{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 0 صوت - 0 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
النزعات المادية في الفلسفة الاسلامية، لحسين مروة
طريف سردست غير متصل
Anunnaki
*****

المشاركات: 2,553
الانضمام: Apr 2005
مشاركة: #4
النزعات المادية في الفلسفة الاسلامية، لحسين مروة

( 3 ) حلف الفضول



بعد وفاة عبد المطلب افتقرت قريش إلى الزعامة لم يظهر من بعده من يمسك بمقاليد الأمور في العاصمة المقدسة مكة ، ولعل عدة عوامل تضافرت على ذلك أهمها : عدم وجود شخصية كارزمية ( آسرة ) تستطيع أن تهيمن على بطون وأفخاذ قريش وتدين لها كلها بالولاء كما كان هو الشأن مع عبد المطلب ، ومنها أن قريشاً كانت في طريق التحول من القبيلة إلى الدولة ، ولو أننا ندرك أن وصف الدولة ما زال في بواكيره ولم يصل بعد إلى غايته ، ولكنه بدأ بالفعل وإلا أسقطنا الجهود الجبارة التي بذلها قصي وهاشم وعبد المطلب

وحكمنا عليها بالاجدوى أو العبث ، ولعله من السابق لأوانه أن نذكر هنا العوامل الاقتصادية التي ساعدت على هذا التحول ، إذ سوف يأتي ذلك في الحديث عن المقدمات الاقتصادية . أن التحول من القبيلة إلى الدولة له موجبات خاصة ومستلزمات معينة عن التقاليد القبلية ، ومن أبرزها وجود حكومة قد تكون جماعية في البداية يتولى اختصاصها نفر من المتنفذين وأصحاب الصدراة وهو الدور الذي قام به " حلف الفضول " إذ كان هو المعبـَّر ( منطقة العبور ) لحكومة المدينة التي تشكلت في مكة فيما بعد من " الملأ " أو أصحاب الجاه والثروة والمكانة من قريش ، والتي كانت هي بدورها المقدمة الضرورية لقيام الدولة التي شاءت ظروف تاريخية أن تتخذ " يثرب " عاصمة لها على يد النبي محمد بن عبد الله حفيد عبد المطلب بدلاً من أن تكون مكة هي حاضرة دولة قريش .




فما هو إذن " حلف الفضول " ؟



( الحلف في الأصل هو اليمين والعهد ، وسمي العهد حلفاً لأنهم يحلفون عنده ) .



عرفت قريش قبل حلف الفضول أكثر من حلف :

( بعد وفاة قصي تنازعت قريش في الذي كان جعله لابنه عبد الدار من السقاية والرفادة واللواء والندوة والحجابة . نازعهم بنو عبد مناف وقامت كل طائفة من قبائل قريش وتحالفوا لنصرة حزبهم ، فأحضر أصحاب بني عبد مناف جفنة فيها طيب فوضعوا أيديهم فيه وتحالفوا فلما قاموا مسحوا أيديهم بأركان " الكعبة " فسموا " المطيبين " .)



( وتعاقد بنو عبد الدار وتعاهدوا هم وحلفاؤهم عند الكعبة حلفاً مؤكداً على ألا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضاً فسموا " الأحلاف " ) .



( وكان هؤلاء وأولئك يوشكون أن يقتتلوا في حرب تذيب قريشاً لولا أن تداعى الناس إلى الصلح على أن يعطوا بني عبد مناف : السقاية والرفادة وأن تبقى الحجابة واللواء والندوة لبني عبد الدار ورضى الفريقان بذلك وظل الأمر على ذلك إلى أن جاء الإسلام ) .



يعلل بعض خصوم قريش عدم نشوب قتال بين الفريقين بأن قريشاً ليست أهل حرب وأن أبنائها تنقصم الشجاعة اللازمة لخوض غمار المعارك وشدائدها ، وهذا رأي غير صحيح وفي رأينا أن الأسباب التي دفعت الفرقتين للتصالح ونبذ العراك هي :



أ ـ شعور القرشيين بقوة صلة الرحم فيما بينهم .

ب ـ وأنهم تجار ومصالحهم التجارية سواء في الأسواق الداخلية والخارجية سوف تضار بنشوب الحرب.

ج ـ فضلاً عن أنهم " أهل الحرم " الذين تنظر إليهم قبائل العرب نظرة احترام بل وتقديس واحترابهم سوف يقلل من هيبتهم في عيون الآخرين ويضع من مكانتهم التي يتمتعون بها في الجزيرة العربية .



وهناك حلف آخر سمي بـ " حلف لعقة الدم " ومناسبته اختلاف بطون قريش وأفخاذها حول من يكون له شرف وضع " الحجر الأسود " في مكانه من الكعبة عند تجديد بنائها ( ثم أن القبائل جمعت الحجارة لبنائها جعلت كل قبيلة تجمع على حدتها ثم بنوا ، حتى إذا بلغ البنيان موضع الركن اختصموا كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى حتى تحاوزوا ( أي انحازت كل قبيلة إلى جهة ) وتخالفوا وتواعدوا للقتال فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب على الموت وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في الجفنة قسموا بـ " لعقة الدم " ، فمكثت قريش أربع ليال أو خمساً على ذلك ، ثم أنهم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا وتناصفوا ، فزعم بعض الرواة أن أبا أمية بن المغيرة كان - عامئذ - أسن قريش كلها . فقال : يا معشر قريش اجعلوا تختلفون فيه أول من يدخل من باب المسجد يقضي بينكم فيه ، فكان أول من دخل عليهم رسول الله ( ص ) .

وها نحن نرى مرة أخرى أن قريشاً تعدل عن القتال وتلجأ إلى أسلوب التحكيم لمنع اندلاع الحرب بينهم . والذي لا مشاحة فيه أن وجود قريش في مدينة ( يسميها القرآن قرية ) هي مكة دفعها إلى مستوى حضاري أرقى بكثير من قبائل البوادي مما غرس اللجوء إلى إعمال العقل والمنطق وضبط النفس وعدم الاندفاع وراء عريزة حب القتال والعنف وخاصة بين بعضهم البعض وفي البلد الحرام الذي تقدسه كل العرب .



أما عن " حلف الفضول " .

فهناك فيما يعرف بـ " أيام العرب " أربعة حروب كلها يطلق عليها الإخباريون " حرب الفجار " إذ استحلت فيها الأشهر الحرم أي " وقع القتال فيها على خلاف العرف الذي كان مستقراً بين القبائل العربية وقد استمرت عشر سنين :



الأولى : بين كنانة وهوازن والثانية : بين قريش وكنانة والثالثة بين كنانة وبني نضر بن معاوية والرابعة والأخيرة : بين كل من قريش وكنانة كلها وبين هوازن ، وحدثت في العام الخامس والعشرين السابق على البعثة المحمدية وقد شهدها محمد عليه السلام مع قومه وعمره خمسة عشر عاماً ( ولقد استمرت حرب القجور هذه بين قريش وهوازن أربع سنين ذلك أنها كانت تتجدد كلما اجتمع العرب في " عكاظ " وانتهت بصلح دفعت فيه قريش دية عشرين رجلاً من هوازن … وكانت هوازن قد ساقت قريشا في أول سنة منها إلى أن لاذت بالحرم ).



إزاء ذلك ( شعرت قريش بعد الفجار أن ما أصابها وما أصاب مكة جميعاً بعد موت هاشم وموت عبد المطلب من تمزق الكلمة وحرص كل فريق على أن يكون صاحب الأمر قد أطمع فيها كل العرب بعد أن كانت أمنع من أن يطمع فيها طامع ) أي أن قريشاً أو حكماءها قد أحسوا بفراغ سياسي بعد هاشم وعبد المطلب واستدلوا على ذلك بما حدث في حرب الفجور وأن الحال لو استمر على ذلك فسوف يغري العرب بهم أي أن ما قام به كل من هاشم وعبد المطلب نحو تعلية بناء الدولة التي وضع أحجار أساسها قصي "مجمع قريش " سوف تذروه الرياح وأن بطون قريش وأفخاذها أخذت كلمتها تتفرق وطفق كل واحد منها يتشوف لتكون له كلمته المستقلة بعد أن كانت كلمة عبد المطلب تجمعهم وتوحد صفوفهم ـ لذا فكر الزبير بن المطلب وأعمل التفكير فخرج من ذلك أن مآل ذلك كله هو انحدار قريش وتقويض البنيان الذي شارك في تشييده عن قريب أبوه عبد المطلب ومن قبله آباؤه وأجداده ، ومن ثم فمنصرف قريش من حرب الفجار ( دعا الزبير بن عبد المطلب فاجتمعت بنو هاشم وزهرة وتيم في دار عبد الله بن جدعان فصنع لهم طعاماً فتعاقدوا وتعاهدوا لنكونن مع المظلوم حتى يؤدى إليه حقه مابل بحر صوفة ، وفي التآسي في المعاش فسمت قريش ذلك الحلف " حلف الفضول " .

( والزبير بن عبد المطلب هو أكبر أعمام النبي ( ص ) وهو عم شقيق له والزبير أبو طالب واسمه عبد مناف وعبد الله أخوة أشقاء أمهم فاطمة بنت عمر المخزومية ، وضباعة بنت الزبير كانت تحت المقداد أما عبد الله ابنه فكان معدوداً في الصحابة وكان الزبير يكنى بابنه الطاهر وكان ممن أظراف فتيان قريش وبه سمي رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنه الطاهر وكان من أظرف فتيان قريش وبه سمي رسول الله ( ص ) ابنه الطاهر وكان الزبير يرقص محمداً وهو صغير ويقول له : محمد ابن عبدم .. عشت بعيش أنعم .. في دولة ومغنم .. دام سجيس الأزلم .



وأخبر الزبير أن ظالماً كان بمكة قد مات فقال بأي عقوبة كان موته فقيل له : حتف أنفه فقال : وإن فلابد من يوم ينصف الله فيه المظلومين ، ففي هذا دليل على إقراره بالبعث ـ وابن عبدم زاد الميم كما تزاد في ابن فيقال ابنم وسجيس الأزلم أي أبد الدهر ) .

رغم ركاكة الشعر الذي نسبه السهيلي إلى الزبير بن عبد المطلب فأنه يفصح عن أمنيته في أن يواصل الحفيد مسيرة الدولة التي بدأها أجداده وذلك في إنشاده له وهو يرقصه " عشت بعيش أنعم في دولة ومغنم " ، كذلك يتضح من تعليقه على وفاة أحد الظلمة في مكة حتف أنفه أنه يؤمن بالبعث وذلك من تأثير أبيه عبد المطلب الذي كان أستاذ الحنيفية في زمانه ، أما تسمية النبي ( ص ) ابنه بـ الطاهر إذ كان يكنى الزبير بأبي الطاهر دليل على إعجابه بعمه وتقديراً له لعقده " حلف الفضول " والداعي لحلف الفضول " الزبير " فيه مسحة واضحة من " الحنيفية " ولديه شعور طاغ بأهمية الدولة التي بدأها آباؤه وبضرورة سيرورتها متمنياً من صميم قلبه وفي قرارة نفسه أن يستمر الأبناء في استكمال صرحها .



أما عبد الله بن جدعان الذي عقد حلف الفضول في داره فكان أغنى أغنياء مكة ، وكان يسمى " حاسي الذهب " لأنه كان يشرب في كؤوس من الذهب الخالص .



( وكان بنو تيم في حياته كأهل بيت واحد يقوتهم وكان يذبح في داره كل يوم جزوراً وينادي مناد : " من أراد الشحم واللحم فعليه بدار ابن جدعان وكان يطبخ عنده الفالوذج فيطعم قريشاً ) .

وبنو تيم هم رهط عبد الله بن جدعان وهم في الوقت نفسه رهط أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ ويبالغ بعض الرواة فيذكر أن جفان طعام ابن جدعان كانت تبلغ قامة الرجل بل أن بعضها كان يتسلق إليه بسلم ، وأياً كان الأمر فإن مثل هذا الرجل الفاحش الثراء كان يهمه استتباب الأمور في مكة حفاظاً على مصالحه المالية والتجارية خاصة وأن الإخباريين يذكرون السبب المباشر لحلف الفضول هو ( أن رجلاً من زبيد قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه العاص بن وائل فحبس عنه حقه فاستعدى عليه الزبيدي الأحلاف : عبد الدار مخزوماً ، جمحاً ، سهماً عدي بن كعب فأبوا أن يعينوه على العاصي بن وائل وزبروه أن انتهروه ، فلما رأى الزبيدي الشر ، أو في علي أبي قيس " جبل بمكة " عند طلوع الشمس وقريش في أنديتهم حول الكعبة فنادى بأعلى صوته :



ومحرم أشعث لم يقض عمرته يا للرجال وبين الحجر والحجر

إن الحرام لمن تمت كرامته ولا حرام لثوب الفاجر الغدر



فقام الزبير بن عبد المطلب وقال : ما لهذا مترك … الخ ) .



فهذه الواقعة تدل على أن الأمور قد اضطربت في مكة والتجارة وهي عصب الحياة فيها ، بدأت تتعرض للمتاعب وهذا يسئ إلى أهلها ويلحق أبلغ الأضرار ويؤثر على سمعتها التجارية بالإضافة إلى قداستها الدينية وهذا مرده إلى افتقاد مكة لسلطة سياسية تردع المعتدي عنه غيه.



*****



ويسرد الإخباريون من الوقائع ما يقطع بأن " حلف الفضول " قد أثمر وحقق النتائج التي تغياها من ورائه عاقدوه وأنه كان نقلة إلى ( حكومة الملأ ) وأنها جميعها خطوات نحو الدولة التي قامت في يثرب ومن بين تلك الوقائع التي ذكروها :

( أن رجلاً من خثعم قدم مكة حاجاً أو معتمراً ومعه ابنة يقال لها " القتول " من أوضأ نساء العالمين فاغتصبها منه " نبيه بن الحجاج " وغيبها عنه ، فقال الخثعمي من يعديني على هذا الرجل ؟ فقيل عليك بـ " حلف الفضول ": فوقف عند الكعبة ونادى " يا لحلف الفضول " فإذا هم يعنقون إليه من كل جانب وقد انتضوا سيوفهم يقولون : جاءك الغوث فما لك ؟ فقال : إن نبيها ظلمني في بنتي وانتزعها مني قسراً فساروا معه حتى وقفوا على باب داره فخرج إليهم فقالوا له : أخرج الجارية ويحك قد علمت من نحن وما تعاقدنا عليه فقال : أفعل ولكن متعوني بها الليلة فقالوا والله ولا شخبة بقحة ( أي برهة وجيزة ) فأخرجها إليهم.



في هذه الواقعة كان " حلف الفضول " هو الفيصل وصاحب الكلمة القاطعة بعد أن عمل عاقدوه على إعمال نصوصه وانتصروا لرجل خثعمي من العامة ، إذ لم تعن الرواية بذكر اسمه وردوا إليه ابنته الحسناء رغم أن مغتصبها كان من وجوه قريش ، وتلك النازلة لها صلة بالأمور المالية أو التجارية ولكنها تمس المشاعر الدينية فقد ذكر أن الخثعمي قدم مكة حاجاً أو معتمراً وهذه المناسك كانت بل ولازالت حتى الآن في مقدمة المصادر الدخل والتمويل لأهل مكة ، فإذا أشيع بين العمار والحجاج تعرضهم للأذى والاغتصاب من القرشيين أدى ذلك إلى إحجام قبائل العرب عن الوفود لمكة للحج أو الاعتمار ونود أن نلفت الانتباه هنا إلى أن الحج كان شعيرة مقدسة تؤديها القبائل كافة وكانت كعبة مكة مقدسة أيضاً بالنسبة للقبائل على الرغم من وجود بضع وعشرين كعبة في شبه الجزيرة العربية حين ذاك ، وإذا اختل موسم الحج انعكس الأثر مباشرة على التجارة داخل البلد العتيق بالإضافة إلى أنه يودي بسمعة قريش بين العرب ، ويسقط هيبتها ويهدر كرامتها لظهورها بمظهر العاجز عن حماية الجار واللائذ بالحمى والمستجير بالحرم .

ذلك هو الدور البالغ الأهمية الذي أداه " حلف الفضول " الذي كان أول من نادى به الزبير الابن الأكبر لسيد مكة " عبد المطلب " والذي رعاه وتحمس له عبد الله بن جدعان أكثر القرشيين غنى وثروة .



ولقد أدرك محمد ( ص ) الأهمية السياسية البالغة ، والأثر الاقتصادي الناجع لـ " حلف الفضول " لذلك قال ( شهدت في دار ابن جدعان حلفاً لو دعيت به في الإسلام لأجبت ) وفي رواية أخرى : ( ما أحب أن لي بحلف حضرته في دار ابن جدعان حمر النعم ولو دعيت به لأجبت ) .



بل أن هذا الحلف بقيت أثاره بعد الإسلام حتى مادى به الحسين بن علي حين وقعت بينه وبين الوليد بن عتبه بن أبي سفيان والي المدينة منازعة في مال كان بينهما وقد تداعت أطراف الحلف لنصرة الحسين مما أضطر الوليد إلى إنصافه .

إذن كان " حلف الفضول " بمثابة التجربة أو " البروفة " لحكومة مكة أو ( حكومة الملأ ) التي تشكلت فيما بعد ، والتي كانت هي بدورها المقدمة لدولة قريش التي قامت . كما ذكرنا لأسباب تاريخية في يثرب بدلاً من مكة على يد محمد ( ص ) .



*****



ذكر أ . محمد رضا في كتابه " محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم " أن أطراف حلف الفضول ( تعاقدوا وتعاهدوا ليكونن مع المظلوم حتى يؤدي إليه حقه مابل بحر صوفة وفي التآسي في المعاش ، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول . )



لم أجد عبارة " وفي التآسي في المعاش " لا في " سيرة ابن هشام " ولا في " الروض الأنف " وهما من أمهات كتب السيرة النبوية ولا أدري من أين أتى بها أ . محمد رضا وما هو مرجعه في ذلك ؟ وإذ أنه في نظري باحث رصين وكتابه المذكور كتاب جيد رغم صغر حجمه فقد رجحت أن لهذه العبارة أصلاً في واحد من كتب التراث في السيرة النبوية ، وأنها بالقطع ليست إضافة من محمد رضا ولقد صدق ظني ، فبعد البحث والتنقيب وجدت أن الإمام محمد بن يوسف الصالحي الشامي أوردها في كتابه " سبل الهدى والرشاد في سيرة العباد " المعروف بـ " السيرة الشامية " وهو في الحق موسوعة ضخمة في السيرة النبوية إذ يقول ( فاجتمعت هاشم وزهرة وتيم في دار عبد الله بن جدعان فصنع لهم طعاماً في ذي القعدة من شهر حرام قياماً فتعاقدوا ليكونن يداً واحدة للمظلوم على الظالم ، حتى يؤدي إليه حقه مابل بحر صوفة وما رسا حراء وثيبر " جبلان بمكة " وعلى التآسي في المعاش فسمت قريش ذلك الحلف " حلف الفضول " وقالوا : لقد دخل هؤلاء في فضول من الأمر ثم مشوا إلى العاصي بن وائل فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه ) .



ولا شك أن أطراف الحلف المذكور ضمنوه " التآسي في المعاش " لأن أحوال المجتمع المكي آنذاك كانت تنذر بحدوث هزة خطيرة ، إذا لم يتم تلافيها فسوف تقتلعه من أساسه ، وأنه من المستحيل دوام الحال على ما كان عليه ذلك أنه ( مع تعاظم المال والاستثمار الربوي كان الأغنياء يزدادون ثراء والفقراء المعدمون من أحرار القبيلة يزدادون ضنكاً وفقراً وإملاقاً ، تتوضح معالم التفاوت الاقتصادي والتمايز الاجتماعي إلى درجة انقسم فيه المجتمع المكي إلى طبقتين غير متناسبتي العدد والعدة : طبقة التجار والمرابين وسدنة الكعبة وأصحاب السلطة والأرستقراطية المكية أو الملأ أو الأعزاء كما في القرآن الكريم وهم يشكلون أقلية المجتمع المكي وطبقة الصعاليك والفقراء أو الأراذل كما في القرآن الكريم وهم يؤلفون أغلبية المجتمع المكي ) .



إذن يكون " التآسي في المعاش " الذي ورد في السيرة الشامية على لسان أطراف حلف الفضول ، هو مساهمة منهم في محاولة التخفيف من حدة التمايز الطبقي ، وتضييق شقة الفروق بين الملأ والأراذل (حسب تعبير القرآن الكريم ) خاصة أن الأخيرين لم يكونوا الأرقاء والموالي ...إلخ فحسب بل منهم أحرار القبيلة الفقراء المعدمون ولسد الطريق عليهم حتى لا يقوموا بثورة تعصف بالنظام كله وتقوض أركانه ، ومن ثم فلم يكن من قبيل المصادفة أن يجئ هؤلاء في مقدمة من اتبع محمداً عليه السلام إذ بهرتهم وخلبت ألبابهم مبادئ العدالة الاجتماعية التي كان يدعو إليها وأن الناس سواسية كأسنان المشط ...الخ .



وربما لفت نظر القارئ ما ورد في نص السيرة الشامية " وقالوا لقد دخل هؤلاء في فضول الأمر " والفضول جمع الفضل ، والفضل إما أنه " ضد النقص والنقيصة " أو أنه " ما زاد على الحاجة " فإذا أخذنا بالتفسير الأول كان معنى ذلك القول أن أصحاب حلف الفضول تخلوا عن النقيصة التي تباعدهم عن رد المظالم ومواساة الفقير المعدوم ، وإذا أخذنا بالتفسير الآخر كان مفاده أن أصحاب الحلف زجوا بأنفسهم فيما لا حاجة لهم به وهو الانتصار للمظلوم والعون للمحتاج . ولعله بعد ذلك يكون من نافلة الحديث أن نذكر أن أهداف الحلف بهذه المثابة أهداف سياسية بكل المعايير وبجميع المقاييس اضطلع بها أولئك النفر من قريش بعد أن رأوا وأحسوا بالفراغ السياسي الذي خيم على مكة بعد وفاة عبد المطلب وأن عليهم أن يتحركوا ويعملوا شيئاً وكان هذا العمل مقدمة لما هو أكبر منه .



قبل أن نشرع في الحديث عن " حكومة الملأ " ملأ - قريش نناقش تفسير باحث جاد هو أحمد عباس لـ " حلف الفضول " في كتابه " اليمين واليسار في الإسلام " ذلك أنه لا يقر وجهة النظر التي ترى أن الدافع لعقد ذلك الحلف هو عدوان بعض القرشيين على زوار مكة الذين يفدون إليها للحج والاعتمار أو المتاجرة وأن العلة وراء ذلك هو افتقار مكة إلى زعيم يمسك زمام الأمور بعد وفاة عبد المطلب .



يقول الباحث ( وليس سبباً وجيهاً لأن الحلف لم يضم قبائل قريش بل جانباً منها ، فلو أن الأمر بقصد حماية التجارة وتأمينها لتداعت كل القبائل للدخول فيه ) ص38 وفي رأيه أن الدافع لعقد حلف الفضول هو أن ( الفريق الأقل ثروة بدأ يتكتل ليقاوم سلطان الثروة الجديدة ولهذا نشأ حلف الفضول ) ص37 . ومع تقديرنا لاجتهاد أ . صالح الذي بدا واضحاً في كتابه فإننا نرى أن ما ذهب إليه بخصوص "حلف الفضول " لا يثبت للتنفيذ الموثق بالحقائق التاريخية فليس صحيحاً أن ثروة جديدة بدأت تطرأ على تجار مكة أيام حلف الفضول بل أن أرستقراطية قريش طفقت تعرف طريقها إلى اليسر والغنى منذ أن بدأ هاشم أن يعقد " الإيلاف " مع رؤساء القبائل والمعاهدات مع ملوك الروم والفرس والحبشة ليؤمن الطرق أمام قوافل مكة في ذهابها وإيابها ، خاصة في رحلتي الشتاء والصيف وللأسباب السياسية التي أحاطت بدولتي الفرس والروم وهو ما سنفصله في البحوث القادمة .



هذه واحدة .

أما الأخرى فإن أطراف حلف الفضول لم يكونوا كما رأى أ . صالح ( الفريق الأقل ثروة ) ص37 فقد ضم ذلك الحلف :

أ ـ بني هاشم : ومنهم العباس بن عبد المطلب الذي يعترف الباحث نفسه أنه كان من كبار أغنياء مكة ، بل امتدت ثروته إلى يثرب فتملك بستاناً فيها ص24 ومنهم " أبو لهب " الذي قال في حقه القرآن الكريم ( ما أغنى عنه ماله وما كسب ) وهو توصيف بالغ الدلالة على غناه .



ب ـ بني تيم : وعلى رأسهم عبد الله بن جدعان الذي عقد الحلف في داره ، والذي كشفنا فيما سبق عن مدى ثروته ، والذي لا يخلو كتاب من كتب السيرة بل ومن كتب الأدب التراثية مثل الأغاني وعيون الأخبار لابن قتيبة ، من قصص تقطع بغناه ، ومنهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه الذي وصفه أ . صالح بأنه ( من كبار التجار في مكة ) ص37 .



ج ـ بني أسد : ومنهم يزيد بن زمعة الأسود وفي حقه يقول الباحث ( ويزيد من كبار الأغنياء في مكة ) ص35 .



د ـ بني زهرة : وهم من الذؤابة العليا من قبيلة قريش وإليهم أصهر عبد المطلب فتزوج هو هالة بنت أهيب بن عبد مناف بن زهرة وزوج ابنه الأصغر عبد الله ، آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة ، فهي أم النبي ( ص ) ولا يعتقد عاقل أن سيد مكة في زمانه يقصد إلى فرع خامل من قريش ويصهر إليه . وقد يقال إن عبد المطلب فعل ذلك لسماعه إلى " مسطورة " كانت شائعة تحكي أن بني زهرة سوف تظهر أو تنبثق منهم " النبوة " وأن حبراً يهودياً وكاهنة منهم تنبأ بذلك ، ومن ثم فلا صلة بإصهار عبد المطلب إليه بغناهم أو ثروتهم ، بل طمعاً في احتياز النبوة منهم ، والتي قالت " المسطورة " أنها سوف تجئ من إناثهم لا من ذكورهم .



وقد يكون هذا من الردود السائغة المقبولة لولا أننا قرأنا في كتب السيرة كلها أن بني زهرة كانوا من أصحاب الثروة ، وأنه كانت لديهم أموال جسيمة في القافلة التي كان يقودها أبو سفيان ، والتي خرج محمد وصحبه إليها ولكنها أفلتت منهم لأن أبا سفيان غير خط سيرها لما علم بخروج المسلمين في طلبها ، ولما علم بنو زهرة بنجاة القافلة وسلامة أموالهم عدلوا عن المضي مع باقي القرشيين في حرب محمد (ص ) وصحابته رضوان الله تعالى عليهم ومن ثم لم يشتركوا ضدهم في غزوة بدر الكبرى يقول ابن سيد الناس ( وقال الأخنس بن شريق وكان حليفا لبني زهرة : يا بني زهرة قد أنجى الله أموالكم وخلص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل وأنما نفرتم لتمنعوه وماله فاجعلوا بي جبنها وارجعوا فأنه لا حاجة بكم بأن تخرجوا في غير ضيعة لا ما يقول هذا يعني أبا جهل فرجعوا فلم يشهدها زهري ولا عدوي أيضاً ) .



فلو لم يكن لبني زهرة ثروة يخشون عليها لما خرجوا لحمايتها والذود عنها ، ولكن لكياستهم وحكمتهم عندما أيقنوا بسلامتها عادوا أدراجهم من حيث أتوا أخذا بنصيحة حلفهم الأخنس بن شريق ، فهل يقال بعد ذلك كأنهم كانوا فقراء ؟ ولعلنا بذلك نكون قد سقنا الأدلة التي تقطع بأن البطون الأربعة من قريش التي أسست حلف الفضول : هاشم ، تيم ، أسد ، البطون ، زهرة ، ولم يكونوا أقل غنى من سواهم من البطون الذين لم يشاركوا فيه .



وحتى يدعم أ . صالح نظرته الخاطئة لحلف الفضول نراه يقول ( ولهذا نشأ حلف الفضول بين هاشم وعبد المطلب وأسد وزهرة ، وهو حلف اتفقت فيه هذه القبائل على أن تنصر بعضها بعضاً ) ص 38. ومع التجاوز عن ذكر الباحث لبني عبد المطلب مع بني هاشم لأن الأخيرين يشملونهم فإنه ليس صحيحاً أن قبائل حلف الفضول ( اتفقت على أن تنصر بعضه بعضاً ) وكنا نرجو أن يدلنا الباحث على المرجع الذي استقى منه هذه العبارة والصحيح أن كتب السيرة اتفقت على أن عاقديه تغيوا منه نصرة أي مظلوم والتآسي في المعاش ، والقصد منهما استتباب الأمن ومحاولة تخفيف التمايز الطبقي لمنع انفجار الفئات المحرومة وهما هدفان يختلط فيهما الاقتصاد بالسياسة كما أوضحنا ، ولم يذكر واحد من كتب التراث ما ذكره الباحث وهو : أن هدف الحلف تناصر عاقديه ، وإذا كان هذا من اجتهاده فقد أخطأ لأن هذه البطون تربطها صلات النسب والمصاهرة والمصالح التجارية مما يجعلها في غنى عن عقد حلف بينها للتناصر ، والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن بداهة ، هذه البطون تتناصر ضد من ؟ هل ضد باقي بطون قريش ؟ أي قريش : قريش الظواهر أم قريش البطاح ؟ ومنذ متى تحاربت بطون قريش بعد أن ألف إذن يكون التناصر ؟ أما إن قال : التناصر ضد الأجنبي أو الغريب قلنا له : ولم تتناصر أربعة أبطن فقط دون باقي البطون ؟ .



إن الذي لا شك فيه أن الباحث خلط بين هذا الحلف وسابقيه حلف المطيبين وحلف الأحلاف . ومن الغريب أنه يعود فيذكر في موضع آخر أن في هذا الحلف ( تجار كبار وتجار صغار .. ) ومن المؤكد أن تكتل حلف الفضول ليس لوناً من الصراع الطبقي الخاص ، أنما هو تكتل سياسي تقوده نفس طبقة كبار التجار ) ص43 هكذا يوقن في نهاية المطاف بتهافت الأسباب التي حاول أن يعلل بها نشوء حلف الفضول ، وأخذ يؤكد الحقيقة التي ذكرناها في السابق والتي موجزها أن الحلف المذكور هو في الأساس تكتل سياسي ، القصد منه ملء الفراغ الذي خيم على ربوع مكة بعد وفاة هاشم وعبد المطلب ليستتب الأمن في مدينة القداسة والتجارة وأنه كان المعبر والمقدمة لـ " حكومة الملأ " التي كانت بدورها مقدمة لـ " دولة قريش " التي أسسها في يثرب محمد بن عبد الله بن عبد المطلب عليه الصلاة والسلام .



يتبع..ملأ قريش حكومة الملأ
11-14-2007, 05:09 PM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


الردود في هذا الموضوع
النزعات المادية في الفلسفة الاسلامية، لحسين مروة - بواسطة طريف سردست - 11-14-2007, 05:09 PM

المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع الكاتب الردود المشاهدات آخر رد
  العدد الجديد من مجلة أوراق فلسفية عن الفلسفة والثورة كريم الصياد 2 1,842 11-20-2012, 04:53 AM
آخر رد: كريم الصياد
  كُتب في الفلسفة والمنطق بصيغة exe فارس اللواء 3 1,856 04-27-2012, 07:06 PM
آخر رد: فارس اللواء
  نشأة الفلسفة العلمية ريشنباخ،ترجمة فؤاد زكريا pinno 1 2,336 10-21-2011, 02:23 AM
آخر رد: yasser_x
Wink حقيقة الحضارة الاسلامية، لفضيلة الشيخ ناصر بن حمد الفهد طريف سردست 4 3,008 09-27-2011, 03:19 PM
آخر رد: طريف سردست
  الجمهوريات الاسلامية بآسيا الوسطى منذ الفتح وحتى اليوم.بحجم 1 ميجا من اصل 37 ميجا ali alik 0 1,022 05-21-2010, 08:18 PM
آخر رد: ali alik

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 1 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS