{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 0 صوت - 0 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
كيف تحولت إيران من السنة إلى الشيعة؟
طيف غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 1,617
الانضمام: Jan 2002
مشاركة: #1
كيف تحولت إيران من السنة إلى الشيعة؟

كيف تحولت إيران من السنة إلى الشيعة؟

إن الدارس لتاريخ إيران منذ الفتح الإسلامي إلى يومنا هذا يستطيع أن يتبين في سهولة ويسر أنه سار في اتجاهين متعاكسين، كل منهما يختلف عن الآخر، اختلافاً بيناً .

أما الاتجاه الأول، منذ شروق الإسلام في إيران إلى بداية القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي، فقد غلب عليه الفكر السني وهو اتجاه سار فيه تاريخ إيران منذ الفتح الإسلامي إلى قيام الدولة الصفوية باستثناء دولة آل بويه. أما الاتجاه الثاني فقد غلبت عليه الصبغة الشيعية المبتدعة، وهو اتجاه سار فيه تاريخ الإيرانيين منذ قيام الدولة الصفوية الشيعية، في عام 906هـ/ 1500م ثم إعلانها المذهب الشيعي الإمامي مذهباً رسمياً لإيران من عام 907هـ / 1501م، أي منذ خمسة قرون من الزمان .

وقد كان لغلبة كل صبغة من هاتين الصبغتين أثر واضح في توجيه مظاهر النشاط البشري في إيران وفي رسم سياستها الخارجية وفي تحديد صلاتها بالبلاد الإسلامية وغير الإسلامية التي جاورتها أو اتصلت بها.

وأحداث التاريخ الإسلامي، قديماً وحديثاً، خير شاهد على صحة ما نقول، فقد ساهمت إيران في بناء صرح الحضارة الإسلامية الراقية - كما يفتخربذلك علماء الشيعة الإيرانيون اليوم(2) حين كان الفكر السني غالباً على النشاط البشري فيها، فكان كثير من علماء المسلمين، من مختلف العلوم والفنون، من الإيرانيين، كما ساهم مجاهدون من الإيرانيين السنة في نشر الإسلام في ربوع آسيا، فأوصلوا نور الإسلام إلى شعوب التركستان وآسيا الصغرى والهند والشرق الأقصى وحتى وصل المسلمون إلى حدود الصين .

كما أن لغلبة الفكر الشيعي على إيران أثر في النزاعات الإسلامية والفتن الطائفية، لأن الخلافات المذهبية بين الشيعة في إيران بزعامة الدولة الصفوية وأهل السنة في العالم بزعامة الدولة العثمانية وشيبك خان الأوزبك في شمال إيران أدت إلى اشتعال نيران الحرب بين المعسكرين السني والشيعي، وتبادل الطرفان الانتصارات والهزائم، ودامت الحروب بينهما أكثر من قرنين من الزمان مما نتج عنه إنهاك قوى المعسكرين وهذا الذي أراده حماة الشيعة الصفوية، وتمكين المستعمرين من الغرب الصليبي من احتلال أكثر ديار المسلمين وكان للشاه اسماعيل الأول ثم الشاه عباس الثاني النصيب الأكبر في تعميق شرخ الخلافات السياسية والمذهبية بين إيران والدولة العثمانية وقد استعان الشاه عباس بالصليبيين والإنكليز الذين أمدوه بالسلاح الناري الحديث .

ويمكن القول بأن جذور الخلافات المذهبية قد ساهمت في إيجاد الكثير من المشاكل التي تعرف اليوم بمشاكل الشرق الأوسط . حتى أن الحرب في الخليج التي دامت ثماني سنوات ابتداء من أيلول 1980م ولغاية 1988م بين كل من إيران والعراق إنما كان العامل الرئيسي في إشعالها هو العامل الديني وبالتالي العوامل الإقتصادية والإجتماعية والسياسية .

وهذه الدراسة عن تحول الفكر الإسلامي في إيران تصور جانباً من واقع العالم الإسلامي المعاصر وتبين أثر الخلافات المذهبية في تمزيق صفوف المسلمين، وإشعال نار العداوة والبغضاء بين شعوبهم وتلقي الضوء على الظروف الاجتماعية والفكرية التي أدت إعلان التشيع مذهباً رسمياً للدولة والمجتمع الإيراني وأسارع إلى تلخيصها فأقول :

1- الظروف الاجتماعية في العهد التيموري في القرنين الثامن والتاسع الهجريين التي أعطت فرصة كبيرة للتصوف وهي بذلك مهدت إلى التشيع .

2- التصوف نفسه الذي تأثر بالتشيع وكان المجتمع الإسلامي آنئذٍ تحت نفوذ الصوفية ورجالها .

3- والسبب المباشر، وهو قيام الدولة الصفوية بزعامة الشاه إسماعيل الذي أرغم الناس على التشيع .

بدأ الفتح الإسلامي لإيران في زمن الخليفة الراشد(1) أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه حين أمر خالداً بالسير إلى العراق في محرم(2) سنة 12هـ / 624م إلا أن سيطرة المسلمين على الأراضي الإيرانية المختلفة استغرقت قرابة عشر سنوات(1) بعد انتصارهم المبين في نهاوند(2) في عام 21هـ / 643م .

ولكن السبب في طول المدة كان نتيجة لاتساع رقعة الأراضي الإيرانية وليس نتيجة لوجود مقاومة من جانب يزدجرد الثالث الذي أفل نجمه بعد هزيمة جيشه-عند نهاوند- وظل هائماً على وجهه إلى أن قتل في عام 31هـ فكان هذا التاريخ نهاية للدولة الساسانية، من الناحية التاريخية ولكن نهايتها الحقيقية الفعلية كانت في عام 21هـ بعد هزيمة يزدجرد الثالث في موقعة نهاوند الفاصلة الحاسمة .

لقد أعجب الإيرانيون بما في الإسلام من عدل ومساواة وسماحة ويسر فاستظلوا بظله، وحسن إسلامهم فأخلصوا له، وحرصوا على نشره وقد ساعد على انتشار الإسلام في إيران وظهور الصبغة السنية فيها هجرة كثير من القبائل العربية إلى الأراضي الإيرانية(3) والإقامة فيها، ثم اختلاط أفراد هذه القبائل العربية بالإيرانيين وارتباطهم بهم برباط المصاهرة، مما أدى إلى اختلاط الدماء وتداخل الأنساب وزيادة النفوذ الإسلامي والتأثير العربي في الأراضي الإيرانية .

وكان استقرار القبائل العربية المهاجرة إلى إيران واضحاً في القسم الجنوبي الشرقي-بلوشستان- من إيران نتيجة لموقع إيران الجغرافي، غير أن الصبغة الإسلامية السنية لم تلبث أن سيطرت، تدريجياً، على سائر أنحاء إيران غرباً وشرقاً وجنوباً وشمالاً، علماً أن الفتح الإسلامي قد دخلها من طرف الغرب بسبب الموقع الجغرافي .

وظلت الصبغة السنية في العهد الراشدي وطوال العصر الأموي والعباسي إلى أن ظهرت نزعة الاستقلال عن العرب في إيران منذ أوائل القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، وازدادت بعد ذلك في عهود الدول التي خلفت الدولة الطاهرية، كالدولة الصفارية والدولة السامانية والدولة الغزنوية، إلا أن الصبغة السنية ظلت غالبة على مظاهر النشاط البشري في إيران .

وكان ظهور العنصر التركي في العالم الإسلامي السني عاملاً مساعداً على تقوية الصبغة السنية على جميع مظاهر النشاط البشري في جميع الأقطار الخاضعة للنفوذ الروحي للخليفة العباسي السني، لأن الأتراك كانت تغلب عليهم صفة البداوة فإذا آمنوا بشيء تمسكوا به تمسكاً شديداً، ودافعوا عنه بقوة، ولم يقبلوا عنه بديلاً .

وبدأت الدول التركية تظهر في إيران المسلمة السنية منذ القرن الرابع الهجري، وكانت الدولة الغزنوية هي أول دولة تركية قوية مشهورة ظهرت في إيران في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، مع أن ثقافتها كانت عربية وفارسية، وبلغت ذروتها في عهد محمود الغزنوي الذي استطاع أن يسقط كلاً من الدولتين السامانية والزيارية، وأن يستولي على كثير من ممتلكات البويهيين في الهضبة الإيرانية وأن يدفعهم إلى غربي الهضبة، وقد أخذ تاريخ إيران يدخل في ظل الإسلام_ مرحلة جديدة أكثر أهمية وأخلد أثراً كما أخذت الصبغة السنية تزهو في هذه البلاد بصورة واضحة ملموسة، وكان الاتهام بالتشيع كافياً لإعراض السلطات عن كل من يتهم بهذه التهمة كما حدث للفردوسي مع محمود الغزنوي .

ولهذا كله تحامل بعض الإيرانيين المحدثين على السلطان محمود وحاولوا الغض من روعة جهاده وفتوحاته بتشويه تاريخه، وإذا كانت الحقيقة العلمية هي غاية الدارسين فينبغي أن نقرر أن السلطان محمود الغزنوي من أعظم حكام المسلمين وأبطالهم الذين أبلوا بلاء حسناً في نصرة الإسلام ونشره في الآفاق، وساهموا في بناء الحضارة الإسلامية بتشجيعه لبُناتها من العلماء والأدباء كما أنه خدم اللغة الفارسية وآدابها وقد شهد عصر محمود الغزنوي ظهور قوة تركية جديدة وهي السلاجقة، ومن الحق أن نقرر أن خروج الطوائف التركية من مواطنها الأصلية- في وسط آسيا- وتسربها أحياناً، واندفاعها أحياناً أخرى إلى غربي آسيا وشرقي أوروبا ووسطها من الحركات العالمية التي شهدها التاريخ(1) - كما يعبر عنها الدكتور عبد النعيم حسنين(2) - وهي حركة استمرت سبعة قرون من القرن الرابع الهجري( العاشر الميلادي) إلى القرن الحادي عشر الهجري(السابع عشر الميلادي) .

لقد كانت موقعة ملازكرد(3) من المواقع الحاسمة في التاريخ الإسلامي بعامة وفي تاريخ غربي آسيا بخاصة، لأنها زعزعت أركان دولة الروم، وقضت على نفوذهم في أكثر أجزاء آسيا الصغرى بعد ذلك، فكانت- لهذا- بعيدة الأثر في مختلف نواحي الحضارة في هذه المنطقة، فقد أدى أفول نجم الروم من أفق منطقة آسيا الصغرى إلى انكماش نفوذهم حين أخذت أجزاء كبيرة من بلاد الروم تفلت من أيديهم وتنضم إلى العالم الإسلامي، مما أدى إلى حلول الحضارة الإسلامية محل الحضارة اليونانية النصرانية، وصارت هذه المنطقة من بلاد المسلمين، وصار أهلها يتبعون مذهب أهل السنة الذي كان متبعاً في إيران، حيث كان المسلمون يدينون بالطاعة والولاء للخليفة العباسي الذي كان مقره في بغداد عاصمة دولة الخلافة. كما أخذت اللغة الفارسية تنتشر في ربوع آسيا الصغرى لأنها كانت لغة الجنود الذين فتحوا هذه البلاد، وهي اللغة الإسلامية التي تلي العربية في أهميتها.

وهكذا يسر انتصار السلاجقة(4) السنيين في موقعة ملازكرد في (463هـ / 1071م ) إحداث هذا التحول الكبير في منطقة آسيا الصغرى، وما زالت آثاره ملموسة إلى يومنا هذا، مما جعل هذه الموقعة إحدى المواقع الحاسمة في التاريخ الإسلامي بعامة وفي تاريخ السلاجقة وغربي آسيا بخاصة .

وقد قامت الحروب الصليبية في عام 487هـ/1095م(1) بعد موقعة ملازكرد بربع قرن من الزمان تقريباً، فكانت نوعاً من الأخذ بالثأر من السلاجقة المسلمين المتمسكين بالمذهب السني، فقد تمكن الصليبيون من الاستيلاء على بيت المقدس بمساعدة بعض الشيعة، في عام 492هـ = 1099م، بعد أقل من ثلاثين عاماً من هزيمة الروم في تلك الموقعة، واستطاع السلاجقة وأحفادهم في بلاد الشام وقوادهم من الأكراد أن يساهموا في قتال هؤلاء الحاقدين، وتمكنوا، في النهاية، من القضاء عليهم وطردهم من بلاد المسلمين وتقوية المعسكر السني .

ويمتاز العصر السلجوقي في إيران بأنه عصر ظهرت فيه الصبغة السنية في جميع مظاهر الحضارة الإيرانية بحيث عدَّ الشيعة الغلاة(2) - الإسماعلية من أتباع حسن الصباح- بنظر الشيعة أنفسهم، مرتدين خارجين عن الإسلام ووصفوا بأبشع الصفات، وهم الذين اغتالوا نظام الملك الطوسي الوزير الشهير، كما أنهم تمكنوا -أي السلاجقة- بعد انتصارهم على الروم من نشر الصبغة السنية على ألوان النشاط البشري في هذه المنطقة إلى يومنا هذا .

وكان سقوط السلاجقة في عام 590هـ /1194م بداية النهاية بالنسبة للخلافة السنية في بغداد، فقدصادف سقوط السلاجقة ظهور المغول(3)- الذين دعاهم علماء الشيعة مثل الطوسي وابن العلقمي الوزير لتدمير بغداد- وبروز خطرهم على الاسلام السني، وبرغم وثنية المغول فإن الصبغة الإسلامية السنية ظلت سائدة واضحة في إيران بعد سقوط دولة الخلافة العباسية السنية. بل إن قوة الحضارة الإسلامية السنية المستقرة في إيران لم تلبث أن أثرت فيهم فبدأوا يغيرون من عاداتهم الوثنية وأخلاقهم البدوية ويلبسون أنماطاً جديداً من الملابس إلى أن دخلوا في السلم كافة منذ عهد آباقا خان الذي سمّى نفسه أحمد وكان ذلك في عام 680هـ/ 1181م، أي بعد مرور أقل من ربع قرن على سقوط دولة الخلافة العباسية السنية(1) ، وصار حكام المغول مسلمين- منذ ذلك الوقت- فأصبحوا رعاة للحضارة الإسلامية السنية، وأخذ صرح هذه الحضارة يواصل ارتفاعه في العصر المغولي، فنشطت العلوم والفنون وكثر الإنتاج الأدبي وألفت الموسوعات التاريخية كما ألفت كتب قيمة في الطب وعلم النبات والطب والعلوم الطبيعية .

وهكذا ظلت الصبغة السنية غالبة واضحة في إيران بعد سقوط دولة الخلافة العباسية السنية على أيدي المغول الذين غَلَبوا عسكرياً ولكنهم غُلبوا حضارياً، وتركوا وثنيتهم، ودخلوا في الإسلام وصاروا من جنوده المدافعين عنه والحامين لحضارة الإسلام إلى أن خلف تيمور المغول وبقيت الصبغة السنية ظاهرة غالبة في إيران في ظل الدولة التيمورية التي شجعت العلوم والفنون وزادت صرح الحضارة الإسلامية الراقية ارتفاعاً وشهرة، غير أن الدولة التيمورية أخذت تفقد تماسكها بعد وفاة تيمور في عام 807هـ = 1404م، فقد كثرت المنازعات والحروب بين أبنائه وأحفاده(2) . فاستفادت القبائل التركية المقيمة في القسم الشمالي الغربي من إيران من هذا التفكك في البيت التيموري، وأخذت تقتطع أجزاء من ممتلكات الدولة التيمورية، فتمكنت قبائل القره قيونلو (أصحاب الخراف السوداء) من الاستيلاء على إقليم آذربيجان في 811هـ / 1408م ، كما تمكنت قبائل الآق قيونلو( أصحاب الخراف البيضاء) من هزيمة القره قيونلو والاستيلاء على الإقليم الغربي من إيران الذين أصبحوا من جنود المتحمسين للشاه اسماعيل الصفوي الشيعي، بينما كان أبناء تيمور يحكمون الإقليم الشرقي من إيران وظلوا يحكمون هذا الإقليم حتى عام 911هـ/1509م .

وكانت الصبغة السنية هي الغالبة الواضحة في إيران-برغم سقوط الخلافة العباسية- فظلت ظاهرة في أثناء غلبة المغول والتيموريين والقره قيونلو والآق قيونلو أي طوال قرنين ونصف من الزمان بعد سقوط دولة الخلافة، وواصلت مظاهر الحضارة الإسلامية السنية ازدهارها مصطبغة بهذه الصبغة، فلم تتغير إلا بعد قيام الدولة الصفوية الشيعية الغالية في عام 906هـ/1500م وإعلانها المذهب الشيعي الإمامي مذهباً رسمياً في إيران في عام 907هـ /1501م، فاتخذ تاريخ إيران وحضارتها الإسلامية اتجاهاً جديداً مغايرا، واصطبغ بصبغة جديدة منذ ذلك الوقت إلى يومنا هذا . ولم تعد إيران إلى رحاب السنة مرة أخرى على خلاف ما كان في مصر مع الدولة الفاطمية، وربما يعود سبب ذلك إلى أن الفاطميين وإن ضيقوا على السنة كثيراً لكنهم لم يشهروا السيف ليغيروا عقائد السنة من جهة ثم مجيء الأيوبيين(1)من بعدهم وطمس كل آثارهم من جهة ثانية، لكن في إيران لم يتبع الأسلوب ذاته ولم ينجح الشاه اسماعيل الثاني في محاولاته إلى أن أغتيل بيد الشيعة.

فلهذه الأسباب كلها اخترت هذا الموضوع الخطير سياسياً والمهم عقائديا لأرى وأبحث وأقارن بما أصيب به الفكر الإسلامي في إيران -من التشيع والتصوف والفلسفة- بما أصابت به النصرانية في أوروبا على حد قول الدكتور محمد إقبال اللاهوري(2) ، ونرى من ضمن البحث أن هذه الأسباب سياسية وفكرية في الوقت نفسه، وليس لي من هدف إلا الوصول إلى الحق وما يوصلني البحث العلمي المجرد والعلم الذي يسأل عنه صاحبه. ولذا بحثت في التاريخ والعقيدة معاً ؛

أما في العقيدة فلأن أول مقتضيات دراسة الفرق والأديان هو دراسة العقيدة، وأما في التاريخ فلأن التحول الفكري فيما نحن بصدده في العصر الصفوي، القرن10هـ / 16م لا يعدو كونه معرفة تاريخية استغرقت خمسة قرون في إيران، ولذا كان علي أن أعتكف في مكتبات إيران، خاصة في مكتبة جامعة طهران، أشهراً عديدة لأبحث في بطون الكتب الفارسية، ويحزنني أني لم أجد من البحوث العلمية المجردة ما يشبع نهمي، بل كل ما وجدته لا يعدو أن يكون دراسات غير علمية منحازة ونظرة إلى التاريخ بخلفيات سابقة عمياء لا تغني ولا تسمن، إلا بعض الدراسات التي قام بها الدكتور ذبيح الله صفا في كتابه القيم "تاريخ أدب در إيران" في مجلداته الخمسة، وهو وإن كان يكتب بروح علمانية بهلوية قوية، ولكنه جاء ببحوث لا بأس بها من النزاهة العلمية ، كما أني استفدت- مع الأسف- من دراسات بعض المستشرقين النزيهة، خاصة من كتاب برتولد أشبولر عن تاريخ المغول في إيران .

ومن الصعوبات التي واجهتني بصدد البحث عن الأسباب التي أدت إلى تشيع إيران هي أنه لم يتناول أحد هذا البحث لا من قريب ولا من بعيد (1) إلا كتب تاريخ الأدب لما تكلموا عن الوضع الأدبي في العصر الصفوي وهذا مما يؤسف له لأن الموضوع بمكان من الأهمية يستأهل أن يجلب اهتمام الباحثين، وربما سبب ذلك يعود إلى الأخطار السياسية أو الاجتماعية، والذي كتب في هذا الموضوع من أبناء إيران نفسها كالعلامة فضل الله بن روزبهان الشيرازي الخنجي، لم يبق منه الشيء الكثير، ولذا كثيراً ما عانيت في هذا الموضوع، ولم أجد بداً من الرجوع إلى كتب تاريخ الأدب في هذه العهود وكتب التاريخ بدلاً من كتب الفكر والسياسة، والمشكلة الثانية في بحثي هذا، هو الخطر السياسي الداهم، مع أني حاولت قدر المستطاع أن يكون البحث نزيهاً وصورة عما وقع بالفعل، لكن التعصب الأعمى لا يفرق بين العلم والجهل وبين الحق والباطل، وغير هذا، فقد كلفني السفر بين بيروت وإيران وغيرهما من البلدان، وخاصة لما كانت بيروت غير آمنة الشيء الكثير وقد تعرضت مرة للخطف بيد مليشيات أمل الشيعية الإرهابية القتلة دون ذنب وجرم .

هذه أهم المصاعب التي واجهتها، وأما الموضوعات التي عالجتها، فبدأت بجغرافية إيران مجملاً، ثم تاريخ إيران من عصر ما قبل التاريخ حتى العهد الساساني، ثم تعرضت لإيران في العهد الإسلامي، وذكرت كيف أن العنصر الإيراني استفاد من الوضع الجديد، وتقدم تحت علم الخلافة إلى أن استطاع إقامة إمارات شبه مستقلة وما أن وصل العهد البويهي حتى أخذ الاستقلال التام وكذا في العصر الساماني وبعده... تكلمت بكثير من الاختصار عن المذاهب المنتشرة في إيران قبل تحولها إلى التشيع، ومن ثم عرجت على التصوف بشيئ من التفصيل، وبينت أن التصوف كان جسراً للتشيع، لا بل أداة من أدواته ، وألقيت نظرة إلى الأرضية التاريخية للشيعة وبدء تطرفهم في الكوفة ثم إلى العهد التيموري الذي كانت الظروف السائدة في المجتمع هيأت المجال للتصوف ومن ثم التشيع وما أن وصل الشاه اسماعيل في عام 906هـ / 1500م ، حتى استغل كل هذه الظروف ليبلغ أهدافه السياسية للوصول إلى الحكم فاستغل التصوف والتشيع وكل هذه الظروف الاجتماعية.

ثم عرضت بشيء من التفصيل إلى سياسته الخارجية والداخلية وتبين لي كيف أنه أدخل في التشيع ما لم يكن فيه وكيف كان عاراً على وجه التاريخ الإسلامي-لأول مرة- بتعاونه مع الصليبيين لضرب المسلمين.

وبعد ذلك تعرضت بشيء من التفصيل الطويل إلى مسار الفكر الشيعي منذ قيام دولة آل بويه الشيعية حتى سقوط بغداد، وتطرقت إلى دراسة الفكر الشيعي في العهد التيموري السني وصلته بالتصوف، كما درست الفكر الشيعي خلال الحكم السلجوقي السني ثم ألقيت الضوء على الفكر الشيعي منذ سقوط بغداد إلى قيام الدولة الصفوية، ومن قيام الدولة الصفوية حتى سقوطها في إيران، كما أني بيّنت مستحدثات كل دولة شيعية في التشيع والشيعة، ثم توصلت إلى نتائج في بحثي المفصل وذكرت ذلك في الخاتمة.

وأتمنى أن يتناول الباحثون هذا الموضوع المهم، ويعطوه شيئاً من الأهمية، ويكفي أني أثرت الموضوع وحبوت حبو الأطفال لألفت نظر الباحثين، وإن نجحت بشيء من ذلك فلله الحمد، وإن لم أنجح فيكفيني أني بذلت كل ما في وسعي .

1- انتشار الإسلام في إيران :

إن كل من يريد أن يحصل على معلومات حقيقية وعميقة عن بلد من بلدان الشرق، فيجب عليه أن يسعى جاهداً ليحصل على تصور صحيح عن الوضع الديني للبلد الذي يدرسه، ويصدق هذا الأمر على بلاد فارس (إيران) في العهود الواقعة ما بين القرن الأول والقرن الخامس الهجري [الموافق للقرن السابع إلى الحادي عشر الميلادي] إذ أن هذه القرون تشكل العهود التي ترك فيها هذا البلد دينه القديم الذي كان يدين به مدة طويلة، إنه دين المجوسية المنسوب إلى زرادشت، وأقبل على الإسلام الذي كان ينمو ويتوسع آنذاك، وصدق هذا المعنى أن الإسلام تجاوز الحدود من دين وطني عربي إلى دين له صبغة عالمية ولكافة البشر، صدق هذا المعنى وبشكل لا مثيل له على الشعب الإيراني . ولكن مع هذا فإن مسير الدين هنا يختلف تماماً عنه في كثير من الدول الآسيوية القريبة، حيث أن معظم الإيرانيين استجابوا للدين الجديد دون ضغط وقوة تذكر من قبل الفاتحين وفي خلال قرون قليلة، أما في بلاد الشام (سوريا، لبنان، فلسطين) ومصر والأندلس (أسبانيا) فقد حفظت الفئات المسيحية الكبيرة وجودها واستمر الصراع مع المسلمين وقاوموا وبقوا في تكتلات صغيرة كما في مصر وبلاد الشام، ولكن معظم إيران أصبح بلاداً إسلامية بأكملها إلا أنها في ذات الوقت لم تفقد صفاتها وانتمائها القومي خاصة إبان نهضة الشعوبية في العصر العباسي، فقررت خلال قرون طويلة أن تجعل من الإسلام مذهباً يوافق وجودها ويناسبها، كما صرح بذلك الملك الإيراني الأخير(1) البهلوي، حينما سئل عن سر الفتور في العلاقة بين الشعب الإيراني والعرب بشكل عام؟ فأجاب: "إننا قبلنا الإسلام من العرب ولكننا لا ننسى أن العرب هم الذين أزالوا دولتنا القوية". وفي كلام أحد أدباء إيران المعاصرين الدكتور سعيد نفيسي قال في هذا الخصوص : نحن الإيرانيين أخذنا من الإسلام قطعة تناسب مقياسنا حتى لا نندمج مع بقية المسلمين كالعرب والهنود والأتراك، فنحن نتميز عن هؤلاء جميعاً ولا نريد الاتحاد معهم .

وقد تفاعل الخوارج في (إيران) مع دعاة التشيع وبعض رجال التصوف الأعجمي على تأكيد التمايز بين الإيرانيين وسائر المسلمين، كما يقول الدكتور إقبال اللاهوري، مع أن منشأ هذه الحركات الدينية في الأساس لم يكن في إيران، ومن العجيب أن الشعوب في بلاد الشام وبين النهرين ومصر وشمالي أفريقية تخلوا حتى عن لغتهم الأصلية وتعربوا بعد الإسلام، مع أن بعض لغاتهم كالآرامية والقبطية كانت تمتد حضارياً وتاريخياً إلى آلاف السنين، ولكن النصارى في هذه البلاد سرعان ما تكلموا بلسان العرب المسلمين الفاتحين بعد ذلك حتى بلاد الروم العريقة في حضارتها اقتبست لغة الفاتحين الأتراك بل وأصبحوا أمة تركية بكل ما في الكلمة من معنى، ولكن الوضع بالنسبة لإيران كان يختلف تماماً، حيث استطاعت هذه البلاد أن تحفظ لغتها حتى في ظل حكم العرب لها وسيادتهم عليها(2) .

ولا يمكن تعليل هذا الأمر فقط بقلة المهاجرين العرب إلى إيران، لأن العرب في أمكنة ذات سكان كثيرة أخرى كأطراف نهري دجلة والفرات ونهر النيل أيضاً كانوا قلة، كما لا يمكن تبرير هذا الأمر بتقارب المصطلحات والعبارات المتداولة في تلك الأزمنة، وهذا لا يمكن أن يكون سبباً كافياً لبيان هذا الأمر، لأن لسان الأقباط -على سبيل المثال- لم يكن له أي ارتباط مع اللسان العربي في تلك الأزمنة .

ولذا يستحسن أن نتابع قضية انتشار الإسلام في إيران بجميع فروعها وجزئياتها، لنقترب من حل المعضلة المذكورة ويجب أن ننتبه في هذا الفصل إلى موضوع توسع الإسلام وقواعده وبنائه ورسوخه وبقائه في إيران .

وفي الفصول الآتية يجب أن نبين بعد ذلك وضع سائر المذاهب في هذا البلد، وقبل كل شيء دين زردشت (المجوسية) دين البلد، ورد فعله في أوائل القرون الوسطى في إيران .

لقد وصل المسلمون -العرب- إلى هدفهم المنشود بسرعة بالغة وبكل بساطة فيما يتعلق بمواطنيهم المسيحيين (وإن لم تكن كل قبائل النصارى قد أسلمت)، ولذا فلا غرو أن نرى الجنود العرب الذين كانوا يقاتلون كمرتزقة في جيش إيران يقبلون على الدين الجديد بسرعة بالغة وبالتتابع، حتى أننا نعلم أن المسلمين -عن قصد- دعوا هؤلاء الجنود بمواطنيهم -وعلى الغالب نجحت سياستهم هذه- وطلبوا منهم أن يدخلوا في الإسلام كي يصلوا بهذه الوسيلة إلى النتيجة المطلوبة وهي إضعاف جيش إيران في المواقع الحساسة(1) ولكن بالنسبة إلى الفرس فإن الوضع كان مختلفاً جداً، إذ أن تخليهم عن عقيدتهم كان يعني ضياع وطنهم ودولتهم .

ولكن في الوقت نفسه فإن الحروب المتمادية في السنوات الأخيرة من الحكم الساساني مع تدني مستوى الأخلاق الناتجة عن هذه الحروب جعل الأمر يصل إلى درجة أن بعض الإيرانيين أقبلوا على الإسلام منذ بداية أمره ولا يمكن إرجاع هذا السبب -فقط- إلى تلاشي البناء الاجتماعي للدولة، (لأننا لا نملك دليلاً كافياً عليه) وهؤلاء الذين استجابوا للدين الإسلامي كما نعلم كانوا من الضباط ومن ثم كان يتبعهم عدد من الجنود(2) .

وكان هدفهم الوصول إلى التساوي العسكري(3) والاجتماعي والاقتصادي مع العرب، والسبب الذي أظهره هؤلاء لقبولهم الإسلام كان اهتمامهم واحترامهم للنجاح العسكري الذي حققه العرب(4) حتى أن قائد فئة من الجنود الإيرانيين الذي أسلم أظهر ذلك صراحة وبكل التأكيدات(5) .ويمكن أن نعد هذا سبباً حقيقياً بحيث نفسره بأن هؤلاء أرادوا أن يحتفظوا بوضعهم الاجتماعي بين أقوامهم حتى بعد هزيمة دولتهم الساسانية، لذا لما رأى مواطنوهم وزملاؤهم الدهاقين الذين كانوا يشكلون العناصر الأصلية للدولة لما رأوا أن هؤلاء استطاعوا فعلاً أن يحتفظوا بمراكزهم بهذه الطريقة استجابوا للإسلام، إضافة إلى انهم كانت لديهم معرفة بالمذاهب التوحيدية من خلال اطلاعهم على المانوية والمسيحية(1) والعرب أيضاً لم يتركوا عادتهم هذه، حيث عرضوا الإسلام على الفئات صاحبة النفوذ والكلمة في هذا البلد ونحن نسمع مراراً أن حوادث كهذه وقعت فعلاً مراراً وتكراراً خلال سنوات متمادية، بل خلال قرون متمادية، وعلى سبيل المثال في سنة 653(2) م، 700(3) ، 730(4) ، 830(5) ، وفي عام 893(6) و895(7) ، وحدث هذا بالنسبة لجد العالم الجغرافي الشهير خردادبه(8) والكاتب الشهير عبد الله بن المقفع (روزبه-القرن الثامن الميلادي) وشاعر من الديلم (1003/1004)(9) وحدث هذا في بعض الأحيان بترغيب من شخص الخليفة(10) .

وقد رتبوا مجالس بحث ومجادلة ومناظرة لهذا الأمر حيث كان مشهوراً ومعمولاً به من قديم الأيام في بلاد الشرق(11) كما حدث هذا في عام 817م، من جانب الخليفة المأمون في مرو حيث عقد مجلس بحث وجدال بين المسلمين واليهود والمجوس دون أن يضطر المجوس إلى قبول الإسلام إكراهاً(12) .

وفي جميع الأحوال التي ذكرناها فإن النجاح الذي أحرزه العرب كان متشابهاً في كل مكان، فقد أقيمت المساجد(1) في كل مكان وكان الأشراف والأعيان والقواد يدخلون في دين الفاتحين، وفي المقابل كان العرب الفاتحون يقرون هؤلاء على ملكهم ونفوذهم كما كان، بل كانوا يعززون الصلة بهم عن طريق الزواج(2) .

والمراجع الإسلامية تدل دلالة واضحة على أنهم لم يلجئوا إلى الضغط والقوة ليدخلوا الناس في الإسلام وإن كان هناك بعض حالات الشذوذ والاستثناء فإن هذا ليس من الدين نفسه(3) .

وعومل المجوس منذ البداية كأهل الكتاب أو الذين كان يتعامل معهم معاملة أهل الكتاب، وكأن هناك أعداد قليلة في القرون الأولى فضلوا الهجرة إلى الهند على قبول دين الفاتحين(4) بقاياهم فيها إلى الآن .

مما لا شك فيه أن موقع الدهاقين بدوره كان يوجب على أكثرية اتباعهم الدخول في الإسلام وعلى هذا المنوال، خاصة في شرقي إيران، أي في خرا سان، دخل كثير من أتباع الدين السابق في الإسلام وبناءً على هذا وفي الدرجة الأولى انتشر الإسلام أولاً بين الطبقات العليا، أي بين الذين كانت ثقافة إيران بيدهم، والذين كانوا متشبعين بالروح القومية ويحفظون تراثهم المملوء بأحاديث شجاعتهم ورؤيتهم الخاصة للحياة(5)، وفي هذا القسم يكمن بعض الجواب عن سؤالنا فيما يتعلق ببقاء الثقافة الإيرانية واللغة الفارسية في العهود الإسلامية إلى عهدنا هذا، وبدهي أن هذا السبب لا يشمل جميع بلاد فارس، خاصة سكان المدن وجميع الفئات القروية التي كانت مباشرة تحت الحكم الإسلامي، لكن حتى في هذه المناطق أيضاً غرس الإسلام بشكل أساسي وعميق، يعني أن المدن رغبت في الحكومة لأسباب سياسية واشتاقت إلى قدرة الحكم، والعمال المجوس (الذين كانوا يتناولون النار والماء والتراب) قد كانوا موضع التحقير ولذا رأوا حريتهم ونجاتهم من هذا الضغط النفسي في قبول الإسلام، فضلاً عن هذا فإن وجود الخير والشر في دين زرا دشت قد جعل الضغط النفسي في قبول الإسلام لدى أتباع زرا دشت ميسوراً، إذ أن تصور قوتين موجودتين في دين زرا دشت يعني الخير والشر يمكن البحث عنهما في تصور وجود الله وإبليس والآراء المذهبية الأخرى كخلق الكون في ستة أيام والجنة والنار والملائكة والشياطين وهذا الرأي يدل على ان الشعب الإيراني كان مستعداً لقبول الدين الجديد نظراً لوجود عدة قضايا مشتركة كالإيمان بالخير والشر والحساب والجزاء(1) .

لذا يمكن القول بأن ترك الدين القديم وقبول الدين الجديد لم يكن بالأمر الصعب .

وفي هذا الوقت قد وجدت سلسلة من الكتب والمناظرات الجدلية وموسوعة رسمية للإعلان والدعاية من قبل الذين آمنوا بالدين الجديد(2) .

وقد صنف المؤمنون من الأعاجم في طبقة الموالي أي من الإيرانيين الذين آمنوا حقاً، ولم يبالوا بالاعتراض على سلوك الحكومة السياسي لأنهم كانوا يعتقدون ان النجاة الحقيقية للروح الإنسانية إنما تكون في اتباع القرآن، وإن كان ارتباطهم بالقرآن هذا لم يكن موافقاً لسياسة الحكومة الرسمية .

ولم تسكت هذه المؤسسة الرسمية للدعوة بعد ذلك، سواء خالفت دعوتها السياسة الرسمية للدولة أم أن الفرق الشيعية المختلفة استغلتها وجنت ثمارها حيث شكلت هذه الفرق الجبهة المخالفة للدولة(3) .

وتقدم التصوف الذي كان وثيق الصلة بالتشيع قد جعل سرعة هذه الحركة أضعاف ما كان(4) ، وبناء على هذا كان التصوف أساساً لدخول الأتراك في شرق إيران للإيمان والإسلام، ولقد بذلت الخلافة العباسية جهوداً لكسبهم في صفها(5) .

وفي هذا الصدد أيضاً كغيره لم تكن هناك أية ضغوط عليهم وإقبالهم على الإسلام إجمالاً تم بالحرية التامة وبشكل مستمر إلا أنه قد حدث بشيء من البطء(1) .

إن سبب إقبال المجوس على الدين الإسلامي يعود إلى أسباب اجتماعية واقتصادية(2) في الدرجة الأولى حيث تسببت هذه العوامل في استجابتهم السريعة للإسلام، في الظاهر، ليصبح بعد ذلك إيماناً حقيقياً وعميقاً. وهذا يمكن أن يكون سبباً لإقبال الكثيرين من أهالي إيران على اعتناق الإسلام، إلا أن معلوماتنا بالنسبة لإسلام غير المجوس قليلة جداً، ولا يمكن معرفة دين هؤلاء غير المجوس قبل الإسلام من المراجع العربية لأنها لا تذكر شيئاً عنه.

حينما نعرض لظاهرة انتشار الإسلام يجب أن يكون واضحاً أن هذا الانتشار السريع ليس انتشاراً لعقيدة الإسلام فحسب، وليس مجرد صراع بين الإسلام وبين المجوسية والديانات الإيرانية الأخرى، إنما هو انتشار فكر وإيمان وثقافة، وقد أدى إلى انتشار اللغة العربية والثقافة العربية ثم استعمال الحروف العربية، ثم تنظيم سياسي معين لأن الدخول في الإسلام كان بمثابة تحصيل الجنسية وحق المواطنة الكاملة في الدولة الإسلامية. ويتيح هذا الحق للمسلمين الإيرانيين أن يشتركوا في النشاط السياسي لهذه الأمة الفتية التي هي خير أمة أخرجت للناس، وهو أيضاً يمثل نشاطا اقتصاديا، لأن المسلمين جلبوا معهم نظريتهم في الضرائب والملكية وسبل الإنتاج الزراعي وغيره من وجوه الإنتاج، ثم هو في الوقت ذاته تطور اجتماعي، وتغير في نظام الأسرة وفي الحياة الدينية وفي التركيب الطبقي(3) .

هذا الوجه من تاريخنا الإسلامي لم يدرس بعد الدراسة الكافية، حتى العالم الاجتماعي وبل مؤسس علم الاجتماع وعبد الرحمن بن خلدون لم يوف هذه الناحية حقها، والمؤرخون المحدثون كانت عنايتهم الأشد بالأحداث السياسية أو بمعالم النهضة الفكرية أكثر من العناية بالكشف عن جذور هذا التطور العميق، وكل ما نعرفه هو أن هذا التطور وصل إلى نتيجة واضحة منذ القرن الثاني الهجري فصاعدا، حينما صار وجه إيران إسلاميا خالصا .

ثم تتابعت انتصارات الفرس السياسية حتى أصبح لهم التوجيه الأكبر في الحياة الإسلامية كلها في عهد بنو بويه ومن قبلهم البرامكة في العهد العباسي . كما برزت آثار الحضارة الساسانية في الحضارة الإسلامية، في الثقافة والنظم والفن، ولم تظهر هذه الآثار إلا بعدما انحرف مسار الخلافة الإسلامية وتفككت وأصبحت لكل بقعة إمارة وأمير للمؤمنين ومنبراً .

ودراسة انتشار الإسلام في إيران تتطلب منا توضيح النواحي الآتية :

1- العوامل التي مكنت الإسلام من النجاح والانتشار .

2- تطورات الحركة الإسلامية أو بمعنى آخر تتبع حركات دخول الإيرانيين في الإسلام.

إيران من السنة إلى الشيعة

3- العوامل التي مكنت الإسلام من النجاح والانتشار(1)في إيران :

نعتقد أن أهم هذه العوامل هي ما يمكن أن نسميها بالسياسة العامة للدولة الفتية في إيران، هذه السياسة التي وضعت أصولها زمن الفتح أو بعده بقليل . وكانت هذه السياسة تتألف من أركان كثيرة، أهمها معاملة أهل الذمة بالرفق، لأن هذه المعاملة كانت من أهم الأسباب التي هيأت الذميين نفسياً لتقبل الدعوة والإقبال على الحضارة الإسلامية، والمعروف أن سياسة الدولة الإسلامية كانت تنبع من المعاهدات وعقود الصلح التي كانت تعقد مع المدن المفتوحة، وإن كانت لهذه المعاهدات أهميتها البالغة ودلالاتها(2) ولكنها ليست كثيرة الصلة بموضوعنا .

وخلاصة المعاهدات جميعها أنها كلها تتجه اتجاهاً واحداً تقريباً وتنبع من مصدر واحد، فقد تضمنت جميعها منح أهل الذمة من الإيرانيين حرياتهم الدينية، ذلك أن المجوس عُدّوا من أهل الذمة، فكانوا على قدم المساواة مع أهل الكتاب(3)، وفوق هذا، نالوا الحريات الدينية، وتكفل المسلمون بحمايتهم وتوفير أسباب الأمن والطمأنينة لهم، ذلك في مقابل دفع الجزية التي كانت تعفى منها أعداد كثيرة من الناس . كما منحت تلك العقود أهل الذمة حقوقا لم تكن متوافرة لهم من قبل، وفضلا عن هذا تضمنت هذه السياسة استخدام الإيرانيين(4) -وهم غير مسلمون- في وظائف الدولة، خصوصا الوظائف المالية، لأن إيران كانت فيها طبقة الدهاقين(5) التي عرفت بمهارتها المالية ونبوغها في أعمال الخراج ومعرفتها بالشؤون الإدارية والسياسية .

وقد استخدم أفراد هذه الطبقة في عهد الراشدين وكثر استخدامهم في عهد بني أمية(6)كما أبقى المسلمون التنظيمات الإدارية فظلت سجلات الضرائب في إيران تكتب بالفارسية ما يقرب من خمسين سنة وظلت في خراسان تكتب بالفارسية بعد الفتح بنحو مائة سنة، كما استخدم العرب النقود الفارسية نفسها، فبقى الدرهم الفارسي بصورته القديمة أساساً للمعاملات المالية، تلك هي روح السياسة واتجاهاتها، وقد طبقت السياسة نصاً وروحاً في عصر الخلفاء الراشدين(1) .

وكان عهد الخلفاء الراشدين هو العهد المثالي للدعوة الإسلامية، بل هناك من الشواهد ما يجعلنا نقرر أن العصر الأموي لم يخرج كثيراً عن هذه المبادئ، وظل التسامح الديني رائجاً في عهدهم، وبقيت عقود الصلح دون أن تتغير، بل توسع الأمويون -إلا في عهد عبد الملك بن مروان- في استخدام أهل الذمة في وظائف الدولة، وكل ما يؤخذ عليهم اتجاههم إلى مضاعفة بعض الضرائب لاعتبارات تطلبتها ظروف عصرهم ومشاكله .

وقد حافظ العباسيون على هذه الروح بدورهم وكان العصر العباسي هو عصر النفوذ الفارسي على نطاق واسع(2) .

وقد كان التسامح الديني في الإسلام ذا أثر كبير في تهيئة أهل إيران نفسياً لاعتناق الإسلام فقد أثبت المسلمون بأخلاقهم العملية فائدة اعتناق الإسلام لأتباع الديانات الأخرى، كما أتاح لهم فرصة مقارنة ما عندهم بما جاء به الإسلام، ولذا لا نوافق الذين يشكون أو يشككون في إخلاص إيمان أهل فارس، ولذلك نرى من الحق أن نقرر أن أغلب الفرس وأهل إيران عموماً، الذين استجابوا لنداء الإسلام كانت استجابتهم عن إيمان واعتقاد، وكثرة العلماء والمؤلفات وانتشار العلم فيها خير شاهد لنا في هذا الباب، فضلاً عن أن أهم أصحاب كتب الحديث كالصحاح الستة هم من العجم، هذا كله فضلاً عن أن طبقات المسلمين من أهل إيران هم الذين تولوا الدفاع عن الإسلام بعد أن تسلموا زمامه، وقد دافعوا عنه كما دافع عنه العرب بحرارة وإخلاص(3) .

كما كان الإعفاء من الجزية الذي قررته الشريعة الإسلامية، لأن الجزية في إيران كان لها مفهوم غير مفهوم الجزية في البلاد الأخرى، فكانت الجزية في مصر البيزنطية يفرضها شعب غالب على شعب مغلوب .أما الجزية في إيران فقد كانت أرحم بكثير من نظام الضرائب والسخرة في العهد الساساني، فكانت فرصة الإعفاء تجعل جماعات كثيرة من الفقراء تستجيب للدعوة الإسلامية(1) .

ويعنينا من هذا كله موقف الدولة الإسلامية من موضوع الخراج وملكية الأرض، فقد كان موقف الدولة في هذه الناحية يمثل في نظر الإيرانيين تطوراً بعيد المدى لأنه تضمن القضاء على الإقطاع الذي ساد في العصر الساساني وتحرير الملايين من الناس الذين كانوا يعيشون عبيداً للأرض وليس لهم شيء فيها إلا العمل الشاق المتواصل، وقد قررت الحكومة الجديدة مبدأ الحياة الملكية لكافة الفلاحين الذين كانوا محرومين منها.

فكان هذا تطورا بعيد المدى وقد صحب ذلك فرض ضريبة الخراج التي كانت بالقياس إلى الضرائب القديمة خفيفة العبء(2) ، وبدهي أن هذه الحقوق كانت تتضاعف بالدخول في الإسلام، فإذا أسلم إيراني استبدل بنظام الحيازة حق الملكية واستطاع أن يملك الأرض ويتصرف فيها بالبيع والشراء مقابل دفع ضريبة العشر: وإلى جانب الخراج وملكية الأرض هنالك العطاء من بيت المال فقد كان من المفروض أن من حق الإيرانيين إذا أسلموا أن يشتركوا في الجيش وأن يفرض لهم العطاء وقد فرض للمسلمين منهم العطاء من بيت المال وكان هذا العطاء في عهد معاوية خمسة عشر درهماً للفرد في الشهر إلى جانب النفقات الأخرى، وكان هذا العطاء يتضاعف بمضي الوقت، وكان الاشتراك في الجيش وفرض العطاء من أهم العوامل التي ساعدت على انتشار الإسلام، ويجب أن نضيف إلى ما تقدم ما كان من المحافظة على النظم الإدارية والإبقاء على الموظفين من أهل البلاد، وقد تأثرت طبقة الموظفين بهذه السياسة، فلما وجدت أنها تستطيع أن تحتفظ بوظائفها مع احتفاظها بدينها القديم، أيقنت أن دخولها في الإسلام سيضاعف من حقوقها وقد حدث هذا فعلاً(1) فكان إسلام أفراد هذه الطبقة يضاعف من حقوقها فيزيد من تمكنها من الناحية الإدارية .

ولم يكتف هؤلاء الناس بالدخول في الإسلام إنما اتخذوا أسماء وألقاباً عربية للمحافظة على أوضاعهم وزيادة حقوقهم وقد ظنوا أن استعرابهم على هذا النحو قد يزيدهم اتصالاً بالحكومة الإسلامية التي آمنوا بها من قبل، فتزداد امتيازاتهم، ومن المؤكد أن هذه السياسة تسللت إلى نفوس الطبقة العليا من المجتمع فأسلم الكثيرون من أفراد الطبقة الأرستقراطية واتخذوا أسماء عربية(2) .

أما العامل الثاني فهو على ما نعتقد الفرق الواضح بين التشريع الإيراني الرسمي المجوسي الذي يتمثل في الزرادشتية التي لم تكن ديناً فحسب إنما كانت تنظيما للحياة الاجتماعية والاقتصادية، والتشريع الإسلامي وهو بدوره ما كان تشريعاً دينياً فحسب إنما كان تشريعاً اجتماعيا واقتصادياً وسياسياً يشمل جميع نواحي الحياة(3) .

كانت الشريعة المجوسية بما فيها من الطبقية والامتيازات الخاصة ، قانون المجتمع الفارسي وظلت هذه الشريعة متماسكة حتى آخر القرن الخامس الميلادي حين زلزلتها المزدكية (الإباحية) من أساسها في عهد كي قباد وبمجيء الإسلام وشريعته انهارت حصونها تماماً -مثل أية شريعة أخرى- خاصة مقابل نزعة الإسلام نحو المساواة والقضاء على الطبقية .

وهي نزعة كانت أشد وضوحاً زمن الفتح فلا غرابة إذا كان اتجاه التشريع الإسلامي هذا قد ترك أثراً نفسيا بعيد المدى في طبقة العمال المدنيين، وطبقة الفلاحين كانوا أسرع الطبقات دخولا في الإسلام -مثلهم في ذلك مثل المستضعفين في مكة عهد الإسلام الأول- ومن العوامل(4) التي ساعدت على انتشار الإسلام الهجرات العربية إلى إيران واستقرار العرب في هذا الوطن الجديد، فقد كان أغلب هؤلاء المهاجرين من أهل العطاء والديوان وكانوا يقومون بدعوة الناس إلى الإسلام(1) بحالهم ومقالهم .

تلك هي الطلائع الأولى التي انتشرت في جميع أنحاء إيران وكانت النواة الأولى للمهاجرين الذين استقروا فيها بعد أن تحقق لهم النجاح العظيم، وقد استمرت الهجرة العربية بعد زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه (وكان قد شجع على ذلك) ووضحت في عهد عثمان رضي الله عنه وفي عهد معاوية هاجر كثير من الأزد واستقروا في خراسان واصبحوا عاملا هاماً في الحياة السياسية والاجتماعية هناك، واتجه الأمويون اتجاهاً واضحاً إلى توطين العنصر العربي في مختلف أنحاء إيران، ووضحت هذه السياسة على الخصوص في عهد ولاية الحجاج بن يوسف الثقفي، فما كاد القرن الأول الهجري ينتهي حتى انتشر العنصر العربي في إيران كلها من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب(2) .

يتبع ..
05-22-2007, 12:13 AM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


الردود في هذا الموضوع
كيف تحولت إيران من السنة إلى الشيعة؟ - بواسطة طيف - 05-22-2007, 12:13 AM

المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع الكاتب الردود المشاهدات آخر رد
  تاريخ الشيعة والتشيع في العراق طريف سردست 1 2,805 03-21-2011, 10:23 PM
آخر رد: (ذي يزن)
  الشيعة والحكم في الدولة العراقية الحديثة الجواهري 0 1,134 01-22-2011, 11:55 PM
آخر رد: الجواهري
  حلول السنة الامازيغية الجديدة المروءة والشهامة 23 7,675 01-17-2010, 10:25 PM
آخر رد: المروءة والشهامة
  فوكو في إيران سيناتور 14 4,188 02-25-2008, 07:08 PM
آخر رد: سيناتور

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 2 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS