المجتمع المتعصب عدو نفسه
إن التحديق في هيئتنا الاجتماعية و ذواتنا الداخلية أمر محبط، ومواجهتها بصدق وإخلاص من أصعب الأشياء وأعقدها، وذلك بسبب ما تحمله من نزعات تنطوي على الكثير من الأخطاء ومن الخوف من مواجهتها بتلك الحقائق، لذا فإن مواجهة النفس والمجتمع من أصعب المواجهات واعقدها وحيث ترث النفس الانسانية كل نزعاتها ونزغاتها من مجتمعها الذي يصنعها ويشكل هويتها الذاتية .. ترث ذلك ثم تدافع عنه وتحميه .... لذا كان التعصّب بكل اجناسه الدينية والقبلية والسياسية والوطنية والقومية والحزبية والطائفية والعائلية والاقليمية منشأ اجتماعيا ثم نفسيا ذاتيا .. تخلق ثقافة المجتمع المتخلف نفسية افراده وتشكل هوية ذاوتهم ثم تتنكر لهم وتنكر تحولاتهم النفسية السلبية فحين يغادر الطفل مشيمة بيئته الاجتماعية التي تربى في خضم ثقافتها السائدة والتي احتوته بل وتسلطت عليه منذ نعومة افكاره ... يغادرها مضطرباً حائراً بين ما تعلمه ودرسه من نظريات وتعاليم ومواعظ ( قولية ) عن التسامح والعفو وبين ما تزخر به يوميات المجتمع ( العملية ) من تعصب وعدوانية , وتحت اكراهات الواقع وضغوط الرسميات الاجتماعية يعجز الفرد عن الافلات من قبضة سلوكيات ثقافة التخلف التي تقوده في النهاية للتعصب لها والوقوع في براثنها .. فكان المجتمع هو الذي يصنع أعداءه من أبنائه بنفسه . لذا فالوجود الاجتماعي الضاغط والقامع هو عدو نفسه .
التعصّب ليس شيئاً وراثياً، لكنه يُكتسب، ويُتعلم من البيئة المحيطة، وهذا يعني أن الإنسان كما يتعلم التعصّب، يمكنه أن يتعلم التسامح والعفو. وقد دلت الكثير من البحوث والدراسات على أن الشعوب والجماعات تتغير اتجاهاتها عبر الأجيال، كما تتغير أنماط التفكير لديها، فالإنسان كائن يتعلم باستمرار، لكن الخلاص من العيوب لا يتم عن طريق المصادفة، وإنما عن طريق القصد والتخطيط والمجاهدة , للتخلص من أي ظاهرة نحتاج إلى تركيز الضوء عليها، بل نحتاج في الحقيقة إلى تشريحها. وظاهرة التعصّب من الظواهر الشديدة التعقيد؛ لأنها تقوم على عقائد وأفكار ومفاهيم راسخة ومترابطة، ومن الواضح أن التعصّب يشكل نوعاً من حب الذات، ويشتمل على درجة كبيرة من الأنانية والتمحور حول النفس، وذلك لأن المرء يحب الذين يشبهونه، وينفر من الذين يتبين له أنهم مغايرون له، وهذا ينم عن غفلة شديدة أو وعي زائف، أو نفس مريضة! انتهت نظريات التفوّق العرقي والتي سادت فترة طويلة من الزمان، وعادت الأمم المتحضرة إلى المعيار الإسلامي في التفاضل، وهو الاستقامة والنفع العام والتفوّق في الأداء، وصار من الواجب علينا نشر هذا المعنى على أوسع نطاق.
كثيراً ما يقوم التعصّب على التعميم الخاطئ، وقد قيل : لايعمم الإ حاقد أو جاهل , فنحن حين نحكم على شعب أو مجتمع بأنه أحمق أو كسول أو غدّار أو غبيّ.. نقوم بتعميم ملاحظة أو معلومة جزئية عن أفراد قليلين لنجعلها شاملة لأعداد كبيرة قد تبلغ مئات الملايين من البشر، وفي هذا من الظلم والتجني ما لا يرضى الله تعالى به، وما لا يليق بالإنسان العاقل والموضوعي الحريص على وضع الأمور في نصابها، ولهذا فإن مقاومة التعصّب تحتاج إلى نشر التثاقف الحر وتقوية الوازع الديني، والذي يدعو إلى التوقي من ظلم الناس، وإلى تدعيم التفكير الموضوعي والمحاكمة العقلية العادلة لدى الناشئة، وهذا من مسؤوليات الأسر في البيوت، ومن مسؤوليات المدارس ووسائل الإعلام.
يدفع التعصّب في اتجاه العداوة والعزلة، ولهذا فإن كثيراً من التعصّب سببه الجهل وضعف الاتصال، ومن هنا فإن علينا التفكير في الوسائل التي تساعد على الاتصال الفعال، ومنها توعية الناس بالتناقضات الأخلاقية التي سبّبها لهم التعصّب؛ إذ أن كثيراً من الذين يتعصّبون ضد غيرهم يؤمنون بالعدل والمساواة وكرامة الإنسان، ويحفظون الآيات والأحاديث والأقوال التي تدل على ذلك، لكنهم لا يستفيدون منها شيئاً، وهم من وجه آخر، يحبون من غيرهم أن يعاملهم على أنهم بشر أسوياء محترمون، لكنهم لا يفعلون ذلك مع الآخرين. إن توعية الناس بهذه المعاني على نحو مستمر، قد تساعد فعلاً في تخفيف غلواء التعصّب
إن المجتمع التقليدي الذي ينزع إلى وحدة الفكر والرأي وينفر من التنوع والاختلاف, إنما يشكل وسطاً ملائماً لنمو التعصب أما إذا ترقى هذا المجتمع وأصبح مدنياً له مؤسساته وتنوعاته فبالتأكيد سيؤطر أخلاقيات أبنائه على قبول الاختلاف والمشاركة الاجتماعية في كل نواحي الحياة , فالتعصب منتج بيئي في المجتمع الذي يكرس ثقافة أحادية الرؤية والمنهج فيتغذى ناسه على الانغلاق وحرب الجديد والمختلف تحسبهم تحت طائلة الرهاب الاجتماعي مؤمنون بما تلقوه من أفكار العفو والتسامح مع الغير ولكن عند أدنى بادرة للاختلاف في الفهم يخرج المخبوء من التناقض والتعارض بين التلقي والممارسة... ذلك لأن التلقين الاجتماعي حرمهم من إبداء الرأي والمشاركة في مراجعة ما هم عليه وغابوا أو غيبوا عن عمليات التبادل الحر للرأي بدون تأثيم أو خوف من مساءلة, والوعي الاجتماعي ما هو إلا مقدار وقدرة الأوعية الفكرية - التي يؤمن بها علماً وعملاً وسلوكاً وتخلقاً أبناء وأفراد المجتمع - , قدرة هذه الأوعية الفكرية على نقل المجتمع من التقليد للتجديد ومن الموات للبعث والحياة .. فكلما انكفأ المجتمع على نفسه وتقاليده الفكرية بات أكثر تعصباً وحصد ما زرع في نفوس أبنائه.