هل من الممكن إستمرار وضع العقم هذا أم أن الضغوط الخارجية و الداخلية تحول دون ذلك و هي كفيلة بتفجير المرحلة التالية؟؟

يمكن تشبيه وضع العقم الحالي - حيث لا يجب إيجاد حلول للمتناقضات التي تغرق العقل الجمعي خوفا من الفوضى - يمكن تشبيهه بحالة خاصة في علوم الإستاتيكا و هو وضع الإتزان غير المستقر Unstable equilibrium.

و الحالة (إتزان غير مستقر) هي حالة الشئ حين تكون تأثير أية قوى - نظريا - كافية لدورانه أو إنقلابه بالرغم من إتزانه الظاهري. و النموذج المثالي لتلك الحالة هي الكرة - فحتى في حالة ثباتها - تكون أية قوة ذات مركب أفقي و لو ضعيفا - يكفي لدوران الكرة حول نفسها. و هذا على عكس جسم على هيئة مكعب حيث لن تكون نفس تلك القوة كافية لدورامه أو إنقلابه - لكن من الممكن و حسب زحزحته أفقيا و هذا حسب مقدار القوة و مقدار المقاومة.

و في المجتمعات ذات وضع الإتزان غير المستقر - حيث توجد خطورة الإنقلاب التام (الفوضى) تحت تأثير أية قوى و لو ضعفت - يصبح العقم و عدم الدخول فيما قد يجر أي تأثير على هذا الإستقرار الهش هو هدف تلك لمجتمعات. و تباعا تجد حالات الحساسية المفرطة لدرجة العنف كرد فعل على أي مؤثر لا يعلم المجتمع إلى أي مدى قد يصل.

لكن هل يستطيع مجتمع ما أن يحافظ على تلك الوضعية؟ و إلى أي مدى؟
واقع الأمر و معطيات الأمور تنفي ذلك.

و قبل أن نستعرض ذلك الواقع يجب أن نتأكد أن حالة العقم المقصود تلك هي حالة من الضعف و الهشاشة و ليس العكس. فلم يكن هناك أية دواعي للخوف من الخوض في المتناقضات لو لم نكن متأكدين من ضعف خلفياتنا و هشاشتها.

و حين تمثل تفادي المتناقضات و كبتها في محاولة لحماية خلفياتنا الهشة قمة أولوياتنا - عوضا عن أن يكون الوصول للحقيقة و حل التناقض هو الهدف - حينها لن يكون من حل سوى العزلة التامة. بعيدا عن أي مؤثر نعلم يقينا إلى أي مدى قد يأخذنا.

فتلك المتناقضات حال تفجرها - تتوالى بأسلوب التفاعل المتتالي Chain reaction فيما يشبه القنابل العنقودية - و لنا في بعض ما جرى في مصر أخيرا خير مثال على ذلك. فبمجرد أن تنفس المجتمع الصعداء بعد أن كبت أزمات الفتاوى الشهيرة:
(لمزيد من التفاصيل على هامش أزمات الفتاوى الأخيرة, على أعتاب الفوضى )
قبل أن تخبو تلك النيران تفجرت أزمات تغيير الديانة من المسيحية للإسلام و العكس و التناقض بين الحالة الأولى و عكسها و بين ذلك كله و مواد الحرية في الدستور - بل و بين الدستور و الشريعة و بين الدستور و ذاته. حيث ينص في أحد بنوده على أن الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع - جنبا لجنب مع بند يكفل حرية العقيدة .. لإلخ.

و في هذا النموذج يتضح جزئيا شكل التفاعل المتتالي لتلك المتناقضات حال الخوض فيها.
- فالتناقض بين حق المسيحي في الدخول للإسلام ثم إنتفاء حقه في الرجوع لديانته و إنتفاء حق المسلم في الدخول للمسيحية (تناقض أخلاقي)
- يتبعه التناقض بين هل نتبع إذا أحكام الشرع بتناقضها الأخلاقي هذا أم نتبع حرية العقيدة (تناقض أخلاقي - معرفي)
- يتبعه التناقضات في صلب الدستور بين مواد حرية العقيدة و بين مواد تفرض الشريعة كمصدر للتشريع - إذا كانت تلك البنود لا يمكن أن تتجاور هكذا فهل نلغي بند الشريعة أم نلغي بند حرية العقيدة (تناقض على المستوى المعرفي ثم على مستوى البنية السياسية و القانونية).

إن قضية واحدة من هذا القبيل - و التي كانت تبدو محسومة في العقل الجمعي في زمن آخر - تصبح قنبلة عنقودية قابلة لتفجير حتى ما هو أعمق كثيرا من المقولات الرسمية (حكومية و غير حكومية) مثل السلام الإجتماعي و الوحدة الوطنية و النسيج و السبيكة ... إلخ. و غيرها من الشعارات الجوفاء التي يرفعها المجتمع في وجه أي من تسول له نفسه الخوض بتلك القضايا.

و في الواقع فإن إفتراض كون الأنظمة الحاكمة - بصفتها صاحبة المصلحة العليا في الإستقرار و حفظ سلطتها - إفتراض كونها هي القوى الوحيدة الفاعلة و المسببة لكبت تلك القضايا و العصف بمن يثيرها هو إفتراض غير دقيق.
فنوعية تلك القضايا نتعلم كبتها من المنزل للمدرسة للقرية للدولة. فذلك الكبت و ذلك العقم له أساس إجتماعي.

لكن و بالرغم من الكبت الرسمي و غير الرسمي فالملاحظ هو تواتر تلك الأزمات بشكل خارج نسبيا عن السيطرة. و بشكل متزايد مع الزمن.

إن قوى الجذب و التماسك التي طالما حمت إستقرار المجتمع أصبحت أضعف من أن تقوم بذلك و قد أوشكت على الإنهيار تحت ضغط العوامل الضاغطة الداخلية أولا ثم الخارجية. و التي تعمل معا على تفتيت تلك القوى. و الإنطلاق للمجهول. و إن إختلفت طرق عمل و تأثير كل منها:

- العوامل الداخلية:
تتميز العوامل الداخلية بأنها تضغط في إتجاهات مختلفة بل و متناقضة في توزيع محصلته هي تمزق بنيات المجتمع من أعمقها وصولا لأكثرها سطحية.
فعلى المستوى الأخلاقي و القانوني و الدستوري نحن ممزقون بين الأخلاق و القيم الإنسانية الجديدة و شعاراتها و تباعا قوانينها الوضعية وصولا للدستور - و بين الدين بأوامره و نواهيه و شريعته و فقهه. و قد إنتهى شهر العسل بين هذين الإطارين المتناقضين و بدأ التناقض يظهر للعقل الجمعي ممثلا في تلك القضايا الصادمة مثل تغيير الديانة مثلا.
و على المستوى السياسي فقد فقدت الأنظمة الحاكمة - الديكتاتورية - شرعيتها في المجتمع نهائيا و أصبح السيف و السوط هو وسيلة إستمرارها الوحيدة الآن - و ليس لمدة طويلة - لكن لا يوجد بديل فعلي فالتمزق بين حلم الحكم الديموقراطي و بين حكم الشريعة و بين سيف الديكتاتور يعصر المجتمع. فالتمزق السياسي قادم لا محالة بين تلك الإتجاهات.
و على مستوى أعمق فجميع تلك التناقضات الأخلاقية و السياسية تقف على أرضيات من إختلاف معرفي شديد العمق.

لكن يحق لنا قبل أن نكمل أن نسأل أنفسنا: لماذا ظهر ذلك التفسخ الداخلي في جميع بنيات مجتمعاتنا فجأة أو في زمن قصير نسبيا - قويا كالطوفان؟ و هل ظهر هذا فجأة أم أنه كان موجودا دائما بدون إعلان؟ و هل يمكن تعزية ذلك لعوامل التدخل الغربي - سواءا إستخدمنا مصطلح المؤامرة أو لا؟

للإنصاف - نعم قد ظهر هذا التفسخ في زمن قصير نسبيا و لا لم يكن موجودا دائما. و يجب هنا أن نفرق بين وجود تناقضات ذاتية في الدين الإسلامي و بين التناقضات الحالية المقصودة أعلاه. فتلك التناقضات الذاتية أولا لم نكن لنعي أغلبها في زمن مضى متأثرين بمعاييره لمعرفية و بمنظومته التعليمية و غيرها من الأطر الحاكمة حينها. و ليس من العدل الحكم عليها بمعاييرنا الحالية.
ثانيا فالتناقضات الذاتية للأديان ليست حكرا على الإسلام فالمعرفة الدينية أسطورية تراكمية بوجه عام - بل و قد لا نخطئ إذا حكمنا بقلة تلك التناقضات الذاتية في الإسلام مقارنة بالدين المسيحي بعهديه القديم و الجديد مثلا و التي تكاد تنطق بإختلاف مصادرها.
و لكن يجب أيضا أن نعلم أن تلك التناقضات الذاتية و بواسطة معايير و دراسات اليوم أصبحت أشد سطوعا و هذا قياسا على اليوم بعلومه و معاييره فقط.

و للإنصاف أيضا - فلا يمكن إنكار تأثير الغرب المقصود - أي الذي يبذل فيه الغرب جهدا للتدخل لتغيير الأوضاع بمجتمعنا سواء بالقوة أو الضغوط السياسية أو النشر أو غيره. و سواءا كان ذلك عن نية منه - الغرب - لتحسين الأوضاع من وجهة نظره لدينا أو لتفجير الأوضاع - كل هذا لا يمكن إنكاره أيضا.
لكننا سنكون على قدر عالي من الإجحاف - لو أقنعنا أنفسنا بأن ذلك التدخل الغربي المقصود (و لنسمه العوامل الخارجية الإيجابية) هو سبب مباشر لحالة التفسخ تلك.
فبينما يؤكد التاريخ على أن الصراع الغربي الشرقي قد بدأ منذ حوالي أربعة عشر قرنا - فهو يؤكد أيضا أنه و بالرغم من إتخاذ هذا الصراع شكل الصدام الدموي غالبا فإنه لم يحدث أن تفسخت بنيات المجتمع الإسلامي تحت هذا التأثير نهائيا (و لا حدث العكس).
و الغريب أنه في وقتنا هذا و بالرغم من أن الصدام قد إنتهى منه نسبيا و بشكل كبير الصراع الدموي (و إلا لما كنا نناقش هذا الآن نظرا للهوة السحيقة في موازين القوى بين الشرق و الغرب) - الغريب أننا نعاني من تلك التمزقات آلاف أضعاف زمن القسوة و الحرب.

و تباعا إن قبلنا جزئيا بأنه يوجد تدخل مقصود - ثم قبلنا و سلمنا بجميع نظريات و تعليلات المؤامرة على مجتمعاتنا - ألا يجب أن نسأل أنفسنا "و لماذا تؤثر فينا تلك التدخلات و هذه المؤامرات الآن بينما لم تؤثر من قبل مع فارق أنها كانت أكثر دموية و أشد عنفا و قصدا؟" ثم السؤال "لماذا إذا نحن الطرف المفعول به؟ و لماذا لا تؤثر ثقافتنا الموجهة قصدا و مؤامراتنا و تدخلاتنا و بترولنا و ثرواتنا في الآخر بنفس القدر - بل و بأي قدر؟".

لعل أسئلتنا تلك لا تنفي التدخل الغربي سواءا كان بغرض طيب أو خبيث - لكنها تنفي أن يكون ذلك التدخل المقصود (العوامل الخارجية الإيجابية) سبب رئيسي و مباشر في هذه التناقضات و الإنهيارات على مستوى جميع بنياتنا.

يتبع ,,,

تسجيل الدخول
اسم المستخدم:
كلمة المرور:	فقدت كلمة المرور؟
	تذكرني

المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع		الكاتب	الردود	المشاهدات	آخر رد
	"مرگ بر امريكا": هل يقولها موالو النظام بلغة "الفوضى الغبية"؟	SH4EVER	5	1,900	07-13-2011, 08:51 AM آخر رد: طريف سردست
	مَنْ يدفع مصر إلى الفوضى؟	الحوت الأبيض	0	703	05-10-2011, 07:21 PM آخر رد: الحوت الأبيض
	هل هى الفوضى الخلاقه؟	عاشق الكلمه	16	5,324	02-27-2011, 05:59 AM آخر رد: ATmaCA
	الفوضى الجنسية	قطقط	24	3,341	11-05-2006, 09:54 PM آخر رد: نسمه عطرة
	عن معنى الفوضى الخلاقة ومعنى الشرق الاوسط الجديد	journalist	1	2,058	11-04-2006, 12:21 AM آخر رد: journalist