الفرق بين الحج والعمرة
ما هو الفرق بين الحج والعمرة قبل وبعد الإسلام ؟
ولما كان هذا الحج لا يكون إلا مرة واحدة في السنة , كان ذلك قليلاً بالنسبة إلى ما يجب من حرمة الكعبة وتعظيمها , فلذا لم يكتفوا به , بل قالوا من شاء أن يحج البيت في غير وقته المعين أي غير موسم الحج فله ذلك , فيكون حجه هذا حجاً خاصاً , إلا أنهم لا يسمونه حجاً بل يسمونه عمرة , وهي اسم من الاعتمار بمعنى القصد والزيارة , يقال جاء فلان معتمراً أي زائراً
فالحج عندهم كان على نوعين : أحدهما : الحج العام لجميع القبائل , وهذا لا يكون إلا في وقت معين وهو موسم الحج , والآخر : الحج الخاص يفعله من شاء منهم ويسمى عمرة , وهذا لايكون إلا في غير موسم الحج , موسم الحج , فكأن العمرة عندهم عوض عن الحج لمن أشتاق إلى حج البيت في غير موسمه ويفعل المعتمر ما يفعله الحاج , فلا فرق بين العمرة والحج , بل العمرة هي الحج بعينه , وإنما سمي هذا الحج عمرة لكونه واقعاً في غير موسم الحج , فالتسمية بالعمرة ليست إلا لأجل تمييز الحج العام الذي هو حتم , من الحج الخاص الذي هو غير حتم , إلا أن محمداً رسول الله خالفهم في ذلك , فأجاز العمرة مع الحج في موسمه , فمن شاء من المسلمين أن يقرن الحج بالعمرة فله ذلك , ولعل النبي محمداً قصد بذلك مجرد المخالفة , وإلا فإن المقصود من الحج والعمرة شيء واحد وهو زيارة البيت والطواف به , فإذا لم يختلفا في الموسم كانا شيئاً واحداً ولم يبق محل لتسمية أحدهما بالعمرة , وإيقاع العمرة مع الحج كالجمع بين العوض والمعوض عنه لأن العمرة إنما كانت في غير موسم الحج لتقوم مقامه وتكون عوضاً عنه , وذلك لا يكون إلا إذا كانت في غير موسم الحج
ولكن من الغريب أننا بينما نرى النبي محمداً يخالف أهل الجاهلية في قران الحج بالعمرة حيث لا داعي إلى المخالفة , نراه يوافقهم على ما كانوا يفعلونه من السعي بين الصفا والمروة , وهما جبلتان بين بطحاء مكة والمسجد , أما الصفا فمكان مرتفع من جبل أبي قبيس , وأما المروة فأكمة لطيفة في جانب مكة الذي يلي قعيقعان , وكان في الجاهلية على الصفا والمروة صنمان , إساف على الصفا ونائلة على المروة كما ذكره القاضي البيضاوي وكذا الزمخشري في تفسيرهما (1)0 وكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسحوهما , وذكر صاحب معجم البلدان عن ابن إسحاق أنهما نصبا عند الكعبة , وقيل نصب أحدهما على الصفا والآخر على المروة , ثم حولهما قصي فجعل أحدهما بلصق البيت وجعل الآخر عند زمزم , وكان ينحر عندهما وكانت الجاهلية تتمسح بهما (2) , ولهما قصة خرافية مذكورة في كتبهم فارجع إليها إن شئت
وفي السيرة الحلبية بعد ذكر إساف ونائلة على الصفا والمروة قال : ومن ثم لما جاء الإسلام وكسرت الأصنام كره المسلمون الطواف , أي السعي بينهما , وقالوا : يا رسول الله , هذا كان شعارنا في الجاهلية لأجل التمسح بالصنمين , فأنزل الله تعالى : ( إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو أعتمر فلا جناح عليه أن يَطَّوَّف بهما ) (3) , وقرأ ابن مسعود " فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما " وهي قراءة صحيحة في المعنى لأن رفع الجناح يتضمن التخيير بين الفصل والترك كما ذهب إليه ابن عباس وابن الزبير , ويؤيدهما قراءة ابن مسعود هذه, ولكن السعي بين الصفا والمروة واجب عند أبي حنيفة إلا أنه ليس بركن من أركان الحج , وهو عند مالك والشافعي ركن لقول النبي : اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي
ومهما يكن حكم السعي فإنه من الغريب موافقة أهل الجاهلية على هذا الفعل الوثني البحث وجعله من شعائر الله , مع أن المسلمين قد أظهروا للنبي كراهة هذا الفعل وقالوا له : إنّا كنا نفعله لأجل التمسح بالصنمين , فإن قلتَ : إنهم في أصل السعي بين الصفا والمروة أنه يفعل تذكاراً لما فعلته هاجر أم إسماعيل , وذلك أن إبراهيم لما وضع إسماعيل بموضع الكعبة وكرّ راجعاً قالت له هاجر : إلى من تكلنا ؟ قال : إلى الله , قالت : حسبنا الله , فرجعت وأقامت عند ولدها حتى نفذ ماؤها , وانقطع درها , فغمها ذلك وأدركتها الحنة على ولدها , فتركت إسماعيل في موضعه وارتقت على الصفا تنظر هل ترى عيناً أو شخصاً , فلم ترَ شيئاً فدعت ربها واستسقته , ثم نزلت حتى أتت المروة ففعلت مثل ذلك ,ثم سمع أصوات السباع فخشيت على ولدها فأسرعت تشتد نحو إسماعيل , فوجدته يفحص الماء من عين انفجرت من تحت خده , وقيل : من تحت عقبه , قيل : فمن ذلك العدو بين الصفا والمروة استئناساً بهاجر عدت لطلب ابنها لخوف السباع , وهذه القصة مذكورة في كتبهم , وإلا أن لفظ ما أوردناه هما هو لصاحب معجم البلدان عند الكلام على زمزم (1) , قلت ُ : قبل هذا النقش يلزم إثبات العرش
ومن لنا بإثبات قصة إبراهيم وهاجر في مكة , وما الذي دعا إبراهيم أن يأخذ زوجته ويأتي بها إلى هذا البلد القفر الموحش الخالي من السكان , ثم ما الذي دعاه بعد ذلك إلى أن يترك زوجته وابنه الصغير ويذهب عنها غير مبال بما يلاقيان من ضواري السباع , ولا ما يعانيان من جوع وعطش , ولو أن أحد الناس فعل اليوم مثل هذا لكان أقل ما يقال فيه إنه مجنون
على أنه إن صحّ أن إبراهيم جاء بزوجته وابنه إلى مكة , فلا بد من أن تكون مكة مأهولة بالناس, وإن كان البيت أقدم من إبراهيم كما قالوا , فهو يقتضي أن يكون ما حوله مأهولاً بالسكان , ولو سلمنا أن قصة هاجر هذه واقعة , لما جاز أيضاً في دين التوحيد إبقاء هذا الطواف بين الصفا والمروة بعد أن أكل الدهر عليه وشرب , وبعد أن جعلته العرب فعلاً وثنياً بحتاً
العامل الثاني
هذا ما نقوله في العامل الأول في منشأ الحج , وأما العامل الثاني فهو منفعة رؤساء الدين وهم سدنة البيت وولاة أمره الذين كانت لهم رئاسة عامة دينية ودنيوية , لأن رؤساء الدين في ذلك الزمان هم رؤساء الدنيا أيضاً , وهذه المنفعة غير مقصورة على السدنة أنفسهم بل هي تشتمل أبناء قبيلتهم قريش أجمعين , وبعبارة أخرى تشمل أهل مكة أجمعين , وإن كانت منفعة الرؤساء أكثر من غيرهم , فإن أهل مكة كانوا تجاراً وكانت معايشهم قائمة بما يربحونه في البيع والشراء بتجارتهم مع الحجاج عند قدومهم للحج في المواسم التي هي أسواق لا تنفق ولا تقوم إلا بالحجاج
فلو أن قبائل العرب انقطعت عن حج البيت الأعظم واكتفت بما عندها من البيوت للأصنام لانقطعت تلك المنفعة وهلك أهل مكة وضاع ما لسدنة الكعبة من رئاسة عامة, فمنفعة الرؤساء إذن عامل كبير من عوامل إيجاد الحج وافتراضه على القبائل أجمعين , ومما يدل على هذا ما جاء في سورة البقرة من آيات الحج التي منها : ( ليس عليكم جناح أن تبغوا فضلاً من ربكم ) (1) وفي قراءة ابن عباس " فضلاً من ربكم في مواسم الحج " , قال الزمخشري في تفسيره هذه الآية : كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقهم في الجاهلية يتجرون فيها في أيام المواسم , وكانت معايشهم منها , فلما جاء الإسلام تأثموا ( أي تحرجوا عن الإثم بالاتجار ) فرفع عنهم الجناح وأبيح لهم ذلك , أي بقوله ليس عليكم جناح , الآية , قال : وعن ابن عمر أن رجلاً قال له : إنّا قوم نكري في هذا الوجه ( أي نؤجر دوابنا) , وإن قوماً يزعمون أن لا حج لنا , فقال : سأل رجل رسول الله عمّا سألت , فلم يرد عليه حتى نزل : ( ليس عليكم جناح ) , الآية , فدعا به فقال : أنتم حجاج , وعن عمر بن الخطاب أنه قيل له : هل كنتم تكرهون التجارة في الحج ؟ فقال : وهل كانت معايشنا إلا من التجارة في الحج ؟ (2) وفي السيرة الحلبي, : أن أبا طالب لما حضرته الوفاة صرّح في وصيته لوجهاء قريش بأن البيت قوام لمعاشهم , إذ قال فيما قال : أوصيكم بتعظيم هذه البنية ( أي الكعبة ) فإن فيها مرضاة للعرب وقواماً للمعاش (3)
وكان المشركون يحجون مع المسلمين إلى السنة التاسعة من الهجرة , وفي هذه السنة منع المشركون من الحج , فوجدت قريش من منعهم لفوات المنفعة الحاصلة لهم من التجارة معهم , فأعاضهم الله من ذلك بالجزية , فقد ذكر ذلك ابن القيم في زاد المعاد عند بحثه عن السنة التي فرض فيها الحج , قال : ويدل عليه أن أهل مكة وجدوا في نفوسهم بما فاتهم من التجارة من المشركين لما أنزل الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) (4) , قال: فأعاضهم الله من ذلك بالجزية , ونزول هذه الآيات والمناداة بها إنما كان في سنة تسع (5) أقول : إن المشركين أسلموا بعد ذلك كلهم , فاجتمع لأهل مكة العوض وهو الجزية , والمعوض عنه هو تجارتهم مع المشركين في موسم الحج
يتبع
(1) سيرة ابن هشام , 1/ 83 0
(2) سيرة ابن هشام , 1/ 83 0
(1) تفسير البيضاوي تفسير الآية 158 من صورة البقرة ؛ الكشاف , تفسير الآية نفسها 0
(2) معجم البلدان 1/ 170 ( إساف )
(3) سورة البقرة , الآية : 158 ؛ السيرة الحلبية , 1/ 12 و 3/ 262 – 263 0
(1) معجم البلدان , 3/ 147 – 149 0
(1) سورة البقرة , الآية 198 0
(2) الكشاف , تفسير الآية , 198 من سورة البقرة 0
(3) السيرة الحلبية , 1/ 352 0
(4) سورة التوبة , الآية : 38 0
(5) زاد المعاد , ( طبعة مؤسسة الرسالة ) , 2/ 101 – 102 0
* من كتاب الشخصية المحمدية للكاتب والشاعر العراقي – معروف الرصافي 0
|