ما هو المقصود بالفوضى؟

هناك مصطلح يعرفه محترفي لعب الدومينو (*) على مقاهي مصر تحديدا وهو "الدور قفل و لازم يتهد" و هو يعني لكل من لا يعلم أنه لم يعد هناك إمكانية لإضافة أية حركة (بواسطة قالب أو ورقة لعب) للدور الحالي و هذا بواسطة أي لاعب موجود. أي أنه قد إنتهت الإحتمالات الرياضية لإستخدام الأرقام الموجودة لدى اللاعبين و بالتالي وجب هدم الدور و بعثرة أوراق اللعب على اللوحة بعشوائية تامة ثم إعادة توزيع و تشكيل الأوراق من جديد.
إن الوقت منذ هدم الدور مرورا على تقليب الأوراق بعشوائية و إعادة توزيعها حتى يبدأ اللعب من جديد هو الفوضى بعينها. حيث لا يتحكم أي من اللاعبين في الأوراق بإرادته المرتكزة على حساباته. بل تتحرك الأوراق عشوائيا.
و الوقت العقيم الذي سبقه مباشرة حيث إنعدمت إمكانات و فرص الحركة هو علامة و مؤشر لبدء الفوضى أو وجوب بدئها - حيث تعتبر الفوضى هي الحل الوحيد لهذا العقم.

و في هذا المثال بأعلاه لو ظل اللاعبين قرونا من الزمان في محاولة اللعب بدون هد الدور (الفوضى) فلن يكون هناك سوى السكون - و هذا حتى تتدخل قوى خارجية ممثلة في صاحب المقهى مثلا طاردا إياهم أو مسلما إياهم للمخفر أو مصحة عقلية.

لعلنا لم نبتعد كثيرا في واقعنا الإجتماعي الآن عن مرحلة ما قبل الفوضى مباشرة في مثال أصحابنا لاعبي الدومينو.
حيث إنتهت - أو كادت - إمكانية حتى التحديد الدقيق و الإرادي لرغبات المجتمع و إتجاهاته المرجوة. حيث أصبحت مجرد محاولات التعقل لتحديد الهدف (يمينا أم شمالا) هي محاولات محفوفة بالمخاطر - الحقيقية أعني - و تباعا أصبح كل المراد هو المحاولات المستميتة لإبقاء الوضع كما هو عليه و لو لحين. و هذا بواسطة كافة القوى الفاعلة كل على طريقته.

العقم هو المصطلح المناسب لحالة المجتمعات الشرق أوسطية على جميع منظوماتها. و هو المصطلح المناسب لوصف حالة أصحابنا لاعبي الدومينو قبل هدم الدور مباشرة.
و الفارق الوحيد أن لاعبي الدومينو المحترفين يعلمون متى قفل الدور و من ثم متى يهدمونه لبناء دور جديد - أما في مجتمعاتنا فعن عمد أو جهل أو تجاهل أو رفض للواقع - فالكل يضيع وقته في محاولات جديدة لرمي الأوراق ثم الفشل في دائرة لا منتهية. و لا يوجد من يصرح أو يريد أن يصرح بإنتهاء الدور و لا جدوى اللعب. و الكل يلعب بأوراق خاسرة و هو يعلم ذلك. كمسرح اللامعقول.

و عودة لمجتمعاتنا فالمشكلة - أو المصيبة - و على مستوى الواقع ليست فقط في إفتقار التحديد الدقيق لرغبات و أهداف المجتمع و من ثم الطرق المناسبة لبلوغ تلك المآرب - بل إنه و للتناقض العجيب - فكل صاحب هدف يبدو و كأنه مرغم على أن يسلك طريقا من شأنه في النهاية تقويض هذا الهدف نهائيا و العكس بالعكس!!

و دعنا نقترب أكثر من الأرض في عدة أمثلة تكاد تقترب من التناقضات المنطقية الكلاسيكية (Paradoxes):

- خذ مثلا في السياسات الداخلية لبلد مثل مصر:

فبينما يسعى الأصوليون للحكم - ممثلون في جماعة الإخوان المسلمين - و هذا بواسطة المطالبة بالديموقراطية و الإنتخابات الحرة - نجد أن هدفهم في نهاية هذا الطريق هو الحكم بالشريعة الإسلامية و تقويض الديموقراطية مرة واحدة و للأبد!! أي أن هدفهم يقوض سبيلهم الذي يطالبون به للهدف. أو أنهم مرغمون على إتخاذ سبيل يناقض أهدافهم.
و يمكن تلخيص هذه المتناقضة في الجملة "أنا أطالب و بشدة بالديموقراطية لكي أستطيع أن أهدم الديموقراطية نهائيا".

ثم إنتقل للطرف المقابل مباشرة من المعارضة المعارضة المصرية حيث الليبراليين و الصحف المستقلة المعارضة و التي تتخذ لنفسها هدفا مناقضا للأصوليين و هو إقامة مجتمع ليبرالي إلا أنها تصطدم بمعضلة أخلاقية غريبة (فإذا كنت أدعو للديموقراطية و إقامة مجتمع ليبرالي - لزم علي كذلك أن أدافع بل و أدعو لحق الأصوليين في الحكم - ففي النهاية هي إرادة الشعب و نتيجة نزيهة للإنتخابات).
أي أنهم مضطرون في إطار محاولتهم للوصول لأهدافهم أن يتخذوا طريقا نهايته تدمير أهدافهم نهائيا.
و يمكن تلخيص هذه المتناقضة في الجملة "أنا أطالب و بشده بالديموقراطية كهدف نهائي و في سبيل ذلك أدعم الأصوليين حتى لا أكون متناقض على المستوى الأخلاقي - و هذا بالرغم من أن دعمي لهم سوف يدمر هدفي النهائي"

أما عن الطرف الخامل - عامة الشعب - فحدث و لا حرج فهو يريد الديموقراطية و يتندر على الديكتاتورية و يضرب الأمثال بديموقراطية الغرب - و في نفس الوقت فهو مع تطبيق الشريعة الإسلامية و يتندر على إنحلال الغرب و ضياعه و يضرب الأمثال بأشخاص من صحراء 1400 سنة مضت.
و هو يدعو لحرية الرأي و المعلومات و يتحسر على حاله مقارنة بالغرب - ثم يخرج في مظاهرات حاشدة مطالبة بإخراس كاتب أو قتل مخالف.
و هو يتظاهر و يشجب و يبكي على معاملة المسلمين التي إختلفت بالغرب بعد أحداث سبتمبر - ثم تقوم قائمته و يحرق و يقتل لمجرد إشاعة أن المسيحيين ينتوون إقامة كنيسة للصلاه.

و لسان الحال يقول "أنا أدعو لحقوق الإنسان و أطالب بحقي كي أتمكن من خنق حقك و منعك منها نهائيا"

- أما عن الإقتصاد في نفس البلد المثل مصر فتناقض السياسات و عدم وضوح الأهداف و فشل النتائج لا يحتاج لأي أمثلة و بخاصة في بلد مثل مصر يمتلك من المقومات و الثروات ما يتيح له أن يتعدى النمور بل و الأسود.

- و دعنا ننزل لطبقة تحتية أكثر حيث المنظومة الأخلاقية و التي تحوي من المتناقضات ما يملأ المراجع:

و أول و أكبر التناقضات تجده في النموذج المثالي (الإسترشادي) للفرد في المجتمع.
فبينما يحث المجتمع عبر أفراده و أطيافه و وسائل إعلامه و مدارسه على النموذج الديني - طالما إتخذ الدين الإسلامي بنصوصه الحالية كمرجع - إلا أنه يعود ليرفض و ليحارب من يتقمص هذا النموذج بوصفه إرهابيا متطرفا بل و وصولا للتصفية الجسدية بواسطة أجهزة الدولة التي ما تنفك تدعو في وساءل إعلامها و مدارسها لهذا النموذج.

* للرجوع لتفاصيل أكثر عن هذه المتناقضة و غيرها:
قضية التطرف و الإعتدال - بين الحقيقي و الكاذب من قضايانا المعاصرة

و يمكن تلخيص ذلك في "أنا أؤمن بالإسلام مرجعا - لذلك فأفضل الأفراد هو من يطبق كامل تعاليم هذا المرجع - لكني أرفض الفرد الذي يطبق كامل هذا المنهج بالضبط كما أرفض من يجهر بعدم إقتناعه بتطبيقه - و أفضل الأفراد لدي هو من يطبق بعضه و يترك بعضه"

و يمكن الرجوع كذلك لموضوع:
على هامش أزمات الفتاوى الأخيرة, على أعتاب الفوضى
و الذي يتحدث عن أزمات إثارة عدة فتاوى و مواضيع تناقض العقل و إن كانت من صحيح الدين الذي نعلمه بالضرورة - و التي إنتهت جميعا ليس بالمناقشة و قبول تلك الفتاوى و مناقضة العقل - أو رفضها و إسقاطها من صحيح الدين مع بيان السبب - بل بالكبت العنيف و منع بل و تحريم الحديث في تلك المواضيع من أصله.

و الملخص "أنا أؤمن بكامل نصوص الدين الإسلامي و أعلم أنها لا تقبل التشكيك - لكني أرفض بعض تلك النصوص و أرفض تطبيقها"

و بوجه عام يمكن للمتابع ملاحظة توافق صعود مظاهر التدين مع هبوط أخلاقي حاد في المجتمع المصري!!

- ثم دعنا نغوص أكثر لأبعد المنظومات عمقا و هي المنظومة المعرفية:

حيث نؤمن بالعلوم و نبشر بها - ثم نعود لننكرها و نعتبرها قاصرة أما ما أوتينا به من حكمة ربانية.
حيث نؤمن إيمانا لا يتزعزع بديننا - ثم نعود لمحاولات أقل ما يقال عنها هو السخف لإثبات صحة نصوصها و دعمها بواسطة العلوم - التي كنا قد بدأنا بفرض أنها قاصرة. و هذا بواسطة مجموعة من الطفيليين على مجالي الدين و العلوم بكلام كالزبد وجوده مثل عدمه بل عدمه أفضل كثيرا.
حيث لا و لن نستطيع إنكار العلوم و نتائجها من تكنولوجيا مثل ما لا نستطيع إنكار أية نصوص أسطورية و لو تناقضت مع العلوم.

و يمكن الرجوع لمزيد من التفاصيل:
العلم , الدين , اليقين و أزمة الحضارة الإسلامية

ملخص الأمر "العلوم صحيحة و النصوص صحيحة و إن تناقضوا - دعهم جنبا لجنب و دعنا نبتعد عن هذا الحديث إن لم نستطع التلفيق"

إن التناقضات بأعلاه - بين الأقواس باللون الأزرق فوق الخط - و على كافة منظوماتنا الإجتماعية لهي شئ مثير للخوف بقدر ما هو مثير للعجب.
فمن قبل كانت التناقضات المنطقية الكلاسيكية Paradoxes لعبة تخترع للتسلية و إعمال العقول و هذا بأن تصيب سامعها بالعجز عن حلها - أما أن تتحول لأساس حياة فياله من واقع جد مخيف.
ال Paradoxes و التي إعتادت أن تحير المستمع بأن تسبب حالة من العقم في التفكير و الإختيار.
ألا تدلنا متناقضاتنا على عقم تام على كافة منظوماتنا الإجتماعية؟
هل أوصلنا هذا العقم لحالة ما قبل الفوضى و التي يصلها أصحابنا لاعبي الدومينو قبل أن يشرعوا بهدم دورهم؟

و بإختصار هل نحن في مرحلة العقم و على أعتاب الفوضى؟؟

يتبع ,,,

هامش:
الدومينو هي لعبة للتسلية تنتشر بمقاهي مصر جنبا لجنب مع الطاولة و هي عبارة عن قطع من البلاستيك كل واحدة عليها رقمين من أرقام النرد (من 1 - 6) و لكي يستطيع لاعب رمي قطعة و التخلص منها على لوحة اللعب فيجب أن يكون بها رقم على الأقل مساوي لرقم قطعة أخرى على لوحة اللعب.

تسجيل الدخول
اسم المستخدم:
كلمة المرور:	فقدت كلمة المرور؟
	تذكرني

المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع		الكاتب	الردود	المشاهدات	آخر رد
	"مرگ بر امريكا": هل يقولها موالو النظام بلغة "الفوضى الغبية"؟	SH4EVER	5	1,900	07-13-2011, 08:51 AM آخر رد: طريف سردست
	مَنْ يدفع مصر إلى الفوضى؟	الحوت الأبيض	0	703	05-10-2011, 07:21 PM آخر رد: الحوت الأبيض
	هل هى الفوضى الخلاقه؟	عاشق الكلمه	16	5,324	02-27-2011, 05:59 AM آخر رد: ATmaCA
	الفوضى الجنسية	قطقط	24	3,341	11-05-2006, 09:54 PM آخر رد: نسمه عطرة
	عن معنى الفوضى الخلاقة ومعنى الشرق الاوسط الجديد	journalist	1	2,058	11-04-2006, 12:21 AM آخر رد: journalist