د. عماد عبد الرازق

مانع وممنوع

برنامج موسمي قفز فجأة وسط هوجة البرامج الرمضانية علي الفضائية المصرية حواري بعنوان مانع وممنوع كان حريا بصاحبته المذيعة لميس الحديدي ان تسميه قامع ومقموع ، والاسم الأصلي كما ترون لا يخلو من نبرة استفزازية عدوانية علي نفس منوال البرنامج الآخر الذي تقدمه المذيعة ذاتها في غير الموسم الرمضاني المبارك بعنوان إتكلم . ومع ذلك أزعم أن الاسم الذي اخترته أنا يليق اكثر ببرنامج المرأة الحديدية الموسمي. النبرة العدوانية لا تقتصر علي اسم البرنامج بل تمتد لطبيعة الحوار الذي تستأسد فيه المذيعة الحديدية علي بعض ضيوفها وليس كلهم، وحسب قرب الضيف او بعده من النظام وموقعه في الهرم السلطوي. في الحلقة الأخيرة التي شاهدتها استضافت شيخا أزهريا يعمل في لجنة تابعة لمجمع البحوث الإسلامية مختصة بمراقبة المطبوعات كالكتب بكل أنواعها واستصدار تقارير تبيح منعها ومصادرتها او السماح بتداولها. أي أنه أحد رموز سلطات المنع في مصر المحروسة، موضع اهتمام البرنامج كما يفصح اسمه. المذيعة الحديدية كانت في هذه الحلقة عدوانية واستفزازية بطريقة أقل ما يقال فيها أنها تفتقد تماما للمهنية. دار الحديث حول رواية نجيب محفوظ اولاد حارتنا وراحت المذيعة تستجوب الضيف عن اسباب منع الرواية، وكلما شرع الضيف في الإجابة هبت فيه مقاطعة وهي تنهره متسائلة في تطاول تحسد عليه: هل قرأت الرواية؟ ده عمل فني رائع؟ ليه ليه؟ ده عمل أدبي جميل؟ أقرأها لو سمحت؟ رجاء مني؟ من فضلك عشان خاطري .

والضيف يتحلي بالصبر وطول البال مغتصبا ابتسامة علي وجهه، حتي لم يجد بدا من ان يرد علي هذا الاستفراز ويخبرها أنه قرأ الرواية بالفعل في مطلع شبابه، لكنه حين عرضت الرواية بعد ذلك بسنوات علي اللجنة ارتأي هو بحكم منصبه، وبناء علي تقرير اللجنة التي كلفت فحص الرواية، ارتأي منعها. وهو قرار خاطئ وأحمق من وجهة نظري كما أنني شخصيا ضد المنع وسلطاته بكل أشكالها، خاصة حين يتعلق بالأعمال الفنية والأدبية وكل ما له صلة بحرية التعبير. لكن رأيي هذا ليس ملزما ولا ينبغي أن أفرضه فرضا علي الناس من فوق منبر عام يفترض أنني مؤتمن عليه بحكم عملي. ثم أين كانت شجاعة المذيعة الحديدية وشراستها الهجومية حين كانت تجري حوارا مع جمال مبارك؟ ولماذا تحولت طوال ذلك الحوار الي قطة وديعة لا تفارق وجهها الابتسامة تنتقي الأسئلة لتنزل بردا وسلاما علي ضيفها المبجل حتي القداسة، الذي عقرت بطون المصريات ان يلدن مثله؟ البرنامج التليفزيوني ليس ملكية خاصة لمقدمه أو مقدمته، فإن رغب أحدهم في التعامل معه علي هذا النحو فليفتح قناة خاصة به (أو لعل دادي أو مامي تشتري له قناة خاصة) فإن تعذر ذلك، فليكتب او تكتب رأيها هذا في مقال يحمل اسمه او تطبعه في كتاب.

ليس من المفروض ان يعرض علينا المذيع أو المذيعة وجهات نظرهم في القضايا التي يناقشونها مع ضيوفهم. المفروض انه يتخذ المذيع موقفا حياديا، لأن مهمته هي اتاحة الفرصة لتبيان وعرض كل وجهات النظر. يجب ان يكون محايدا: أي لا ينحاز لرأي بعينه او يحبذه او حتي يبرزه. وموضوعيا اي يتيح فرصا متكافئة لكل الآراء دون تحيز مسبق أو افتئات. لكن السيدة الحديدية تتعامل مع البرنامج كمتاع شخصي، لها مطلق حرية التصرف فيه. ومن هنا فهي تستخدم البرنامج كمطية للترويج لنفسها. وبما أن الموضة الحكومية السائدة هذه الأيام هي مهاجمة التيار الديني والاخوان المسلمين بوجه خاص، فهي حريصة علي أن تضع نفسها في طليعة المستنيرين والمستنيرات ضد الظلاميين والظلاميات، كما يطلق عليهم في قاموس شتائم صحفجية الحكومة، ولسان حالها يقول هالو ياحكومة.. هالو يانظام.. أنا والله العظيم باسب وبشتم الإخوان المسلمين وكل المتدينيين والدراويش ومن لف لفهم.. خلوا بالكم مني. وافتكروني بحاجة. زي عضوية لجنة السياسات مثلا أو مديرة قناة من القنوات المتخصخصة او حتي برنامج تاني وتالت ورابع . لقد صارت مهاجمة الإخوان المسلمين موضة في مصر المحروسة، وأصبح مثل هذا السلوك كوول Its cool to aack them ، وهي الطريق الأسرع والأضمن الي لحس نعال الحكومة وتقبيل مؤخرتها والتسلق الي المناصب ونيل الهبات وهبش النفحات. لكن لا تنسي في الوقت ذاته ان تدلك مشاعر الحكومة وتتغني بمنافح النظام الذي أغرق البلاد في أزهي عصور الديمقراطية.

متي سيتوقف التليفزيون المصري عن أن يكون بوقا دعائيا فجا للحكومة والنظام؟ متي سيحترم المذيعون والمذيعيات فيه أنفسهم ومشاهديهم ويعرضون لوجهات النظر المختلفة لأي قضية يتناولونها بالعرض؟ متي يقلعون عن الانبطاح و استرخاص انفسهم أمام الفضلات التي يلقي بها النظام إليهم ؟

توجد في بريطانيا هيئة مستقلة عن الحكومة تراقب قنوات البث التليفزيوني والإذاعي، وتعاقب بالغرامة كل من يخالف قواعد البث، وفي مقدمتها عرض قضية ما من وجهة نظر أحادية، أو بشكل غير ممثل لكافة الآراء ووجهات نظر الأطراف ذات الصلة. لو أن هيئة كهذه وجدت في مصر المحروسة لكان مصير كل مذيعي ومذيعات التليفزيون المصري وراء القضبان. لكن هذا المصير السعيد محفوظ حاليا للصحافيين الشرفاء في صحف المعارضة.

ناقد سينمائي من مصر