Array
يبدو طبعا ان هناك عوامل فى منتهى الخطورة هى التى تقوم بتحويل الظاهرة من حالة كمون تحت السيطرة لحالة وبائية فالموضوع ليس تحدى فكرى بالاساس بل نشوء بيئة ازمة مترافقة مع ضعف الدولة المركزية لسبب او لاخر ( وهى فى معظمها عوامل خارجية)
[/quote]

فضل .:97:
بالمصادفة البحتة كانت هذه القضية موضوعا للحوار مع أصدقاء من المهتمين بالشأن الثقافي ،و سأحاول أن أعرض هنا اجتهادات أراها قابلة للنقاش .
كلما تعمقنا هذه القضية ستتكشف لنا جوانب متعددة و أسباب جديدة ، و لهذا من الملائم أن نقصر حديثتا عن الأسباب الرئيسية التي تتولد عنها نتائجا تكون هي أسباب جديدة و هكذا ، متتالية من السبب و النتيجة و السبب.
أريد أن اقول أيضا أن الأصولية هي حالة ثقافية و ليست صفة لدين أو عقيدة ما ، فالإسلام ليس بالضرورة أصوليا و كذلك المسيحية ،و لكن هناك نماذجا من التدين الأصولي المنغلق أو التدين المنفتح الليبرالي ، وهذا ينطبق على الإسلام و المسيحية أيضا ، فالأصولية الآن منتشرة في مصر مثلا بين المسلمين و المسيحيين على السواء ، و لم يكن الحال هكذا منذ 30 او 40 سنة ، هذا يذكرني الآن بحوار كان يديره صحفي مصري معروف هو محمود سعد ،و كان يناقش أحد القسس حول موضوع إنجيل يهوذا فقال له محمود :" وهل هذا ينكر معلوم من الدين عندكم بالضرورة " و أخذ يكرر ذلك بكل سذاجة و كأنه خبير في اللاهوت ، مفترضا أن كل الأديان مشتركة حتى في الخطاب الفقهي أيضا !.
إذا هناك أسباب مستحدثة أدت إلى هذه الظاهرة الثقافية على الأقل في مصر ، أهم هذه الأسباب في اعتقادي هي .
1. نظام التعليم التلقيني الذي يقتل ملكة التفكير و الإبداع و بالتالي لا يتعود الإنسان التفكير و لكنه يتقبل الأفكار التي تأتيه من الخارج بشكل عقائدي مصمت و بدون أي مناقشة أو تمحيص ، بل يعتبر المناقشة الحرة جدلا منهي عنه لأنها تحقير للمعلم أو الفقيه و زيغ في العقيدة ، وهذه الشمولية عموما من سمات المجتمعات الشرقية القديمة ، فالمسلم يردد ما يسمعه في المسجد و التلفزيون و شرائط الكاسيت كالببغاء و كذلك يردد أخوه المسيحي ما يسمعه من القسس و داخل دور العبادة ،و كلاهما يفكر بالنص الديني و ليس فيه ، و كلاهما يصبح بمرور الوقت رمزا للبلادة و نموذجا للإنغلاق و الأصولية ، كذلك فالتعليم العام في مصر سيء جدا ، فهو يركز فقط على التاريخ العربي غافلا التاريخين الفرعوني و القبطي و كلاهما تاريخ وطني خاص بمصر و ليس تاريخا عاما للمنطقة كلها كالتاريخ العربي - الإسلامي ، كذلك فإن دراسة التاريخ تهمل الفترة الليبرالية الإستثنائية العظيمة من عام 1923 حتى انقلاب 1952 أو في أقل القليل تعرضها كنموذج للفساد الذي قضى عليه عسكر 52 ، و هكذا لا يعرف الطالب المصري شيئا عن قيم الوطنية و وحدة عنصري الأمة التي ميزت نظام ثورة 1919 ، هذه الثورة الرائعة التي قادها مسلمون و أقباط عظام و لكنها صارت للأسف بلا امتداد حقيقي في مصر اليوم .
2. يتكامل مع هذا التعليم الرديء نوع من التربية الدينية الشكلية سواء داخل الأسرة أو في المجتمع المحيط ، فالمصري لا يتربى عادة على القيم المدنية كالمواطنة و الحريات العامة و حقوق الإنسان و ... ،و لكنه يتربى على بعض القيم الأخلاقية الذاتية البسيطة مثل طاعة الوالدين و خشية الله و محبة المسيح ... الخ و غيرها من القيم الدينية ،ورغم أهميتها فهي بعيدة عن إعداد المواطن المتحضر كما تعرفه المجتمعات المتطورة القائمة على أساس المواطنة لا الدين أو اللون و الجنس .
3. أرى أن الإعلام هو السبب الرئيسي لتفشي الأصولية في مصر ، الإعلام سواء الرسمي أو الشعبي يركز كله على التعصب الديني و تثمين قيم الجهاد و العداء للمخالف و كلها قيم بدوية وهابية اجتاحت مصر مع الطفرة البترولية ، من المعروف أن الوهابية السعودية شديدة الإلحاح شديدة التطلب ،فالوهابية البدوية التي تعطي الطعام باليد اليمني تعطي أفكارها المنغلقة باليد اليسرى ،و لكنها لن تدفع بتلك الأفكار في أعماق الإنسان و تغريه بالموت من أجلها سوى عند فاقد العقل ضعيف الشخصية .بالرغم من تعرض مجتمعات مشرقية أخرى كسوريا لنفس هذه الظاهرة إلا أن البرجوازية الصغرى المثقفة في مصر أبدت هشاشة غير متصورة ، إن السوري و اللبناني بشكل عام أكثر ممانعة للأصولية الدينية من المصري و الأردني و الفلسطيني و لكن تلك قصة أخرى ، نلاحظ أيضا أن معظم نجوم الإعلام في مصر هم من رموز التعصب الديني ، ولدينا سلسلة طويلة من الشعراوي و كشك و الغزالي و القرضاوي و مصطفى مشهور و مهدي عاكف بل أن هذا التعصب الديني أصبح شرطا للنجومية الإعلامية ، و من أسوأ مظاهر التردي الإعلامي و الثقافي هو تلك المناظرات التافهة بين المسلمين و المسيحيين التي يطرش فيها المتحاورون ما يسمعونه من سخافات و لا تنشر سوى البلاهة و الأحقاد ، رغم هذا فهذه المناظرات واسعة الإنتشار في مصر كأحد مظاهر الغيبوبة الثقافية ، هذه الحقيقة تبقى نفسها بين المسلمين و المسيحيين أيضا ، رغم هذا لا أضع المسؤولية في رقبة المسيحيين كالمسلمين على السواء ، فالتعصب الديني كغيره من صور التعصب هو بالأساس من مسؤولية الأغلبية ثم يأتي التعصب المضاد كنتيجة .
4. الفقر و التخلف و الأمية و هي كلها متلازمة جهنمية و بيئة خصبة جدا لنمو التعصب و الأصولية و العنف ، فالفقير هو دائما معادي للآخر و سيزداد عداء تحت إلحاح التحريض الإعلامي ، لهذا نجد أن التعصب في الصعيد المصري أو في السودان أشد عنفا من الدلتا و المناطق الحضرية .
5. إنسحاب الدولة من القيام بدور فاعل كلاعب ثقافي و داعم للفكر التنويري و التقدمي ، فليس هناك أي مؤسسة حكومية أو إعلامية أو حزبية تدعم الفكر التنويري بشكل علني منهجي بما في ذلك وزارة الثقافة و المجلس الأعلى للثقافة ، أقصى ما تفعله الدولة هي أن تفتح بعض المنابر الصحفية مثل روز اليوسف لكتابات التنويرين مثل سعيد العشماوي و سيد القمني ، و ذلك في إطار مواجهة أعداء الدولة من الإخوان و الجهاديين ، بل هناك تداخل غريب في الأدوار حتى أن صحيفة حكومية مثل الأهرام كانت منبرا للفكر الأصولي و الخزعبلات الدينية لأن رئيس مجلس الإدارة إبراهيم نافع يتكسب من هذه الخدمات الأصولية مستغلا إنعدام رقابة الدولية على ممتلكاتها ، بل تعدى الأمر أن بعضا من القريبين من مراكز القرار هم لاعبون أصوليون أو متلاعبون بالدين الأمر الذي جعل كاتبا مشهورا محسوبا على لجنة السياسات يكتب مقالا عن إخوان الحكومة ، إن الدولة المصرية تدعي موقف الحياد دون أن توضح كيف يتخذ الإنسان موقفا حياديا بين أعدائه و أصدقائه !.
الموضوع واسع و متشعب و يسرني أن اسمع من الزملاء و يمكنا ان نعود مرة أخرى اليه .