في نفس الإنسان .. هو علامة مرضيّة عند فرويد .. لذلك فرويد لا يشرّع اشتهاء الأخ لاخته أو أمّه بالمعنى الجنسي البحت ولا يدعو للانفلات الجنسي .. بل إلى إشباع الطاقة الليبيدية بأشكال سويّة (تصعيدها بالإبداع والفن .. تفريغها بالرياضة إلخ .. إلخ) .. الكبت الذي يتمّ هنا هو الذي يوثّر على طبيعة الأنا الفردي .. وهو ما يخلق الإبداع .. والفن .. والدين .. والحضارة .. والعلم .. فعن أي أثر مدمّر للكبت تتحدّث .. بل إن الأثر المدمّر هو الانفلات الجنسي التام حسب فرويد وهذا ما يؤدّي لأمراض عصابيّة مختلفة .. وما ذاك أيضاً إلا مسيرة ضد الحضارة والتقدّم .. على الأقل بشكل تاريخي "مرحلي" سيدوم لفترة طويلة في تاريخ البشريّة .. حتّى تتخلّص من الرواسب التاريخيّة ..

لذا.. فقولك : بان الشهوة الجنسية هي التي تظهر بمظهر الاخلاق تارة والعقائد والاديان تارة اخرى،،
غير صحيح بمعتقد فرويد .. الرقابة الذاتيّة "الضمير .. الأنا الأعلى" .. هي الأخلاق والعقائد والأديان .. وهذا الضمير ناشئ عن تقمّص شخصيّة الأب (أو زعيم القبيلة في يوم من الأيّام) والانتهاء عن نواهيه .. وهذا ما يؤدي لكبت هذه الشهوة الجنسيّة (تجاه محارم الأب مثلاً .. أي ما يحرّمه الأب على الابن) .. وتحوّرها .. وتحوّل أهدافها .. وتسقطها (الإسقاط .. أي إسقاطها على الآخر .. أنا أكره فلان .. فأجعله في مخيّلتي يكرهني) .. وقد تحدّث فرويد عن مراحل تاريخيّة معيّنه .. أدّت إلى نشوء هذه الرقابة .. وتوارثها .. وإعادة تمركزها في كلّ منا .. ومن ثمّ تطوّرها .. لتكون سبباً في نشوء العقائد والأخلاق ..
هل عندك تفسير علمي آخر لعدم اشتهاء المحارم "الأم" أو "الأخت" مثلاً .. رغم أنّهم نساء .. والمفترض أنّ هناك دافع غريزي نحو جسد المرأة .. !!!!
جميع التفسيرات الأخرى سقطت .. حتّى "البيولوجيّة" منها (خصوصاً وأننا لا ندرك كينونة الدافع الجنسي).. وبقيت فرضيّة فرويد هي الوحيدة التي لم تتعرّض لأي سقوط أكاديمي ..

وهنا نأتي لسؤالك الأخير :
كيف استدل فرويد على ان اي اختلال روحي يستند إلى حدوث خلل او شيء في الغريزة
الجنسية ؟؟ هذا السؤال هو واتباعه لم يكترثوا له لأنهم وقعوا فريسة ما سماه الزميل خوليو بالمسلمات!! .

لذلك قصّة مدوّنه في مذكّرات فرويد .. لكن هي تعتمد على ملاحظات سريريّة .. الأهم من ذلك .. النصر الأعظم لفرويد هو اكتشاف أنّ الخلل النفسي تعود أسبابه إلى الطفولة .. وهذا ما أيّدته تهيّؤات المرضى وأحلامهم .. وبالغوص بمعانى هذه الأحلام .. يؤدّي إلى العودة إلى مرحلة ما من الطفولة .. كانت سبب الخلل النفسي .. وبنقل المشكلة من حيّز اللاشعور .. إلى الشعور .. ليتمّ محاكمتها منطقياً .. يكون العلاج ..
ووضّحت أعلاه .. أنّ معنى "الغريزة الجنسيّة" عند فرويد .. ليس كما تفهمه أنت ..

سعيد بالتحاور معك ..
وأتمنّى بعد شرحي هذا .. أن تعيد قراءة ردودي السابقة برويّة أكثر .. كما أتمنّى لو أننا نحترم روّاد العلم أكثر .. من أن نصفهم بالمخرّفين .. والمريضين نفسياً .. خصوصاً رجل بحجم فرويد .. وهو الذي وضّح أنّ الهدف من مدرسته إعادة الحياة الروحيّة للإنسان الغربي وصلحه مع ذاته .. بعد أن صار جامداً .. مادياً .. تدميرياً .. لأبعد الحدود .. في فترة الحروب العالميّة .. وهو الرائد الأوّل لعلم التحليل النفسي .. الذي شفى (ويشفي لليوم) العديدين .. مماً لم يكتشف لهم علم النفس الطبي psychiatry دواءً لهم ..
وقد قالها فرويد يوماً .. الفكر الإنساني مرّ بصدمات ثلاثة :
- عن طريق كوبرنيك .. حينما انتقل الإنسان من اعتبار نفسه محور هذا العالم .. إلى اعتبار نفسه ذرّة أمام هذا الكون .. حيث أنّ الأرض بذاتها ليست إلا كوكب يدور في فلك الشمس .. والشمس ليست إلا محور من جملة محاور غير منتهية ..
- عن طريق دارون .. الذي بدّد اعتقاد البشريّة عن الصورة التي كوّنتها لميّزاتها وفضائلها .. وما تلك إلا وليدة تطوّر لتاريخ الإنسان ..
- عن طريق فرويد .. عندما برهن أنّ ديناميكيّة الرغبة الحركيّة .. تكمن في اللاشعور .. لا في الشعور والانا ..

وهذه النظريّات الثلاثة .. تعرّضت ومازالت تتعرّض لكثير من التشويه .. المتعمّد منه .. وغير المتعمّد ..


وأسلم لودّ واحترام ..

خوليو