هناك مصطلحات زحفطونية عجيبة تحاول تجميل وجه النظام الهرم بما أوتيت من أساليب التعبير الإنشائي العقيم!
فوجئت أبان رحيل حافظ بأبواق النظام وهي تصف الجمود في مسيرة الوطن بالاستقرار!
أصبح غطيط رئيس على قلب شعبه لمدة ثلاثة عقود ونيفا محمدة تسجل له في تزوير هؤلاء المطبلين، وصار من واجبنا أن نسبح بحمد القائد (الخالد!) لما أنعم به علينا من نعمة الاستقرار..
جمود الوطن وسرقة ثرواته، واستنزاف موارده بعصابات الفاسدين المفسدين على مدار أربعين سنة من حكم البعث حتى هلاك راعي كل ذلك الفساد، أصبح نقطة مضيئة يتفاخر بها الزحافطة!
وميزانية النفط التي لم يبق له غير بضع سنين حتى ينضب من قطرنا لم تكن حتى عام 1998 تدخل في الموازنة العامة للدولة دون حسيب، كل ذلك يهون في سبيل (نعمة الاستقرار)
بنية الوطن التحتية التي لم تتطور على مدار الأربعة عقود بل كانت أقرب للجمود، وواقع التنمية الذي يسير سير سلحفاة أنهكها المرض فزادها بطأ على بطء، كل هذا لا يعني في عرف الزحافطة غير (نعمة الاستقرار)
الأرض السورية المحتلة (ولا أقول اللبنانية ولا الفلسطينية لأننا سئمنا متاجرة النظام بكل ما لا يعنيه ويؤثر عليه) هذه الأرض التي تجاوزت أربعين سنة في التيه على حالها دون أي حراك عسكري أو سياسي مسؤول لتحريرها كل هذا لا يعدو في عرف الزحافطة أكثر من نعمة استقرار!
مبادئ البعث الذي انفجر فينا انقلابه ليبشرنا بالوحدة والحرية والاشتراكية لا تزال مكانك راوح، ولا يزال خطباء البعث والنظام يجترونها في كل محفل ومهرجان، وكل هذا من أدبيات (نعمة الاستقرار)
واليوم...
اليوم يخرج علينا الزميل أميرشو بمصطلح جديد هو التعايش!
ولو أنه وغيره كانا يؤكدان على واقع التعايش الاجتماعي الذي كان عنوان بلدنا على مدى عقود بل قرون، خلا استثناءات محدودة، لما كان لنا إلا أن نحيي فيه روحه الوطنية التي عزت في زمن جلد الذات والكفران بالهوية!
لكنني لحظت أنه يتجاوز ذلك الواقع الاجتماعي ليجعل التعايش نعمة من نعم نظام بشار وأبيه أيضا!!
وتماما كما هي سورية بلد الاستقرار الأوحد، فهي أيضا بلد التعايش الوحيد في المنطقة!
ليس في (سورية اليوم) أي تمييز طائفي يجعل بعض العلويين يهيمنون على البلد بقطاعاتها المدنية والعسكرية والأمنية
أبدا..
وليس في سورية أي أحقاد دفينة تحت الرماد تؤججها سياسات النظام الحمقاء..
بالعكس..

سورية اليوم وطنا لكل السوريين بلا تمييز على أساس حزبي ولا طائفي ولا عرقي...

وماذا لو أن دستورها نص على أن: (حزب البعث العربي الاشتراكي) هو -وهو فقط، بلا انتخاب ولا تفويض- الحزب القائد في المجتمع والدولة ويقود (دمية يسميها) جبهة وطنية تقدمية

وماذا لو أن دستورها الذي وضعه الراحل بعد انقلابه، وطرحه على استفتاء التسع تسعات المعهود لينص على أن يكون رئيس الجمهورية عربيا مسلما دون غيرها من الأقليات، ونعم التعايش..

وماذا لو بدا أنه ليس من حق الأكراد وغيرهم من الأقليات أن يعلنوا عن هويتهم القومية حتى يضطروا للتصريح المزور أنهم جزء من الشعب العربي السوري وما كان كثير منهم عربا بالمفهوم العلماني المحدث للعروبة، بل كان القدماء منهم قريبون من العرب يوم أن كانت ثقافة الإسلام الحضارية تجمع الشعبين في رحاب وطن واحد، وآنذاك كانا متعايشين معا، واختار شطرهم التعرب طواعية، فلما أكرهوا على القومية العربية اليوم كفر بعضهم بها وبحاملها الحضاري (الإسلام)!

وماذا لو أنك فتشت مفاصل النظام الأساسية، فهل ستجد أن التمييز الطائفي دعاية مغرضة ضد سورية يطرحها أعداء سورية، أم أنك سترى بأن الممارسات الطائفية أصدق أنباء من الكتب والخطب وسائر التدبيجات والماكياج الذي يزور حقيقة وجه النظام القميئ..

لا نريد أن نبدو كمن يدير ظهره للواقع، ويتحدث عن الغد المأمول..

لا بد لنا أن نتوقف عند واقع الطائفية في قطرنا العربي السوري، ومرتسماته على جبهة الوحدة الوطنية.

إنه إذا كانت جميع الأقليات في العالم تشكو من تغول الأكثرية عليها، وهضمها حقوقها، والحد من حريتها، أو الطغيان على خصوصيتها؛ فإن الوضع في قطرنا العربي السوري معكوس!!

تتغول في وطننا أقلية مذهبية على أكثرية مطلقة، وتمارس عليها شتى سياسات الاستلاب والإذلال، وتجعل من أبنائها مواطنين من الدرجة الثانية، ولعل هذا من عجائب التاريخ!

إن الادعاء بإلغاء الفروق المذهبية، وتغيير مفاهيم الأكثرية والأقلية، لا تسانده السياسات العملية، والمناهج الحاكمة من جهة، كما لا تسانده الروح العام التي تحكم العالم من أقصاه إلى أقصاه، حيث يتحكم دستور عرفي هو فوق أي دستور مكتوب، في إضفاء صبغة عامة على سلطة أي بلد مهما كان مغرقاً في العلمانية.

أن الإشارة إلى الواقع الطائفي، ونقد الممارسات الطائفية والحديث عنها لا يعني الوقوع في فخها أو ممارستها، وهذا موقف آخر مغلوط، ومجاف للحقيقة، طالما عوملنا على أساسه. إذ كيف تتضح الممارسات الخاطئة، إذا كان كل من يشير إليها واقع فيها. وحسب المنطق الأعوج فإن قضاة العالم أجمع هم أعتى المجرمين، لأنهم يحاكمون الجريمة ويتتبعون أصحابها.

حقيقة الممارسة الطائفية في قطرنا واقعة مستعلنة، لا تقبل المجاحدة..

ويكفي للشهادة عليها تتبع الإحصاءات العامة في مفاصل البنية الوطنية: العسكرية والسياسية والإدارية والديبلوماسية والعلمية. وستكون نتائج الإحصاءات الفاقعة ناطقة بكل الحقائق التي تسيء وتريب.

ومع أننا ندرك في السياق ذاته أن ما يصيب أبناء الوطن أجمع من غبن وظلم، يصيب تسعة أعشار أبناء الطائفة، حيث يتميز المستأثرون بعدد محدود من الأفراد.

ولقد خلفت سياسات التمييز الطائفي في نفوس أبناء قطرنا شعوراً بالمرارة والأذى، وبالذل والمهانة. بل تعدت السياسات طورها، حين غدت تهمة إثارة النعرات الطائفية تهمة يوصم بها كل من ينادي بالإصلاح العام.

إن ما حصل في قطرنا العربي السوري في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات كان مروعاً، ولكنه لم ينزل على القطر من السماء، كما لم تنشق عنه الأرض كما تنشق عن البراكين !!
وربما نستطيع أن نؤكد أنه لم يكن بقرار مباشر من أحد، وإنما نتج عن تفاعل اجتماعي عام، أمدته مغذيات التميز الطائفي المقيت بماء وجوده حتى أدت به إلى الانفجار.

إن الاطمئنان إلى نجاح القوة وإحكام السيطرة في كبت مشاعر الناس وأحاسيسهم وتطلعاتهم يعني أن الممسكين بحبال السلطة لم يحاولوا أن يستفيدوا من الدرس. ولم يدركوا بعد أن هذه التفاعلات الاجتماعية كالبراكين التي تبدو خامدة، ولا يعلم أحد متى تثور، وإن ثورتها أحياناً لا تنتظر أكثر من قشة قد تقصم ظهر البعير، وأنها في كل مرة قد تتلبس بلبوس ديني أو قومي أو وطني أو اقتصادي، فتأتي صاحبها من حيث لا يحتسب.

لا ينبغي أن تفهم هذه الحقائق على أنها وجه من وجوه التهديد، بل هي إشارة إلى موضع الداء ليباشره مبضع الجراح بحكمته، قبل أن ينفجر على صاحبه فيقتله.

إن ما جرى كان مؤلماً للجميع، وما يمكن أن يجري ربما يكون أشد إيلاماً، والخاسر دائماً هو الوطن: حاضره ومستقبله وقوى الخير فيه.

إن السير في طريق الإصلاح، وإعادة التوازن الرفيق للمعادلة الوطنية سيبقى مطلباً أساسياً في ظل حياة عامة أكثر انفتاحاً وتحضراً وإيجابية.

وإلى أن ينضج الوعي بذلك لدى السلطة ومن يصفق لها علينا أن نضع هدف التعايش الموضوعي العادل نصب أعيننا، كي نجنب قطرنا ما ألم بالعراق والصومال يوم أن هوى صنم الدكتاتورية العسكري الذي كان رابضا عليهما كما ربض الأسد وأشقاؤه وابنه وأصهاره!

وإلا فإن سورية في طريقها لحرب طائفية بشعة لن تكون في مصلحة أكثرية ولا أقلية بل سيخسر الجميع، ولن يسر إلا أعداء سورية الصهاينة الذين يرفعون صوتهم عاليا بعدم رغبتهم بالتغيير في سورية، لأنهم ما أرادوا لسورية ولا للعرب خيرا قط!
واسلموا جميعا لود واحترام:redrose: