ماذا وراء أسطورة الثائر البطولي؟
الاشتراكية حسب تشه غيفارا
دفاتر غير منشورة لتشه غيفارا
ميكاييل لووي*
عرف فكر أرنستو تشه غيفارا تطوّراً كبيراً بين انتصار الثورة الكوبية، في العام 1959، والعام 1967. وإذا كان التحرّر الأميركي اللاتيني والصراع ضدّ الإمبريالية، على صعيد الكرة الأرضية برمّتها، يعدّان الموضوعيْن الأساسييْن لفكره وممارسته السياسية، فقد ترافقا، منذ العام 1963، مع نقدٍ متزايدٍ للطريق المسدود التي أدّى إليها النموذج السوفيتي والأوروبي الشرقي.
يوماً بعد يوم، كان أرنستو تشه غيفارا يبتعِد عن أوهامه الأولى حول الاتحاد السوفيتي والماركسيّة وفق النموذج السوفيتي. فهو ينتقد بشدة، في رسالةٍ كتبها في العام 1965 لصديقه أرماندو هارت (وزير الثقافة الكوبي)، "التبعيّة الإيديولوجية" التي تَظهَر في كوبا بنشر كتيّبات سوفيتية لتعليم الماركسيّة - وتتلاقى وجهة النظر هذه مع تلك التي كان يدافع عنها في الحقبة نفسها فرناندو مارتينيز هيريديا وأوريليو ألونزو وأصدقاؤهم في قسم الفلسفة في جامعة هافانا، ناشرو مجلة Pensamiento Critico ("الفكر النقدي"). ومن سيّئات تلك الكتيّبات - التي يسمّيها "المجلّدات السوفيتية السميكة"- بأنها "لا تترك لك مجالاً للتفكير: فالحزب قام بذلك بدلاً عنك، وليس عليك إلا أن تهضم هذا التفكير [1]".
وهكذا بات يتّضح لنا، كيف كان التشه يبحث، بصورةٍ تزايدت وضوحاً، عن نموذجٍ آخر ووسيلة مختلفة لبناء الاشتراكية، تكون أكثر جذريةً ومساواةً وتضامناً.
نتاج الـ"تشه" ليس نظاماً مغلقاً وحجّة مكتملة تتضمّن جواباً عن كلّ شيء: ففكره لا يزال منتقصاً حول العديد من المسائل - الديمقراطية الاشتراكية، محاربة البيروقراطيّة-؛ والموت وضع حدّاً له في العام 1967، بقي من ثَمَّ غير مكتمل. لكنّ مارتينيز هيريديا محقّ في التشديد بهذا الصدد على أن: "عدم اكتمال فكر الـ"تشه" (...) له حتى جوانب إيجابيّة. فالمفكّر الكبير هنا، يشير إلى مشاكل وسبل (...)، فارضاً على رفاقه أن يفكّروا ويدرسوا ويوفِّقوا بين الممارسة والنظريّة. ويصبح من المستحيل، عندما نعتمد فكره اعتماداً حقيقياً، نشره كعقيدةٍ وتحويله إلى (...) حصن للمضاربة النظريّة (...) مصنوعٌ من الجمل والوصفات [2]".
في مرحلة أولى - بين 1960 و1962 -، وضع غيفارا آمالاً كبيرة في "البلدان الشقيقة" ذات النظام الاشتراكي "القائم فعلياً". وبعد بضع زيارات إلى الاتحاد السوفيتي ودول أوروبا الشرقية، وبعد اختباره لأولى السنوات الانتقالية إلى الاشتراكية في كوبا، أصبح أكثر فأكثر انتقاداً. وقد عبّر علناً، في عدّة مناسبات، عن اختلافاته في الرأي، خصوصاً بمناسبة "خطاب الجزائر" الشهير الذي ألقاه في العام 1965. لكنّنا في الحقيقة شهدنا ظهور محاولته لوضع صيغة لمقاربة مختلفة للاشتراكية، بدءاً من العامين 1963-1964، خلال النقاش الاقتصادي الكبير الذي جرى في كوبا.
فقد شهد هذا النقاش مواجهة بين مؤيّدين لنوعٍ من "اشتراكية السوق" مع استقلاليّة للشركات وتوخّي الربح - كما في الاتحاد السوفيتي-، وغيفارا الذي دافع عن خطّة مركزيّة مرتكزة على معايير اجتماعية وسياسية وأخلاقية: فبدلاً من علاوات الإنتاجية وأسعار يحدّدها السوق، ها هو يقترح مجانية بعض السلع والخدمات. إلاّ أنّ مسألة واحدة تبقى قليلة الوضوح في مداخلات الـ"تشه"، وهي: من يتّخذ القرارات الاقتصادية الأساسية؟ أي بتعبيرٍ آخر، مشكلة الديمقراطية في التخطيط.
هكذا قدّمت بعض الوثائق غير المنشورة لغيفارا، والتي صدرت مؤخّراً في كوبا، توجهات جديدة حول هذا الموضوع والكثير غيره. إنها "مدوّناته النقديّة" على "كتيّب الاقتصاد السياسي" الصادر عن أكاديمية علوم الاتحاد السوفيتي (النسخة الإسبانية الصادرة عام 1963) - وهي أحد تلك "المجلّدات السميكة" التي كان انتقدها في رسالته إلى هارت -، التي حرّرها خلال إقامته في تنزانيا ثمّ خصوصاً في براغ، خلال العامين 1965-1966: وهذه المدوّتلت ليست كتاباً ولا حتى بحثاً، بل مجموعة من المقتبسات من المؤلّف السوفيتي، تبعتها تعليقات قاسية ومتهكّمة في غالب الأحيان [3].
كنّا نترقّب، منذ زمن بعيد، بعيد جداً، نشر هذه الوثيقة. إذ بقيت خلال عشرات السنين، "خارج التداول": كلّ ما حصل هو السماح لبعض الباحثين الكوبيّين بالاطّلاع عليها وإيراد بعض المقاطع منها [4]. واليوم، بفضل ماريا ديل كارمن أرييت غارسيا، من مركز تشه غيفارا للدراسات في هافانا، الذي نظّم النشر، أصبحت هذه المدوّنات الآن بمتناول القرّاء المهتمّين. وفي الواقع تتضمّن هذه النسخة الموسَّعة موادَ أخرى غير منشورة من قبل، بينها: رسالة إلى فيديل كاسترو، عائدة إلى نيسان/أبريل 1965، تشكّل مقدّمة للكتاب؛ وملاحظات حول كتابات لماركس ولينين؛ ومختارات من محادثات بين غيفارا وزملائه في وزارة الصناعات (1963-1965)، سبق أن نُشِرَت، جزئياً، في فرنسا وإيطاليا في السبعينيات؛ ورسائل إلى شخصيّات مختلفة (بول سويزي، شارل بيتيلهايم)؛ ومقتطفات من مقابلة مع مجلّة الطليعة المصريّة (نيسان/أبريل 1965).
هكذا يشهد هذا المؤلّف، في الوقت نفسه، على التحرّر الفكريّ لغيفارا، وعلى احتفاظه بمسافة نقديّة من "الاشتراكية القائمة فعلياً"، وكذلك على بحثه عن طريق راديكاليّة. كما يُظهر أيضاً حدود تفكيره.
ولنبدأ بهذه: إنّ الـ "تشه"في تلك اللحظة - ولا ندري ما إذا كان تحليله حول هذا الموضوع قد تطوّر بعدها في العامين 1966/1967- لم يكن قد فهم مسألة الستالينيّة. فهو يربط الطرق المسدودة التي وصل إليها الاتحاد السوفيتي في الستينيات بـ ... "السياسة الاقتصادية الجديدة" NEP التي وضعها لينين! ولا شكّ بأنّه كان يعتقد أنّه لو تسنّى للينين العيش لوقتٍ أطول - وهنا كتب مازحاً أنّ لينين قد "اقترف خطأً عبر موته"-، لكان صحّح أكثر آثارها رجعيّةً. غير أنّه يبقى على اقتناع بأنّ إدخال عناصر رأسماليّة، من ضمن "السياسة الاقتصادية الجديدة"، هو الذي أدّى إلى التوجّه السيّئ نحو إعادة ترميم الرأسماليّة التي شهدناها في الاتحاد السوفيتي في العام 1963.
من عليه أن يقوم بالتخطيط؟
بيد أنّ الانتقادات التي وجهها غيفارا لـ"السياسة الاقتصادية الجديدة" لا تخلو من الأهمّية. فهي تتوافق أحياناً مع انتقادات المعارضة اليساريّة (في الاتحاد السوفيتي) بين العامين 1925-1927؛ مثلاً، عندما يلاحظ بأنّ "الكوادر قد التحقوا بالنظام، مكوّنين طبقة صاحبة امتيازات". لكنّ الفرضيّة التاريخيّة التي تحمّل "السياسة الاقتصادية الجديدة" مسؤوليّة الميول الرأسمالية في الاتحاد السوفيتي، أيّام حكم ليونيد بريجنيف، هي على ما يبدو قليلة الفعّالية. ولكن، ليس لأنّ غيفارا يجهل الدور السيئ الذي لعبه ستالين... ففي إحدى ملاحظاته، نجد هذه الجملة الدقيقة والمؤثّرة: "الجريمة التاريخيّة الفظيعة التي ارتكبها ستالين" كانت "احتقاره للتربية الشيوعيّة وإرساءه التعبّد غير المحدود للسلطة". وإن لم يكن هذا بعدُ تحليلاً للظاهرة الستالينيّة فهو على الأقل رفضٌ قاطعٌ لها.
وفي "خطاب الجزائر"، طالب تشه غيفارا الدول التي تدّعي انتماءها إلى الاشتراكية، أن تنهي "تواطؤها الضمنيّ مع دول الغرب الاستغلالية"، حيث تترجم هذه الممارسة بعلاقات تبادل غير متساوية مع الشعوب التي تحارب الإمبرياليّة [5]. هكذا تعود هذه المسألة مرّات عدّة في "المدوّنات النقديّة" على الكتيّب السوفيتي. وفي حين يمتدح مؤلّفو هذا الكتاب الرسميّ "المساعدات المتبادلة" بين الدول الاشتراكية، يجد وزير الصناعة الكوبيّ نفسه مُرغَماً على الملاحظة بأنّ ذلك لا يتطابق مع الحقيقة: "لو كانت الأمميّة البروليتاريّة هي التي تتحكّم بأعمال حكومات كلّ دولة اشتراكية (...) فسنكون قد نجحنا. لكن الأمميّة استُبدِلَت بالشوفينيّة (الخاصة بدولة كبرى أو ببلدٍ صغير) أو بالخضوع للاتحاد السوفيتي (...). وهذا يكسِر كافة الأحلام الشريفة للشيوعيّين في العالم".
وبعد بضع صفحات، وفي تعليقٍ ساخر على احتفاء الكتاب بتقسيم العمل بين الدول الاشتراكية المرتكز على "التعاون الأخويّ"، يلاحظ غيفارا: "إنّ مجلس المساعدة الاقتصادية المتبادلة CAME [6]، الذي هو مجرّد مجموعة من العقارب، يكذّب هذا التأكيد عن طريق الممارسة. ويستند النصّ على مثال أعلى لا يمكنه أن يتحقّق إلاّ عبر ممارسة حقيقيّة للأمميّة البروليتاريّة، لكنّ هذه الأخيرة غائبة اليوم غياباً مؤسفاً للغاية". وفي مقطعٍ آخر، ووفق التوجّه نفسه، يلحظ بمرارة أنّنا نعثر، في العلاقات بين الدول التي تدّعي انتماءها للاشتراكية، على "الظواهر التوسّعية، والتبادل غير العادل، والمنافسة، وصولاً إلى حدّ الاستغلال، وطبعاً خضوع الدول الضعيفة للدول القويّة".
وأخيراً، عندما يتحدّث الكتيّب عن "بناء الشيوعيّة" في الاتحاد السوفيتي، يطرح النقد هذا السؤال السجاليّ: "هل يمكننا بناء الشيوعية فعلاً في بلدٍ واحد؟" ملاحظة أخرى تتبع التوجّه نفسه: إذ يرى الـ"تشه" أنّ لينين قد "أكّد بوضوح على الطابع العالميّ للثورة، وهو الأمر الذي جرى إنكاره في ما بعد" - وهذه إشارة شفّافة إلى مفهوم "الاشتراكية في بلد واحد [7]".
وتتطابق أغلب انتقادات غيفارا لـ"الكتيّب" السوفيتي عن كثب مع كتاباته الاقتصادية العائدة إلى العامين 1963-1964: الدفاع عن التخطيط المركزيّ ضدّ قانون القيمة وضدّ المصانع المستقلّة التي تعمل وفق قوانين السوق؛ والدفاع عن التربية الشيوعيّة ضدّ الحوافز الماليّة الفرديّة. كما أنّه يُبدي أيضاً قلقه إزاء الانتفاع المادّي لمديري المصانع، الذي يعتبره مبدأً للفساد.
ويدافع غيفارا عن التخطيط كمحورٍ أساسيّ لآليّة بناء الاشتراكية، لأنّه "يحرّر الكائن البشريّ من وضعيّته كشيءٍ اقتصادي". لكنّه يعترف - في رسالته إلى "فيديل"- بأنّه في كوبا، "لا يشارك العمّال في صنع الخطّة".
من إذاً الذي يجب أن يخطّط؟ النقاش الذي جرى في العامين 1963-1964 لم يجِب عن هذا السؤال. هنا نجد أكثر طروحاته إثارةً للاهتمام، حول هذا الموضوع بالذات، في "المدوّنات النقديّة" للعامين 1965-1966: إذ تطرح بعض المقاطع بوضوح مبدأ الديمقراطية الاشتراكية التي يجري فيها اتّخاذ القرارات الاقتصادية الكبرى من قبل الشعب نفسه. ويكتب الـ"تشه"بأنّه يجب على "الجماهير" المشاركة في وضع الخطّة، في حين أنّ تنفيذها قضيّة تقنيّة محضة. وقد استبدل برأيه، في الاتحاد السوفيتي، اعتبار الخطة "قراراً اقتصادياً من قبل الجموع، المُدرِكة لدورها"، بعلاجٍ بديل تحدّد وفقه الرافعات الاقتصادية كلّ شيء. وهو يصرّ على أنّ الجماهير "يجب أن تتمتّع بالقدرة على تسيير مصيرها، وأن تقرّر القيمة المخصّصة للتراكم وتلك المخصّصة للاستهلاك"؛ من المُفترض أن تتعامل التقنيّة الاقتصادية مع هذه الأرقام - التي يقرّرها الشعب- و"يجب على وعي الجماهير أن يؤمّن تحقيقها".
يتكرّر هذا الموضوع مراراً: فقد جاء في كتاباته أنّ العمّال، والشعب عموماً، "سيقرّرون في المشاكل الكبرى التي تعاني منها البلاد (نسب النموّ، تراكم/استهلاك)"، حتّى لو أنّ الخطة نفسها ستكون من وضع الخبراء. ومع أنّ هذا الفصل الميكانيكيّ جداً بين القرارات الاقتصادية وتنفيذها قابلٌ للنقاش، لكن بفضل تلك الأفكار، يقترب غيفارا كثيراً من فكرة التخطيط الديمقراطي الاشتراكي. ومع أنّه لم يستنبط منها بعد كافة الاستنتاجات السياسيّة - دفع السلطة نحو الديمقراطية، التعدّدية السياسية، حرّية التنظيم- لكن لا يمكننا إنكار أهمّية هذه الرؤية الجديدة للديمقراطية الاقتصادية [8].
يمكن إذاً اعتبار تلك المدوّنات بمنزلة مرحلة مهمّة في طريق غيفارا نحو بديل شيوعيّ/ديمقراطي للنموذج السوفيتي. طريقٌ وُضع لها حدّ فجأةً، في تشرين الأول/أكتوبر 1967، على يد القتلة البوليفيّين التابعين لوكالة الاستخبارات المركزيّة الأميركية، الـ"سي أي إيه".
* مدير أبحاث متقاعد في المركز الوطني للأبحاث العلميّة (CNRS)
[1] أُعيد نشر هذه الرسالة التي بقيت غير منشورة لمدة طويلة من قبل نيستور كوهان، Otro mundo es posible, Nuestra America, Buenos Aires, 2003, pp.156-158.
[2] “ Che, el socialismo y el comunismo ”, in Pensar el Che, Centro de Estudios sobre América - Editorial José Marti, La Havane 1989, tome II, p. 30.
[3] Ernesto Che Guevara, Apuntes criticos a la economia politica, Ocean Press, Editorial de Ciencias Sociales, La Havane, 2006.
[4] Carlos Tablada, El pensamiento economico de Ernesto Che Guevara (trente éditions depuis 1987 ; la dernière chez Ruth Casa Editorial, Panamá, 2005) ; Orlando Borrego, El camino del fuego, Ed. Imagen Contemporánea, La Havane, 2001.
[5] Ernesto Che Guevara, Obras 1957-1967, François Maspero, Paris, 1970, tome II, p. 574.
[6] مجلس المساعدة الاقتصادية المشتركة هو نوع من السوق المشتركة لدول "الاشتراكية الفعليّة" (Comecon بالإنكليزية).
[7] هذه النظريّة السياسيّة، التي تتناقض مع مبادئ "الأمميّة" التي دافع عنها لينين في ما مضى، والتي دعمها جوزيف ستالين في العام 1924، اعتُمدت من قبل المؤتمر الرابع عشر للحزب الشيوعيّ في الاتحاد السوفيتي، في 18 كانون الأول/ديسمبر 1925.
[8] من المهمّ أن نذكّر بأنّه، في نقاشاته مع زملائه في وزارة الصناعة التي نُشِرَت في المجلّد نفسه، نعثر بصورة متكرّرة على الدفاع، من قبل غيفارا، عن مبدأ النقاش الحرّ. وهكذا، خلال نقاشٍ في كانون الأول/ديسمبر 1964، أصرّ على أنّه: "ليس من الممكن تدمير رأيٍ بالقوّة، فذلك يعيق التطوّر الحرّ للذكاء بأكمله".
(تم إجراء آخر تعديل على هذه المشاركة: 10-17-2007, 06:38 PM بواسطة ابن سوريا.)
|