قد تستغرب هذا العنوان وحقك أن تستغرب ولكنك إذا قرأت ما تحته زال استغرابك وعلمت ما هو الداعي إلى أن نعنون به هذا المقال , وحينئذ ٍ يتحول استغرابك منه إلى ما ادعاه بعض علماء الدين من أن كلام محمد كله وحي من الله
قد علمت مما مرّ أن من الوحي ما قال محمد عن اجتهاد وعن تفكير ومنه ما قاله عن جبريل , وعلمت أيضاَ أن الوحي بجميع أقسامه وصوره التي ذكرناها إنما هو من كلام محمد , أما كون ما قاله عن اجتهاد من كلامه فظاهر , وأما كون ما قاله عن جبريل من كلامه أيضاً فقد اوضحناه لك في كلامنا عن كل صورة ذكرناها من صور الوحي , فعلى رأينا يكون الوحي كله بجميع أقسامه وصوره كلام محمد وليس كونه وحياً إلا بمعنى أنه إلهام من الله , وإن زعموا أن ذلك كفر
وإذا كان قول الحقيقة كفراً كما يزعم المتدينون تديناً أعمى , فلينسبنا من شاء منهم إلى الكفر وإنما أقول لهم ما قلت قبلاَ :
هل الكفر ألا ترى الحق واضحا فتضرب للأنظار من دونه سترا
وأن تبصر الأشياء بيضاً نواصعا فتظهرها للناس قانيــــــة حُمــــرا
أما علماء الدين من المسلمين فقد افترقوا في هذه المسألة إلى فريقين : أحدهما ينفي جواز الاجتهاد للأنبياء , والآخر يثبته ويحتج الفريق الأول بما جاء في القرآن : ( وما ينطق عن الهوى * إنْ هو إلا وحي يوحى ) (1)
فعلى رأي هؤلاء يكون كلام محمد كله وحياً من الله , وهو عكس ما قلناه من أن الوحي كله كلام محمد , فعند هؤلاء ليس لمحمد كلام , إذ كل ما تكلم به سواء كان في المسجد مع أصحابه أم في البيت مع نسائه أم في السوق مع عملائه أم في الطريق مع رفقائه فلما أتته النبوة انقطع كلامه وصار كل ما يتكلم به ليس منه بل هو وحي من الله , وهذا منهم غلو مفرط واعتقاد في النبوة مضحك , لأن النبي لا يشترط في صدق نبوته أكثر من أن يبلغ ما أمره الله بتبليغه من الأحكام , وأما أن يكون كل ما يقوله حتى كلامه الاعتيادي مع الناس وحياً من الله فشيء خارج عن قدر النبوة وعن حدودها
وليس في الآية التي احتجوا بها ما يدل على ذلك , فإن المراد منه هو أنه لا يتبع هوى النفس فيما يقرر من أحكام ويشرع من شرائع , وإنما يتبع ما تقتضيه المصلحة وترتضيه النصيحة , وليس المراد أن كلامه كله وحي من الله , وأنه لا ينبس ببنت شفة مهما كانت إلا وهي وحي من الله
وإذا علمنا ما هو المراد من الآية فكلامه الصادر عن اجتهاد وحي أيضاً لأنه لم يقله عن هوى بل عن اجتهاد , وكذلك كلامه الصادر عن علمه بأحوال الأولين وأخبار الماضين من أهل القرون الخالية وحي أيضاً , لأنه لم يقل عن هوى بل عن علم بأخبار الماضين
ما عدا ذلك كان له كلام أيضاً فيما يتعلق بحياته اليومية , ويكون خارجاً عن أمر الدعوة وعن دائرة النبوة
على أن هناك كلام دل على أن محمداً نطق عن الهوى أحياناً , ولكنه لم يستمر عليه بل رجع عنه من فوره ؛ فمن ذلك أن عمه حمزة بن عبد المطلب قتل يوم أحد , ومثل به المشركون , فخرج النبي يلتمسه في القتلى فوجده ببطن الوادي وقد بقر بطنه ومثل به , فجدع أنفه وأذناه وقطعت مذاكيره , , فنظر النبي إلى شيء لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه , وقال : لن أصاب بمثلك , وقال : ما وقفت موقفاُ أغيظ لي من هذا , وقال يخاطب حمزة : رحمة الله عليك فإنك كنت ما علمتك فعولاً للخيرات وصولاً للرحم , أما والله لأمثلن بسبعين , وفي رواية بثلاثين رجلاً منهم مكانك , وفي رواية : لئن أظفرني الله تعالى بقريش في موطن من المواطن لأمثلن بسبعين منهم مكانك (2)

فانظر كيف تغلبت عليه العاطفة النسبية فحملته على حب الانتقام لعمه بأن يمثل بسبعين رجلاً مكانه , حتى أن المسلمين لما رأوا جزعه على عمه , قالوا مثل قوله لئن أظفرنا الله بهم يوماً من الدهر لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد في العرب (1)
فهذا النطق عن الهوى , فليس هو من الوحي في شيء , ولكن محمد رجع عن هذا الإيعاد بالمثلة فحرمها ونهى عنها
عن ابن عباس أن الله تعالى أنزل في ذلك : ( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين * واصبر وما صبرك إلا بالله ) (1) الآية , فعفا رسول الله وصبر ونهى عن المثلة وكفر عن يمينه (3)
والظاهر أن نزول هذه الآيات كان بعد أن مثل النبي بالعرنيين وإلا فظاهر الآية يجوز المثلة بمن فعلها فإن المشركين قد عاقبوا بالمثلة فيجوز أن يعاقبوا بها و ومل ما في الآية أنها جعلت العفو والصبر عنها خيراً منها , غير أن هذه الرواية عن ابن عباس بعيدة عن الصحة لأن هذه الآيات مكية , ووقعة أحد كانت مدنية بعد الهجرة بثلاث سنوات , فلا يصح أن تكون سبباً لنزول هذه الآيات كما قاله ابن كثير (4) ومهما يكن فإن محمداً رجع عن إبعاده بالمثلة وحرمها قال الزمخشري في الكشاف وقد وردت الأخبار بالنهي عن المثلة حتى بالكلب العقور (5)
من نطقه عن الهوى ثم رجوعه عنه ما قاله في هبار بن الأسود , وذلك أن هبار بن الأسود من جملة الذين استثناهم محمد من العفو العام يوم فتح مكة , فأمر بقتلهم ولو وجدوا تحت أستار الكعبة , والسبب في أمره بقتل هبار هذا هو أنه لما بعث زينب بنت رسول الله زوجها أبو العاص إلى المدينة , عرض لها هبار في سفهاء قريش فنخس بعيرها , وفي رواية : ضربها بالرمح فسقطت من على الجمل على صخرة , وكانت حاملاً فألقت ما في بطنها واهراقت الدماء , ولم يزل بها مرضها حتى ماتت , فقال النبي : إن لقيتهم هباراً فاحرقوه , ثم قال : إنما يعذب بالنار رب النار , إن ظفرتم به فاقطعوا يده ورجله ثم اقتلوا , فلم يوجد هبار يوم الفتح , ولما رجع النبي إلى المدينة بعد فتح مكة جاء هبار رافعاً صوته قائلاً : يا محمد أنا جئت إليك مقراً بالإسلام , وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله , واعتذر إليه , وقال له بعد أن وقف عليه : السلام عليكم يا نبي الله , لقد هربت منك في البلاد فأردت اللحوق بالأعاجم , ثم ذكرت عائدتك وفضلك في صفحك عمن جهل عليك , وكنا يا نبي الله أهل شرك فهدانا الله بك , وأنقذنا بك من الهلكة , فاصفح عن جهلي وعما كان مني فإني مقر بسوء فعلي معترف بذنبي , فقال النبي : يا هبار عفوت عنك , وقد أحسن الله إليك حيث هداك إلى الإسلام , والإسلام يحجب ما كان قبله , وذكروا عن هبار انه لما أسلم وقدم المدينة جعل الناس يسبونه , فذكر ذلك للنبي فقال له : سب من سبك , فانتهى الناس عنه (1)
فتخصيصه هباراً بالإحراق في قوله إن لقيتم هباراً فاحرقوه , يدل على ما يريده من التشفي بالانتقام منه لفعلته التي فعلها بابنته زينب , فهو بذلك نطق عن الهوى إلا أنه لم يلبث أن رجع عنه
وقد نطق محمد عن الهوى في القرآن أيضاً ورجع عنه , وذلك أن محمداً كان حريصاً على إسلام قومه لا سيما عشيرته الأقربين , فقد كان متهالكاً على إسلامهم , حريصاً على انقيادهم إليه أشد الحرص , غير أنهم كانوا يزدادون كل يوم إعراضاً عنه , وشقاقاً مخالفة له , وكان أشد ما يغيضهم منه عيبه لآلهتهم و ففي يوم من الأيام تغلبت عليه العاطفة النسبية حتى جعلته يفكر أن يقول ما يستميلهم إليه ولا ينفرهم عنه لعله يتخذ ذلك طريقاً إلى إسلامهم وانقيادهم إليه , فبينما هو ذات يوم نادي قومه , وهذه الفكرة في نفسه , نزلت عليه سورة النجم فأخذ يقرأها حتى قرأ : " أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى " ففرح القوم أشد الفرح حتى أنه لما سجد في آخرها , سجد معه جميع من في النادي وطابت نفوسهم , ولكنه لم يلبث أن رأى أن ذلك مخالف لمبدئه , ومناف كل المنافاة للأساس الذي وضعه للدعوة , ( انظر أساس الدعوة في مقالنا تحت عنوان بدء الوحي ) , فرجع عنه وأسقط مدح آلهتهم من القرآن , وجعل يقرأ هكذا : ( أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى * ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذن قسمة ضيزى ) (2)
أن محمداً اعتذر عن ذلك في آية أخرى وردت في سورة الحج وهي : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم * ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض ) (3) الخ الآية والمعنى أن الرسل والأنبياء من قبلك كانت سيرهم كذلك إذا تمنوا مثل ما تمنيت من أن ينزل عليك ما يستميل قومك ولا ينفرهم مكن الله الشيطان أن يلقي في أمانيهم مثل ما ألقي في أمنيتك ليمتحن به من حولهم من الناس

وخلاصة هذا الاعتذار أن قوله : تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى , ليس من الوحي , وإنما قاله الشيطان على محمد فأسمعه الناس وهذا ينافي ما تقدم بيانه في حادثة شق الصدر , وهو ما ذكروه من أن جبريل شق قلبه فأخرج منه حظ الشيطان وألقاه , ومنهم من قال أنه سبق لسانه على سبيل السهو والغلط , فقال تلك الغرانيق العلى ومهما يكن فإن محمداً لا يعاب بمثل هذا لرجوعه عنه فوراً وعدم استمراره عليه , وما محمد إلا بشر مثل غيره من البشر , سوى أن في وقوعه دلالة واضحة على أن الوحي كله هو كلام محمد , وذلك ما قلناه , والذي نريد أن نقوله هنا هو أن لمحمد بعد النبوة كلاماً غير ما يسمونه بالوحي لا كما زعموا من أن كلامه كله وحي من الله , ونحن إنما نقول هذا ونورد الأدلة عليه لمجاراتهم , وإلا قد أوضحنا أن الوحي كله لم يكن إلا كلام محمد وستعلم في المقال الذي يلي هذا لماذا أردنا أن نثبت أن لمحمد كلاماً غير الوحي النازل به جبريل

يتبع
(1) انظر تفسير القرطبي , تفسير الآية 187 من سورة البقرة ؛ وانظر في باب الصوم : السيرة الحلبية , 2/132 – 135 0
(2) انظر تفسير القرطبي , تفسير الآية 187 من سورة البقرة ؛ وانظر في باب الصوم : السيرة الحلبية , 2/ 132 0
(1) سورة النجم و الآيتان : 2-3 0
(2) السيرة , 2/ 246 0
(1) نفس المصدر 0
(2) سورة النحل , الآيتان : 126 – 127 0
(3) السيرة الحلبية , 2/ 246 0
(4) تفسير ابن كثير , في تفسير الآيتين 126 – 127 من سورة النحل ؛ السيرة الحلبية , 2/246 0
(5) تفسير الكشاف , في تفسير الآيتين 126 – 27 من سورة النحل ؛ السيرة الحلبية 2/ 246
(1) السيرة الحلبية , 3/91 – 92 0
(2) سورة النجم و الآيات : 19 –20 ؛ السيرة الحلبية , 1/ 324 – 325 0 وانظر تفسير ابن كثير وتفسير القرطبي للآية 52 من سورة الحج 0
(3) سورة الحج , الآيتان 52 – 53 0

* من كتاب الشخصية المحمدية للكاتب والشاعر معروف الرصافي 0