علاقة محمد مع الجن , وما هي آيات الجن وكيف نزلت
ما هي علاقة محمد مع الجن وكيف حدث ذلك , وما هي آيات الجن وكيف نزلت 0
بعدما أنهينا الكلام في خروج محمد إلى الطائف ورجوعه إلى مكة , رأينا أن نتكلم عن قصة استماع الجن للقرآن حينما كان محمد يقرأه في صلاته وهو بنخلة بين الطائف ومكة
ولما كانت هذه القصة المذكورة في القرآن , والمذكورة تفاصيلها في كتب السير قد تلاعب بها الرواة , واضطربت فيها أقوالهم بما لا يوافق الحقيقة أردنا أن نوضحها ونمحص الحقيقة منها فنقول :
أقرب الروايات إلى المعقول في هذه القصة ما جاء في السيرة الهشامية عن ابن إسحق قال :
ثم أن رسول الله انصرف من الطائف راجعاً إلى مكة , حين يئس من خير ثقيف و حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي , فمرّ به نفر من الجن الذين ذكرهم الله تبارك وتعالى , وهم – فيما ذكر لي – سبعة نفر من جن أهل نصيبين , فاستمعوا له , فلما فرغ من صلاته , ولوا إلى قومهم منذرين قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا , فقص الله خبرهم عليه , قال الله عزوجل : ( وإذا صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن ) (2) , إلى قوله : ( ويجركم من عذاب أليم ) (3) , وقال تبارك وتعالى : ( قل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجن ) (4) إلى آخر القصة من خبرهم في هذه السورة (5)
اعلم أن قصة استماع الجن للقرآن وقعت مرتين , على ما جاء في بعض الروايات , وكلتاهما في نخلة ؛ فالمرة الأولى وهي من رواية ابن عباس وقعت قبل خروجه إلى الطائف بسنين عديدة , إذ خرج هو وأصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ( واد بين نخلة والطائف ) , وصلى وهو بنخلة عامداً إلى سوق عكاظ بأصحابه صلاة الفجر , فجاء الجن واستمعوا له (6) , والثانية وقعت في رجوعه من الطائف إلى مكة وحده, على رواية ابن إسحق , أو معه زيد بن حارثة على رواية غير ابن إسحق , حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي , إلى آخر ما ذكر في رواية ابن إسحق المتقدمة آنفاً , وظاهر كلام ابن إسحق في قوله : "" فقص الله خبرهم عليه "" أن النبي لم يجتمع بالجن ولم يرهم ولكنهم جاءوا واستمعوا للقرآن الذي كان يقرأه في صلاته , وهو لايشعر بهم , وبعد ذلك جاءه الوحي يخبره بمجيئهم واستماعهم 0 وكان الوحي الذي جاء بخبرهم في المرة الأولى الآيات الثلاث من سورة الأحقاف وهي : ( إذا صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين * يا قومنا إذا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم * يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ) (1) فهذه الآيات الثلاث كما ترى لا تخبره باستماعهم فقط , بل تخبره باستماعهم وبأنهم آمنوا وذهبوا إلى قومهم يدعونهم إلى الإيمان به أيضاً
أمّا الوحي الذي نزل يخبره باستماعهم في المرة الثانية فهو : ( قل أوحي إلّي أنه استمع نفر من الجن ) (2) إلى آخر السورة 0
هذا ما محصناه لك في هذه القصة مما جاء في كتبهم من الأقوال المضطربة في رواياتهم المختلفة ؛ فمنهم من جعل الوحيين النازلين كليهما نزلا في المرة الثانية أي عند رجوعه من الطائف , كما هو ظاهر كلام ابن إسحق في روايته المذكورة آنفاً , ومنهم من جعل الوحي الأول أعني الآيات الثلاث نازلاً في المرة الثانية , أي عند رجوعه من الطائف كما جرى عليه الزمخشري في الكشاف (3) 0 ولم يقف تلاعب الرواة عند هذا الحد, بل زادوا فذكروا أن النبي اجتمع بالجن , وأنهم عرضوا عليه إسلامهم , وأنه بعدما آمنوا به جعلهم رسلاً , فأرسلهم إلى قومهم ينذرونهم ويدعونهم إلى الإسلام , حتى جاء في بعض الروايات أنهم سألوه الزاد لهم ولدوابهم , فقال لهم : لكم كل عظم عراق ولكم لكل روثة خضرة 0 وتفنن الرواة في هذا وقالوا : إن العظم طعام لهم والروث لدوابهم , وقالوا : إنهم لا يجدون عظماً إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل , ولا روثة إلا وجدوا فيها حبة يوم أكلت , وقال بعضهم : إنهم إذا وجدوا الروث وجدوه شعيراً 0 وبعضهم أغرب كل الإغراب فجعل كل من العظم والروث مطعوماً لهم , وقال : إن الروث يعود لهم تمراً كما في رواية لأبي نعيم 0 وأراد ابن حجر الهيثمي , أن يجمع ويوفق بين الروايتين بأن الروث يكون تارة علفاً لدوابهم , وتارة يكون طعاماً لهم 0 وأغرب من هذا أن الرواة تكلموا عن دينهم , فقالوا : إنهم من اليهود , وعن بلدهم فقالوا : إنهم من أهل نصيبين , وقال بعضهم : من أهل نينوى , وبعض الرواة عزاهم إلى اليمن (1) 0 وما هذه إلا أقاويل من تلفيق الرواة , أما الحقيقة التي يدل عليها الوحي النازل بخبر هذه القصة فهي ما ذكرناه لك من أن محمداً لم يجتمع بالجن ولم يرهم , بل لم يشعر بهم حين استماعهم للقرآن , وإنما جاءه الوحي بعد استماعهم وبعد انصرافهم يخبره بخبرهم 0
ولنذكر لك ما قاله صاحب السيرة الحلبية فإنه بعد أن ذكر قصة استماع الجن الأولى عن ابن عباس , والثانية عن غيره قال : (( وسياق كل من القصتين يدل على أنه لم يجتمع بالجن ولا قرأ عليهم وإنما استمعوا قراءته من غير أن يشعر بهم , قال : وقد صرح به ابن عباس في هذه ( يريد القصة الأولى ) , وصرح به الحافظ الدمياطي في تلك ( يريد القصة الثانية ) , حيث قال في سيرته : فلما انصرف النبي من الطائف راجعاً إلى مكة ونزل نخلة قام يصلي من الليل , فصرف إليه نفر من الجن سبعة من أهل نصيبين , فاستمعوا له ( وهو يقرأ سورة الجن ) , ولم يشعر بهم رسول الله حتى نزل عليه : ( وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن ) (2) 0 هذا كلامه (3)
وقد علمت مما تقدم أن الحافظ الدمياطي أخطأ في قوله : " حتى نزل عليه : ( وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن ) الآية " فإن هذه الآية إنما /330/ نزلت في قصة الجن الأولى , وأما في الثانية هذه فالوحي النازل بخبر استماع الجن هو سورة الجن التي أولها : ( قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن ) (4) 0
وقال الزمخشري في الكشاف : (( وعن سعيد بن جبير قال : ما قرأ رسول الله على الجن ولا رآهم , وإنما كان يتلو في صلاته , فمروا به فوقفوا مستمعين , وهو لايشعر بهم فأنبأه الله باستماعهم )) ] (5)
(1) السيرة الحلبية , 1/ 360
(2) سورة الأحقاف , الآية : 29
(3) سورة الأحقاف , الآية : 31
(4) سورة الجن , الآية : 1
(5) سيرة ابن هشام , 2/ 421 – 422 0
(6) السيرة الحلبية , 1 / 358 0
(1) سورة الأحقاف , الآيات : 29 – 31 0
(2) سورة الجن , الآية : 1 0
(3) تفسير الكشاف , تفسير الآيات : 29 – 31 من سورة الأحقاف ؛ السيرة الحلبية , 1 / 358 0
(1) أنظر هذه الروايات في السيرة الحلبية , 1 / 358 – 364 0
(2) سورة الأحقاف , الآية : 29 0
(3) السيرة الحلبية , 1/ 359 0
(4) سورة الجن , الآية : 1 0
(5) تفسير الكشاف : تفسير الآيتين : 1 من سورة الجن , و29 من سورة الأحقاف ؛ السيرة الحلبية , 1 / 358 0
* من كتاب الشخصية المحمدية للكاتب والشاعر – معروف الرصافي 0
|