سؤال منطقي يا لوجيكال وكثيراً ما كان يتبادر إلى ذهني وأنا أشاهد السيرك الدموي الذي انحدر إليه العراق والذي لا أجد ما يبرره لا في مصطلحات المقاومة ولا الصمود ولا أي السلوكيات الإنسانية التي يمكن تفسيرها بالعقل.
لا أظن أن أحداً يخامره الوهم في أن الولايات المتحدة رسول الحرية الذي سيقدم الديمقراطية للعراق على طبق من ذهب. ولكن هل الحل في أن يدمر الإنسان بلده على هذا النحو العبثي؟ لقد وقع الاحتلال وانتهى الأمر وكفة القوى غير متوازنة، أفلا يجدر بالعراقيين أن يوحدوا صفوفهم ويحاولوا الاستفادة من الإمكانيات المتاحة بأن يسعوا لبناء بلدهم وتجميع صفوفهم أولاً. وحتى لو أرادوا المقاومة، ألا توجد أساليب أخرى غير أن تقتل أبناء بلدك؟ هناك مقاومة سلمية ومظاهرات واحتجاجات، و غيرها من وسائل عقلانية كانت ستكون أكثر تأثيراً لأنها تسلب الأميركيين حجة نشر الديمقراطية وتكشف كذب ادعائهم (إن كانوا كاذبين) في أن الشعب العراقي يؤيدهم. وبالمناسبة كل حركات المقاومة العربية ضد الاحتلال الأجنبي كانت تتم رغم دوافعها العاطفية الوطنية بوسائل منظمة تمزج السياسي بالعسكري وفق الضرورة. مثلاً حين غزا الإنكليز مصر تصدى لهم الجيش المصري بما استطاع من إمكانياته المتواضعة، وكانت النتيجة الحتمية هي الفشل في إيقاف الغزو مع حفظ كرامة الجيش والشعب، ولكن حين تبين أن ميزان القوى لا يسمح بالعمل العسكري الشامل تحولت المقاومة إلى الوسائل السياسية. نفس الشيء حدث في سوريا. فقد شهدت الفترة الأولى من الإحتلال الفرنسي ثورات متتالية ضد الفرنسيين، كانت ذروتها الثورة السورية الكبرى في عام 1925 والتي نجح فيها الثوار بفضل توحيد قواهم في الاستيلاء العاصمة دمشق، فرد الفرنسيين بقصف العاصمة بالطائرات ودمروا وأحرقوا كثيراً من أحيائها ولم يوقفوا التدمير إلا بعد انسحاب الثوار وفرض جزية باهظة على السكان. بعدها صار واضحاً أن العمل المسلح المباشر لن يؤدي إلا إلى دمار البلد فتحولت المقاومة إلى العمل السياسي بالإضرابات والمظاهرات، إلخ. حتى الكفاح المسلح في الجزائر تولاه من جهة جيش نظامي له أهداف عسكرية محددة تتجاوز تدمير الأبنية والساحات ونسف المدنيين العزل، ومن جهة أخرى جناح سياسي يفهم توازنات السياسة الدولية ويحسن استغلالها. هذا طبعاً غير مثال اليابان وكوريا، وهي حالات مختلفة.
ويحدثونك عن ورطة أميركا في العراق، وهي ورطة كبيرة فعلاً ولكنها لا تنطوي على ذبح الشعب الأميركي وتدمير بنية البلد التحتية ومواردها الاقتصادية. هي ورطة سياسية وليست أزمة حضارية، ولذلك ستزول يوماً بعد أن تدغع السيساة الأميركية ثمن أخطائها، ولكن بالطبع لن تودي بالبلد ومن فيها. أما ما تفعله المقاومة العراقية الآن أشبه بمن ينتحر ليحمل الآخرين ذنبه.
وبالمناسبة الفرصة لم تضع بعد، إذ ما زال بإمكان القادة الذين تتحدث عنهم أن يتوافقوا ويطرحوا خلافاتهم جانباً، غير أن هذا السيناريو للأسف يبدو بعيداً عن الواقع العراقي المنقسم إلى فصائل متناحرة لا تعرف معنى التسويات والحلول الوسط ولا تفهم السياسة بوصفها فن الممكن. الشيعة يجترون أحقاداً تاريخية عميقة ومظالم عانوا منها ويريدون الآن استيفاء فاتورتها كاملة، والسنة كانوا السادة الحاكمين ولا يقبلون الآن بالمرتبة الثانية (والشيعة لا يرضون لهم بأكثر منها)، والأكراد لا تعنيهم إلا مصالحهم ولو هلك البلد بمن فيه، والكل يقول أنا وبعدي الطوفان. فأي توافق يحدث في قلب هذه المعمعة؟ يبدو أن الوضع سيستمر على ما هو عليه حتى يقضي أحد الأطراف على الآخرين أو يفرض شروطه عليهم، أو ربما حتى ينقسم العراق، والذي يبدو أحياناً الحل الوحيد الناجع.