[CENTER](2)
اللقاء الأول


كان ذلك الصوت يقترب ، بضجة سريعة . لم يميزه ، كأنه وقع خطوات .. وكأنه هبوب الريح . واشتدت النسائم لتصبح ريحا شديدة منبعثة من مصدر الصوت . رجع للوراء ، اسند ظهره على صخرة من صخور الجبل . تأمل مصدر الصوت ، سمر عينيه فيه ، .. شاهد طيفا .. خيالا ، يقترب منه ، ازداد خوفه .. تتابعت أنفاسه . أغمض عينيه ، ورجع خطوتين للخلف ، فتح عينيه .. أصبح الطيف أشد وضوحا . تمالك نفسه ، ونظر إليه .


توقف ذلك الخيال عن التقدم ، وهدأ صرير الهواء معه ، وساد الصمت بينهما ، إلا صوت انفاسه المتتابعة المطردة في ازديادها . كان يريد أن يقول : من هناك ، لكن المشهد اعظم من ان تسعفه الكلمات بالخروج . كان شيئا هائلا تعجز الكلمات عن وصف ماهيته .

انقطع هذا الهدوء ، حين تناهت إلى مسامعه حزمات من الصوت ، تأتلف فيما بينها لتكون شيئا كان يعرفه ، شيئا كان يسمعه . جاءته تلك الحزمات ، على شكل كلمة ، كلمة قالها ذاك الطيف .


[اقرأ ] .. كانت تلك الكلمة التي نطق بها هذا الخيال .



[CENTER]*******[/CENTER]


في دارها ، كانت مشغولة في ترتيب جزء منه . وربما انها فكرت - وهي تعمل- ان تخرج لتزور احد أقربائها . فزوجها ، كعادته ، منقطع في ذلك الغار . وهي قد بدأ السام يدب فيها ، وتريد ان تطرده بزيارة . أو انها قد تعبت من عملها ، وأرادت ان تخلد للراحة لبعض الوقت . او انها كانت جائعة ، ففكرت بأن تحضر طعاما ، او تامر أحد خدمها بذلك . كانت تفكر في الكيفية التي ستقضي بها يومها . وكانت منشغلة بعملها .


فكرت أن تذهب لتسأل أبنائها ما إذا سيشاركونها في ما اعتزمت عليه ، خرجت من حجرتها . وما ان خطت بضع خطوات . إلا وسمعت تلك الضجة التي في الخارج ، وذلك الباب الذي يفتح فجأة ، وهذا الرجل الذي يدخل مسرعا ، صارخا : زملوني .. زملوني .


لم تستوعب الموقف بادئ الأمر ، لكنها بعد وهلة ، رات زوجها وقد استبد به الذعر . فتقدمت إليه ، وأمرت احد الذين تنبهوا للصوت وخرجوا ، بان يحضروا دثارا . فلما جيء به دثرت زوجها الذي كان يرتعد خوفا . فلما دثرته ، وغطته ، جلست لجانبه لتخفف عنه . وشيئا فشيئا ، حتى زال عنه الروع .



سالته عن امره ، فقال لها :

كنت ، كعادتي ، في الغار . وما هي إلا لحظة ، حتى جائني شيء . تقدم إلي ، وقال : اقرأ ، فملئت منه رعبا .. أجبته : ما انا بقارئ . فتقدم إلي ، وأخذني إليه ، وغطني ، حتى ظننت انه مهلكي . فلما أرسلني ، قال : اقرأ . خفت أكثر وكررت عليه : ما انا بقارئ ، كنت أتسائل أكثر مني أنكر . تقدم إلي ثالثة ، وأنا عاجز عن الهرب . غطني ، فظننت أنها القاضية ، وبعد جهد ، اطلقني . قال : أقرأ ، فسألته : ماذا أقرأ ؟ . وغطني الثالثة ، واطلقني .. ثم قال : [اقرا ، باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق .اقرأ ، وربك الأكرم ، الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم ]. فما إن سمعتها حتى وقعت مغشيا علي . وبعد فترة ، استيقظت ، وعدوت عائدا .

وما ان نزلت الجبل ، حتى سمعت نفس الصوت ، ولكن بشدة أكبر . توقفت ، نظرت يميني ،ثم نظرت يساري .. في كل الجهات ، ولم اجده . سمعته مرة اخرى ، ورفعت رأسي . وإذ بي أرى مشهدا عظيما ، رأيته جالسا على عرش ملأ ما بين السماء والأرض . وما إن رأيته ، حتى وقعت مغشيا علي . ولما أفقت ..

انقطع صوته ، واحمر وجهه ، تغير لونه فجأة . لاحظت زوجته ، فقامت إليه ، نادته أكثر من مرة ، حتى استعاد أنفاسه . وتتابعت انفاسه ، ثم قال : ألقي في روعي أن : [ يا أيها المدثر ، قم فأنذر ، وربك فكبر ، وثيابك فطهر ، والرجز فاهجر ].

نكس رأسه ، وبدت علامة الحيرة والأسى على وجهه ، رفع رأسه ونظر إليها ، قال : إني أخشى على نفسي .

فبادرته زوجته قائلة - وهي ترفع يدها : ‏كلا والله ‏، ‏ما يخزيك ‏ ‏الله أبدا . إنك لتصل الرحم ، وتحمل ‏ ‏الكل ،‏ ‏وتكسب ‏ ‏المعدوم ، ‏ ‏وتقري ‏ ‏الضيف .... وتعين على ‏ ‏نوائب ‏ ‏الحق .

فلما أحست انه هدأ ، قالت له : ما رأيك أن نذهب إلى ابن عمي : ورقة ، فعنده ستجد ما يسرك .



[CENTER]******[/CENTER]



كان محمد ، منهمكا ، وهو يقص قصته على ابن عم زوجته . كان يثق بعلمه ، وفهمه ، إذ أنه من القلائل الذين يعلمون كناب اليهود والنصارى - الذين كانت العرب تكبرهم وتكبر علمهم - ولسانهم، فقد كان نصرانيا .

كان ذلك الشيخ ، يستمع إليه ، بهدوء ، لم يبد على قسمات وجهه أي تأثر. ولما ان فرغ محمد من الكلام ، قال له : يا ابن أخي ، هذا الذي جاءك ، هو الناموس الذي نزل على موسى .

سكت قليلا ، ثم أردف : يا ليتني أكون موجودا حين يخرجك قومك .

سرت رعدة في جسد محمد ، وتذكر بسرعة حادثة الكعبة ، وقال : أومخرجي هم ؟

اعتدل الشيخ ، في جلسته وقال: نعم ، لم يات احد بما جئت به ، إلا عودي . ولو امتد بي العمر وجاء وقت إخراجك ، لأنصرنك نصرا مؤزرا .



[CENTER]*******[/CENTER]

خرج محمد ، وقرر أن يعود للغار . حاولت خديجة إبقائه ، لكنه طمانها : ان حالته تحسنت .

عاد للغار ، وأخذ يفكر . أخذ يسأل نفسه ، ويناقشها ، كان وهو في ذلك المكان الذي يطل على منظر خلاب ، خصوصا في الافق حين تتشابك النجوم بالأرض ، كان يشعر بنشوة ، يخالطها شيء من الخوف .

هل هو حق ، ما قاله ورقة ؟
أم انه ، لفرط إيمانه بذلك المعزي* ، جعلني إياه .
هل ذلك الشيء بالفعل ، ملك ؟
وهذا الكلام الذي يأتيني ، بجماله ، وانتظامه ، وقوته . كيف يستطيع التسلل إلى داخلي ؟
هل انا ممسوس ؟

شعر بغصة في حلقه ، عندما جاءته هذه الفكرة . راح يتأمل في تلك الكلمات التي جاءته . وما تضمنته من معان باهرة ، رغم قلتها .

[ اقرأ باسم ربك ] أمر ، يعتبر مقدمة لكثير من الأوامر ، والأمر الأول كان أمرا بالقراءة ، القراءة مصدر المعرفة ، وقرنها بالبسملة كاعتراف بفضل الله .

[ الذي خلق ، خلق الإنسان من علق] إعلام بفعل الله ، وقرنه بكيفية حدوث هذا الفعل ، كمقدمة لجملة من العلوم .

[ اقرا ، وربك الأكرم ] اخبار عن صفات هذا الإله ، عن عالم الغيب ، كمقدمة لكثير من المعلومات عن هذا العالم .

[ الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم ] خبر ، عن ماضي الإنسان ، كمقدمة لجملة من الأخبار .


كانت هذه الكلمات ، وما تضمنته من معان شاملة ، واحتوائها على جملة من المقاصد ، آيات ، وعلامات ، ودلائل .. على صدق ورقة .


{ يا أيها المدثر ، قم فأنذر ] أمر بالفعل ، تبع الأمر بالنظر ، فالفعل مقترن بالنظر . وظيفة الرسول : الإنذار ، وعليه القيام بها من فوره ، وهذا يعتبر مقدمة لجملة الاوامر التي تختص بالرسول باعتباره رسولا .

[ وربك فكبر ] أمر آخر ، يتعلق بما يريده هذا الإله من عباده . فكان اول أمر تعبدي ، هو تكبير الله .

[ وثيابك فطهر ] أمر ثالث يعتبر مقدمة لجملة اوامر تنظم حياة الإنسان في هذه الدنيا .

[ والرجز فاهجر ] نهي ، يعتبر مقدمة لجملة نواه ، تكفل للإنسان النجاة من العقاب في الآخرة .




هكذا ، في اليوم الاول ، تبدلت حياة هذا الرجل . واستغرق كثيرا في التفكير في ما حل به . ما زال في قلبه شيء من الشك .


كان لفرط التعب الذي استبد به جراء لقاء هذا الخيال ، كان يخشى أن يعود إليه ، ويتمنى أن يكون كل هذا : حلم .. ينتهي بان يفيق منه . ولكن ، بعد مرور يوم ، وآخر ، تحول هذا الخوف إلى شوق .. إلى رغبة في عودة هذا الشيء . كان يختلي بنفسه أكثر من قبل ، يتعرض للسماء ، ينظر إليها كثيرا . وكان يلتفت إلى أي صوت يصدر حوله .

تمكن منه هذا الشوق ، وصار هاجسا .. ولكن الملك لم ياتِ ، ومرت أيام . ازدادت حاله سوءا ، شعر بالأسى والحزن ، إذ أن فكرة : العدول عنه ، كانت بدأت تترعرع في داخله ، تحول هذا الأسى الممزوج بالشوق ، إلى شيء أشبه بالوجد ، وشيئا فشيئا .. أحس أنه يائس .

في أحد الأيام ، قام من مكانه ، من على الكهف ، وتقدم إلى حافة الجبل . نظر بعينين متوترتين إلى أسفل ، عزم على أن يلقي بنفسه من هذا العلو ، كان يجاهد نفسه على أن يلقيها .. وفي كل مرة ، كان يتوقف في اللحظة الأخيرة .فجأة ، عقد العزم ، ورجع خطوتين ، وما أن هم بإلقاء جسده ، حتى ظهر ذلك الملك .


[ إنك رسول الله ].. هكذا قال له الملك .




يـــتــبــع