واخيرا ::
مقالات - رمضــان في الفقه الإسلامي
- الصوم أساس روحي في التراحم والعدالة بين الناس -
د. حسن حنفي
صوم رمضان يبدو في كتب الفقه العديدة منذ القرن الثالث الهجري حتي الآن. كتب فيه الفقهاء من المذاهب الأربعة. ولما كانت المدرسة السلفية لابن تيمية وتلميذه ابن القيم من أهم المدارس التي جمعت بين القديم والجديد، بين الأصول والفروع، بين التمسك بالسنة وفي الوقت نفسه القيام بالنقد الاجتماعي للممارسات الخاطئة كانت بداية الإصلاح الديني الذي ينتسب إليه محمد بن عبد الوهاب والأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وعلال الفاسي وحسن البنا وغيرهم علي مدي سبعة قرون.
فإذا أخذنا (زاد المعاد) لابن القيم نموذجاً تظهر عدة موضوعات في صوم رمضان أصلها في الكتاب والسنة وفروعها في التفسير والتعليل والنقد الاجتماعي لممارسات العصر مثل: فوائد الصوم الطبية البدنية بالإضافة إلي الخلقية الروحية، والحكمة من التدرج فيه وفرضه بعد الصلاة، وتحريم الوصل وصل الليل بالنهار، وصوم الدهر، وترك البعض منه علي التخيير حتي يأتي باختيار الإنسان الحر، وهو المندوب، وكراهية التشدد في العبادات كلها، وأنواع المفطرات والأيام المستحبة والمكروهة في صيام التطوع.
فالمقصود من الصيام حبس النفس عن الشهوات. وامتحان قوة الإرادة، وتذكية الروح من أجل إعادة التوازن في حياة الإنسان بين مطالب البدن ومتطلبات الروح. وفي الوقت نفسه المقصود منه الإحساس والتذكرة بحال (الأكباد الجائعة من المساكين). والصيام مفيد طبيا وبدنيا وفسيولوجيا عن طريق تضييق مجاري الطعام والشراب وحبس قوي الأعضاء، وتسكين كل عضو وتهدأته. فللصوم تأثير في حفظ الجوارح الظاهرة والقوي الباطنة وحمايتها من التخليط الجالب للمواد الفاسدة مثل الراحة الواجبة للبدن كله أو للآلة التي تعمل طول الوقت أو للعامل الذي يقضي ساعات طويلة في العمل.
وهي الحكمة نفسها من صوم المعتكف. فالصوم شرط الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان بالتخلي عن فضول الطعام وما لا يحتاجه الجسم في فترة الراحة حتي لا يصاب بالتخمة. وفضول الطعام مثل فضول الكلام وفضول الجنس حتي تطهر الروح وتعكف علي ذاتها بعد أن تتحرر من قيود البدن وثقل الجسم الذي يشدها إلي الأرض فتخلد إليه. الصوم إذا نافع للبدن قبل أن يكون صالحا للروح. ويهدف إلي صحة البدن قبل أن يبغي صلاح النفس. لذلك ربط الفلاسفة بين أحوال البدن وأحوال النفس، وربطوا بين خفة البدن وشفافية الروح، وثقل البدن وانغلاق النفس. الصوم طريق للتحرر المزدوج للبدن والروح علي حد سواء.
والتدرج نهج الإسلام في فرض أي حكم علي الناس حتي يتعود الناس عليه ولا تنفر منه. فالإنسان ابن العادة، يحتاج إلي وقت وصبر كي يترك العادة السابقة، ويتمثل العادات الجديدة. تلك كانت طريقة الإسلام في تحريم الخمر تدريجيا، وفي تحرير المرأة تدريجيا، وفي تحريم العبودية تدريجيا.
تسعة رمضانات
فقد فرض الصوم في وسط الإسلام، لا في أوله ولا في آخره، في السنة الثانية بعد الهجرة. وقد صام الرسول تسعة رمضانات بعدها، بعد أن تعودت النفوس علي الشهادتين، ومارست الصلاة. فالتوحيد لا يتأجل لأنه إعلان الشهادة، ورفض عبودية الروح، وتكبّر الأمراء والأشراف واتخاذهم أربابا من دون الله، تحرير الوجدان الإنساني من الخوف من البشر، وإعلان مساواتهم جميعا أمام إله واحد، وأن الرسول خاتم الأنبياء، وأن الإسلام خاتم الرسالات. وبالتالي تكتمل غاية الوحي، إعلان استقلال العقل والإرادة. فالعقل قادر علي التمييز بين الخطأ والصواب، والإرادة قادرة علي اختيار الصواب دون الخطأ.
ثم بدأ فرض الصوم علي ثلاث درجات. الأولي علي وجه التخيير بينه وبين إطعام مسكين كل يوم. فالحكمة من الصوم الإحساس بجوع الآخرين، وأن الناس سواسية في إشباع الحاجات الأساسية، وأن علي الإنسان أن يعطي من فضله من لا فضل له. الصوم أساس التراحم الاجتماعي، وتحقيق العدل بين الناس طواعية واختيارا وعلي مستوي الأخلاق قبل أن تحققه الشريعة علي مستوي القانون. ومن أوجه التخيير الرخص لعذر أو مشقة أي أن يكون إطعام المسكين رخصة فقط للشيخ الكبير والمرأة إذا لم يستطيعا الصوم. وأعطيت الرخصة نفسها للمريض والمسافر وقضاء الصوم بعد ذلك في حالة الصحة والاستقرار. كما أعطيت للحامل والمرضع حماية للجنين في بطن الأم وللرضيع بين يديها مع القضاء بعد فترة الحمل وفترة الرضاعة. فلا يجوز تكليف بما لا يطاق. وقد رفع من الإسلام الحرج واعترف بضروريات الحياة وبواقع المجتمع والناس.
والثانية فرض الصيام علي كل فرد حتي إذا نام قبل أن يطعم حرم عليه الطعام والشراب حتي الليلة التالية.ولكن البعض اختان نفسه مثل عمر عندما عاشر زوجه بعد أن غفا وكأن القرآن أراد أن يأخذ الناس باللين أولاً ثم بالشدة ثانياً.
والثالثة الصيام أثناء النهار والإفطار ومعاشرة الأزواج أثناء الليل سواء غفا الصائم أم لم يغف. وهو الصيام المقرر حتي آخر الزمان. وهو الوسط بين اللين والشدة، تجريبا علي الواقع، وقياسا علي قدرة الناس علي التحمل. فأحكام الشرع أحكام وضعية كما يقول الشاطبي تقوم علي مصالح الناس.
صوم رمضان فرض. والصوم في غير رمضان سنــّة علي التخيير أو صيام تطوع. فالصوم ليس واجبا تكرهه النفس وتقبله عن غير رضا بل هو طلب للنفس من تلقاء نفسها ودعوة له منها بحرية وعن طبيعة.
الصوم والإفطار
فقد كان الرسول يصوم حتي ليقال انه لا يفطر، ويفطر حتي ليقال انه لا يصوم. يجمع بين الصوم والإفطار. ولم يستكمل صياما غير شهر رمضان. وكان شهر شعبان أكثر الأشهر صياما فيه. ولم يكن يمضي شهر لا يصوم فيه بضعة أيام، وقيل ثلاثة. كان يصوم الأيام البيض، وستة أيام من شوال، وفي بعض الروايات كان يصوم كل اثنين وخميس من كل أسبوع، وثلاثة أيام في أول كل شهر. واختلفت الروايات علي صوم التاسع والعاشر من ذي الحجة. ولكنه كان لا يصوم في رجب. وكان لا يسرد الصوم شهورا متتابعة كما يغفل بعض الغالية والمتطرفين في العبادة، والمزايدين علي أنفسهم وعلي الله وعلي الناس.
وتختلف الروايات حول صوم عاشوراء. فقد كانت قريش تصومه في الجاهلية تعظيما لصاحب الكعبة. ولما قدم الرسول المدينة وجد اليهود يصومونه، وهو يوم نجاة موسي وغرق فرعون فقال (نحن أحق بموسي منكم) فصامه، وأمر بصيامه، وذلك قبل فرض صوم رمضان. وبعد أن فرض صوم رمضان ترك الرسول صوم عاشوراء علي التخيير، من شاء صامه ومن شاء تركه، (هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب الله عليكم صيامه، وأنا صائم فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر). فالإسلام وريث الشرائع السابقة، شرائع نوح وإبراهيم وموسي وعيسي. أكملها وأعاد صياغها بما يتفق مع خاتم الرسالات ورقي البشر.
ومع ذلك حرص الرسول علي التمايز، تمايز المسلمين عن صوم اليهود والنصاري. فنوي في العام المقبل أن يصوم التاسع (إذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا يوم التاسع). ثم توفي الرسول قبل أن يحول الحول. كانت نية الرسول التمايز عن اليهود (صوموا يوم عاشوراء وخالفوا اليهود وصوموا يوما قبله ويوما بعده). فالاتصال مع عادات العرب قبل الإسلام مثل الصوم، صوم عاشوراء، وبعض مناسك الحج، ربط للإسلام بتاريخه. وفي الوقت نفسه التمايز بينه وبين الشرائع السابقة ضروري لإثبات الجدة والنقلة الجديدة. وتلك عبقرية الإسلام في جدل التواصل و الانقطاع، الارتباط بالقديم والبداية بالجديد.
المصدر